الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ثم بين سبحانه فقال بعد أن نفى أنه يأمر بالفحشاء:

                                                          قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون .

                                                          [ ص: 2813 ] ذكر الله تعالى في الآية السابقة أن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء، أي: لا يأمر بالأمر الذي يفحش، فلا تستطيع العقول المستقيمة المدركة أن ترضى به، وهنا يبين ما يأمر به سبحانه، فيقول: قل أمر ربي بالقسط وإن السياق يقتضي أن يكون ما أمر الله به نقيض الفحشاء، فالقسط هنا يفسر بأنه العدل، والعدل كل أمر في ذاته مستقيم تقره العقول ولا ينكره الذوق السليم، فالعدل يشمل العدل في الحكم، والعدل في الأقوال والأفعال، والاعتدال في كل ما يختار في الأمور، فلا يمتد إلى الحرمان، ولا إلى الاعتداء بله الإفحاش; ولذلك قال بعض المفسرين: إنه يشمل كل ما أمر الله به، فما يأمر إلا بما هو عدل، وما نهى إلا عما هو ظلم.

                                                          وقال أبو مسلم في تفسيره: إنه الطاعات كلها، والتعبير بالماضي في "أمر" فيه تكذيب لافترائهما وأنه لم يأمر به الله سبحانه، فالله - سبحانه وتعالى - ما أمر بالفحشاء، بل أمر بالقسط، وما به تستقيم الأمور في العقول.

                                                          ولقد صرح - سبحانه - بما يجب للمساجد من تعظيم، لا أن يطوفوا عراة بالمسجد الأعظم، الذي كرمه الله تعالى، وتشد إليه الرحال; ولذا قال تعالى: وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد

                                                          هذا أمر معطوف على خبر في الظاهر، ولكن قالوا: إن قوله تعالى: وأقيموا وجوهكم هنا "أن" مطوية في الكلام ومقصودة، والسياق هكذا: "أمر ربي بالقسط وبأن أقيموا وجوهكم عند كل مسجد".

                                                          وأقول: إن: "أقيموا" معطوف على " أمر" لأن "أمر" يتضمن معنى الطلب، فهو عطف طلب على طلب.

                                                          وإقامة الوجه عند كل مسجد هي الاتجاه إلى الله تعالى، مثل قوله تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا [الروم] والوجوه هي الذوات، أي اتجهوا إلى الله تعالى بكل أنفسكم عند كل مسجد، وكذلك ما يطلبه الله تعالى عند كل مسجد، مع توقير المساجد، وإعطائها حقها في الاحترام والإجلال، فلا يصح أن يكون فيها عري أو ما يكون رذيلة في ذاته، أو ما يبعث على الرذيلة، وأن يكون [ ص: 2814 ] الاحتشام هو الزي الأكمل، وإقامة الذات لله تعالى أن تكون خالصة له سبحانه، ومستشعرة خشيته وجلاله، وقرن هنا بالمسجد لكرامة المسجد كما ذكرنا; ولأنه رمز الصلاة، فإقامة الوجه في الصلاة بأن تكون مقومة فيها استحضار عظمة الله سبحانه في قراءتها وأدعيتها وكل حركاتها، لا يعمر القلب فيها غير الله تعالى.

                                                          وقرن - سبحانه وتعالى - الأمر بإقامة الوجوه لله بالأمر بالدعاء مخلصين له الدين، فقال تعالى: وادعوه مخلصين له الدين الأمر بالدعاء هو الأمر بالعبادة؛ لأن العبادة دعاء ، والدعاء في ذاته اتجاه إلى الله بضراعة وخشوع وخضوع، فقد أمر الله تعالى بمعاملة الناس بالقسط بين الناس، ثم أمر من بعد بإقامة الوجه لله تعالى بالانصراف إليها بذواتنا، بأن نجعل كل مشاعرنا وخلجات قلوبنا لله تعالى، بحيث لا نحب إلا لله، ولا نبغض إلا لله، وأن نكون ربانيين في أنفسنا، وعقولنا، وقلوبنا، ثم أمرنا من بعد أن نعبده وحده، قد خلصت قلوبنا له; ولذا قال: مخلصين له الدين والدين هنا الطاعة وكل العبادات.

                                                          مخلصين له كل هذا، بحيث لا نشرك في عبادته أحدا، فلا نعبد أحدا سواه، ولا نرائي في عبادته، فالرياء في العبادة هو الشرك الخفي، ولذا ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك " .

                                                          وقد قرن - سبحانه وتعالى - هذه الأوامر بالتحذير من عصيانه، والتذكير بالبعث، وأنه وراء البعث القيامة والحساب والثواب أو العقاب، ولذا قال تعالى: كما بدأكم تعودون

                                                          وفي هذا النص دعوة إلى الإيمان بالبعث وتذكير به، وهذا التذكير يحمل في نفسه دليله، و"الكاف" دالة على التشبيه، والمعنى: بهذا البدء بالخلق والتكون تعودون، أي يعيدكم كما بدأكم، ففي الآية ذكر للبعث، ودعوة إلى الإيمان به، والدليل عليه بقياس الإعادة على الإنشاء، وأنه أهون، والله على كل شيء قدير،

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية