الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل من قبل وأن أكثركم فاسقون قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل

                                                          الكلام السامي موصول في بيان نهي المؤمنين عن أن يتخذوا نصراء من اليهود والنصارى وسائر الكفار، وفي هذا النص الكريم يبين سبحانه أن هؤلاء [ ص: 2256 ] اليهود والنصارى لا تصح موالاتهم لا للأسباب السابقة من أنهم يوالي بعضهم بعضا ولا يوالونكم، ومن أنه لا يواليهم إلا من يكون في قلبه مرض، ومن أن موالاتهم تؤدي إلى استحسان ما عندهم، وإن ذلك يؤدي إلى الارتداد، ولا من أن موالاتهم مناقضة لولاية الله ورسوله والمؤمنين، وهم الأولياء حقا وصدقا، لا تصح موالاتهم لهذه الأسباب فقط، بل لها ولأمر واقع منهم، مستمر فيهم، وهو الاستهزاء بدينكم، واللعب به، والعبث المستمر، ومن يواليهم وهم على هذه الحال، فقد تخلى عن دينه وإيمانه، ولقد قال تعالى: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الولي هنا النصير الموالي، وولي الأمر الكالئ الحامي، والأنيس الذي يرجى في الشدائد، ويرجع إليه في الكروب، والملجأ والمعاذ.

                                                          وقد قصرت الولاية على هؤلاء بأداة القصر "إنما"، والمعنى أن الله تعالى ورسوله والمؤمنين الصادقين في إيمانهم الذين لم يعترهم زيغ ولا ضعف، ولا استخذاء واستكانة للذل، واستسلام للأعداء، ولا ولي للمؤمن غير هؤلاء، فلا يصح للمؤمن أن يطلب بأي صورة النصرة من غيرهم; لأن قلوبهم مهما يكونوا مطوية على ضغن شديد، وحقد مستمكن، وهم لا يريدون بالإسلام وأهله إلا الهوان، بل الفناء.

                                                          وفي هذا النص عبرة للمعتبرين الذين يرتمون في أحضان أعداء الإسلام، ويوالونهم، وهم الذين يؤذون المسلمين، ويخرجونهم من ديارهم، ويظاهرون على إخراجهم، والنبي عليه السلام يقول: "المسلم أخو المسلم لا يحقره، ولا يظلمه، ولا يسلمه، ولا يخذله".

                                                          الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون هذه أوصاف المؤمنين الجديرين بأن يكونوا مع الله ورسوله في ولاية المؤمنين، وقد ذكرت لهم أوصافا [ ص: 2257 ] ثلاثة: كل واحد منها يومئ إلى معنى اجتماعي يدخل في تكوين الجماعة الربانية التي لا تعمل إلا لله، ولا تقوم إلا له، الوصف الأول إقامة الصلاة، أي: أداؤها مقومة كاملة لا اعوجاج فيها، لتؤدي غايتها وهي تربية الوجدان الاجتماعي الذي يكون معه الإيثار، والسيطرة على الأهواء المردية المخزية، وهي الصلاة التي قال الله تبارك وتعالى فيها: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر

                                                          والوصف الثاني أنهم يؤتون الزكاة، أي: يعطونها سمحة بها نفوسهم، راضية بعطائها قلوبهم يحسبون أن عطاءها مغنم لا مغرم، وذلك هو التعاون المادي المنبعث من القلب. وإذا كانت الصلاة مبعث التآلف الروحي، فالزكاة مظهر التعاون المادي الخالص.

                                                          والوصف الثالث ذكره سبحانه وتعالى بقوله: وهم راكعون

                                                          لقد قال كثير من المفسرين: إن هذه الجملة حالية من قوله تعالى: ويؤتون الزكاة أي: أن إعطاء الزكاة يكون في حال الركوع، ويقولون: إن سبب ذكر ذلك أن إمام الهدى عليا أعطى صدقة وهو راكع، ولا نرى ذلك; لأن ذلك قطع للصلاة وانصراف عنها، ولا يكون ذلك من علي كرم الله وجهه، وثانيا: أن اللفظ، ومؤدى ذلك أنه يكون محمودا من المؤمنين أن يؤدوا زكواتهم وهم يركعون ركوع الصلاة.

                                                          والذي نراه أن الركوع هنا ليس هو ركوع الصلاة المفروضة، إنما هو الخضوع المطلق لله تعالى في كل أعمالهم، في مصانعهم، ومتاجرهم ومزارعهم، وسياستهم، بحيث يكون كل شيء لله تعالى; ويتحقق فيهم قول النبي عليه السلام: "لا يؤمن أحدكم، حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله". سبحانه في الغدوات والروحات.

                                                          [ ص: 2258 ] جاء في مفردات الأصفهاني ما نصه: والركوع يطلق بمعنى الخضوع لله.

                                                          "الركوع: الانحناء، فتارة في الهيئة المخصوصة في الصلاة، كما هي، وتارة في التواضع والتذلل، وإما في غيرها. والله أعلم.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية