الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          مقدمات يوم الفرقان

                                                          كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون

                                                          الآيات بعضها متصل ببعض، فهذه الآيات متصلة بما قبلها في النسق والبيان والموضوع، إذ كلها في مقدمات غزوة بدر ، والسير النفسي حتى تصل إلى نهايتها.

                                                          وقوله تعالى: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون

                                                          [ ص: 3068 ] ما موضع "كما" في التشبيه؟ ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري عدة تفسيرات، كلها تحتملها الآية، فذكر أنها متصلة باختلافهم في الأنفال، وأن الله تعالى انتزعها من أيديهم على رغبتهم فيها كذلك كما أخرجك ربك من بيتك بالحق بالأمر الثابت وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يقول الطبري في توضيح هذا المعنى: "ومعنى هذا أن الله تعالى يقول: كما أنكم لما اختلفتم في المغانم وتشاححتم فيها فانتزعها الله تعالى منكم وجعلها إلى قسمه، وقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقسمها على العدل فكان هذا هو المصلحة التامة لكم، وكذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء من قتال ذات الشوكة، وهم النفير الذين خرجوا لنصر دينهم، وإحراز عيرهم فكان عاقبة كراهتهم للقتال بأن قدره الله لكم، وجمع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد رشدا وهدى ونصرا وفتحا، كما قال تعالى: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون

                                                          وخلاصة المعنى أن الله يختبركم الآن كما اختبركم في الغنائم، فقد أخذها منكم وتولى النبي - صلى الله عليه وسلم - قسمتها بالعدل والمصلحة، كذلك اختبركم، فأخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - لذات الشوكة والمصلحة وإن فريقا من المؤمنين لكارهون

                                                          ونرى أن هذا التخريج مؤداه أن الله اختبركم بمنع نفوسكم من المشاقة في المال ترويضا على الصبر على هوى النفس، وقمعها عن شهواتها استعدادا للقتال، كذلك اختبركم بحمل أنفسكم على ما تكره ابتلاء بالصبر على المكاره، كما اختبركم بالصبر على رد هوى النفس، فكلاهما لا بد منه للجهاد.

                                                          ويذكر ابن جرير وجها آخر، فيقول: "قال آخرون: معنى ذلك: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق على كره من فريق من المؤمنين، كذلك هم كارهون للقتال، فهم يجادلونك فيه من بعد ما تبين لهم أنه الحق".

                                                          ومؤدى هذا أنهم وجد فيهم حال تردد أو على الأقل كراهية للقتال مرتين: مرة عندما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وهو الأمر الثابت الذي قامت الدواعي إليه، وكان ذلك للعير، ومرة أخرى عندما تعين القتال، وصار الأمر للنفير [ ص: 3069 ] لا للعير.

                                                          وإني أميل إلى التخريج الثاني لأنه يساوق اللفظ ولا يحتاج إلى تأويل، ولا تأباه الألفاظ، ومؤداه أنه كما وجد فريق من المؤمنين كاره للخروج من بيتك لتتبع العير - وجدت كراهية القتال عند إرادة الحرب، ويكون قوله تعالى: كما أخرجك ربك من بيتك متعلقا بقوله تعالى: يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون

                                                          ونقف هنا عند أمرين:

                                                          أولهما - أن الله تعالى ذكر الحق بالحق مرتين:

                                                          أولاهما - كما أخرجك ربك من بيتك أتى بالأمر الثابت الذي هو الحق في ذاته، والحق في رفع شأن الدين، والحق في مصلحة المؤمنين، والحق في أنه أمر الله تعالى وإرادته، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أراده من ذات نفسه، وإنما أراده الله تعالى له، وهو ربه الذي خلقه ورباه وهو أعلم بمصالحه ومصالح المؤمنين والإسلام، وإعزازه تعالى كلمة الحق، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا.

                                                          ثانيهما - عندما ذكر الجدال في قوله تعالى:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية