الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 138 ] حرف القاف قست قلوبكم [البقرة: 74] : يبست وصلبت، وقلب قاس، وجاس، وعاس، وعات، أي: صلب يابس جاف عن الدين غير قابل له.

وهذا الخطاب لبني إسرائيل لقبح قساوة قلوبهم بعد رؤيتهم للآيات، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، ولم يقل: أقسى مع أن فعل القسوة يبنى منه أفعل، لكون أشد أدل على فرط القسوة.

قفينا [البقرة: 87] : مأخوذ من القفا، أي: جاء بالثاني في قفا الأول.

وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء [البقرة: 113] : سببها اجتماع نصارى نجران مع يهود المدينة، فذمت كل طائفة الأخرى، وهذا أيضا منهم موجود في هذا الزمان؛ فإن كل طائفة منهم مقرة بأن الإسلام خير من دين الفريق الآخر.

قال الذين لا يعلمون [البقرة: 113] : هم هنا وفي الموضع الأول كفار العرب على الأصح، وقيل: هنا: هم اليهود والنصارى.

قال الذين من قبلهم [البقرة: 118] : يعني اليهود والنصارى على القول بأن الذين لا يعلمون كفار العرب.

وأما على القول بأن الذين لا يعلمون اليهود والنصارى فالذين من قبلهم أمم الأنبياء المتقدمين.

قد بينا الآيات [البقرة: 118] : أخبر تعالى أنه قد بين الآيات الدالة على وحدانيته وعلى صدق رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فكيف تطلب الآيات بعد بيانها؟! [ ص: 139 ] إنما فهمها الذين يوقنون، ولذلك خصهم بالذكر بخلاف الكفار المعاندين، فإنهم لا تنفعهم الآيات لعنادهم.

قانتون [البقرة: 116] : القنوت له خمسة معان: العبادة، والطاعة، والقيام في الصلاة، والدعاء، والسكوت.

قضى [البقرة: 117] : ورد على أوجه: الفراغ: فإذا قضيتم مناسككم [البقرة: 200] .

والأمر: " إذا قضى أمرا " [البقرة: 117] .

والأجل: فمنهم من قضى نحبه [الأحزاب: 23] .

والفصل: لقضي الأمر بيني وبينكم [الأنعام: 58] .

والمضي: ليقضي الله أمرا كان مفعولا [الأنفال: 42] .

والهلاك: لقضي إليهم أجلهم [يونس: 11] .

والوجوب: لما قضي الأمر [إبراهيم: 22] .

والإبرام: إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها [يوسف: 68] .

والإعلام: وقضينا إلى بني إسرائيل [الإسراء: 4] .

والوصية: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه [الإسراء: 23] .

والأداء والوفاء: ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت [القصص: 28] ، يعني أديت ووفيت.

والفراغ: قضي الأمر الذي فيه تستفتيان [يوسف: 41] ، أي: فرغ ومضى.

والحكم: والله يقضي بالحق [غافر: 20] ، أي: يحكم.

والموت: فلما قضينا عليه الموت [سبأ: 14] .

والخلق: فقضاهن سبع سماوات في يومين [فصلت: 12] .

والفعل: كلا لما يقض ما أمره [عبس: 23] ، يعني حقا لم يفعل.

والعهد: إذ قضينا إلى موسى الأمر [القصص: 44] .

" قواعد " [البقرة: 127] البيت : أساسه.

والقواعد من النساء، التي قعدت عن الولد.

وقيل: التي إذا رأيتها استقذرتها.

وقيل: قعدت عن التصرف.

" قيوم " [البقرة: 255] : من أسماء الله تعالى، وزنه فيعول.

ومنه بناء مبالغة، من القيام على الأمور.

ومعناه، مدبر الخلائق في الدنيا والآخرة.

[ ص: 140 ] ومنه: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت [الرعد: 33] .

قال الواسطي: القيوم هو الذي لا ينام بالسريانية.

" قدر " : له خمسة معان: من القدرة، ومن القدير، ومن المقدار، ومن القدر والقضاء، وبمعنى التضييق، نحو: ومن قدر عليه رزقه [الطلاق: 7] .

وقد يشدد الفعل ويخفف.

والقدر - بفتح الدال وإسكانها القضاء والمقدار.

وبالفتح لا غير من القضاء.

قوامون [النساء: 34] : قام له ثلاثة معان: من القيام على الرجلين، ومن القيام على الأمر بتدبيره وإصلاحه، وهذا بناء مبالغة، وقام الأمر: ظهر واستقام، ومنه: الدين القيم [التوبة: 36] .

قال ابن عباس: الرجال أمراء على النساء.

قانتات [النساء: 34] ، أي النساء الصالحات في دينهن مطيعات لأزواجهن، أو مطيعات لله في حق أزواجهن.

قتلنا المسيح عيسى ابن مريم [النساء: 157] : هذا من قول اليهود على وجه الافتخار والجرأة مع أنهم كذبوا في ذلك ولزمهم الذنب وهم لم يقتلوه، بل صلبوا الشخص الذي ألقي عليه شبهه وهم يعتقدون أنه عيسى.

وروي أن عيسى قال للحواريين: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل ويكون رفيقي في الجنة؟ فقال أحدهم: أنا، فألقي عليه شبهعيسى، فقتل على أنه عيسى.

وقيل: بل دل على عيسى يهودي، فألقى الله شبه عيسى عليه، فقتل على أنه عيسى، ورفع عيسى إلى السماء.

وسبب قتلهم له أنهم قالوا في عيسى: إنه ساحر فاغتم لذلك ودعا عليهم.

فجعل الله منهم قردة وخنازير، فبلغ الخبر إلى ملكهم، وخاف من دعائه، فأمر بقتله.

ويقال: إن اسم الرجل الذي ألقي عليه شبه عيسى اشيوع، وهكذا وقع - لنبينا -صلى الله عليه وسلم- حين اجتمعت قريش لقتله، قال لعلي رضي الله عنه: ارقد في مكاني [ ص: 141 ] حتى تدخل عليك قريش، ويريدون قتلك، فإن قتلت كنت رفيقي في الجنة.

فدخلوا عليه فوجدوه عليا، وانقلبوا خاسئين، ولم يقدروا على شيء، فقال الله لجبريل وميكائيل: انظرا إلى حبيبي كيف فداه ابن عمه، وعزتي وجلالي لأجعلن اليهود والنصارى فداء لأمة حبيبي، إني أردت رفع عيسى إلي، فجعلت إيذاء اليهود سببا لذلك، كذلك أجعل وسوسة اللعين سببا لإغوائهم وأرحمهم مع ذلك.

فانظر هذه الرحمة النازلة عليك يا محمدي.

ورحم الله القائل: لولا المؤمن لضاعت جنة النعيم، ولولا الكافر لضاعت نار الجحيم، ولولا المعاصي لضاعت رحمة الرحيم.

والقناطير المقنطرة [آل عمران: 14] : جمع قنطار، وهو ألف ومائتا أوقية.

وقيل: ألف ومائتا مثقال، وكلاهما مروي عنه -صلى الله عليه وسلم-، وأكدها بالمقنطرة كقولهم: ألف مؤلفة.

وقيل: المضروبة دنانير أو دراهم.

وقال الفراء: المقنطرة المضعفة، كأن القناطير ثلاثة والمضعفة تسعة.

قرح [آل عمران: 140] أي: جراح، ومعنى الآية: إن مسكم قتل أو جراح في أحد فقد مس الكفار مثله في بدر.

وقيل: قد مس الكفار يوم أحد مثل ما مسكم فيه، فإنهم نالوا منكم ونلتم منهم، وذلك تسلية للمؤمنين بالتأسي.

قد خلت من قبلكم سنن [آل عمران: 137] : خطاب للمؤمنين وتأنيس لهم.

وقيل: للكفار تخويفا لهم.

قالوا كنا مستضعفين في الأرض [النساء: 97] : اعتذار عن التوبيخ الذي وبختهم الملائكة، أي: لم يقدروا على الهجرة، وكان اعتذارا بالباطل.

ولذلك قالوا لهم: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها [النساء: 97] .

قوامين لله شهداء بالقسط [المائدة: 8] أي: بالعدل مجتهدين في إقامته.

[ ص: 142 ] فإن قلت: ما فائدة تقديم القسط في آية النساء [135] ، وتأخيره في آية المائدة؟

والجواب: آيات النساء مبنية على الأمر بالعدل والقسط، قال تعالى: من يعمل سوءا يجز به [النساء: 123] الآية.

وقال بعد: ويستفتونك في النساء [النساء: 127] ، ثم قال: وأن تقوموا لليتامى بالقسط [النساء: 127] ، وتوالت الآي بعد على هذا المعنى، فقدم القسط ليناسب ما ذكر.

وأما آية المائدة فذكر قبلها الأمر بالطهارة، ثم تذكيره سبحانه بتذكر نعمته.

والوقوف مع ما عهد به إلى عباده والأمر بتقواه، فناسب قوله: كونوا قوامين لله ، ثم اتبع لما بني على ذلك من الشهادة بالقسط.

فتأمل ما بني على هذه وما بني على آية النساء يتضح لك ما قلت.

قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين [المائدة: 112] : هذا من قول عيسى للحواريين حين سألوه نزول المائدة، ويحتمل أن يكون زجرا لهم عن طلبها واقتراح الآيات.

ويحتمل أن يكون زجرا عن الشك الذي يقتضيه قولهم: هل يستطيع ربك على مذهب الزمخشري، أو عن البشاعة التي في اللفظ، وإن لم يكن فيه شك.

وقوله: إن كنتم مؤمنين هو على ظاهره على مذهب الزمخشري.

وأما على مذهب ابن عطية وغيره فهو تقرير لهم، كما نقول: افعل كذا إن كنت رجلا.

ومعلوم أنه رجل.

وقيل: إن هذه المقالة صدرت منهم في أول الأمر قبل أن يروا معجزات عيسى.

قالوا نريد أن نأكل منها [المائدة: 113] .

أي: أكلا نتشرف به بين الناس، وليس مرادهم شهوة البطن.

قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء [المائدة: 114] .

أجابهم عيسى إلى سؤال المائدة من الله، فلبس جبة شعر وقام يصلي ويدعو ويبكي.

قال الله إني منزلها عليكم [المائدة: 115] : أجابه الله إلى ما طلب، [ ص: 143 ] ونزلت المائدة عليها خبز وسمك.

وقيل: زيت ورمان.

وقال ابن عباس: كان طعام المائدة ينزل عليهم حيثما نزلوا.

والكلام في قصة المائدة كثير تركته لعدم صحته.

قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس [المائدة: 116].

قال ابن عباس والجمهور: هذا القول من الله يكون يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، ليرى الكافر تبرئة عيسى مما نسبوه إليه، ويعلمون أنهم كانوا على باطل.

وقال السدي: لما رفع الله عيسى إليه قالت النصارى ما قالت، وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك، فسأله الله حينئذ عن ذلك.

وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا [الأنعام: 29] : حكاية قولهم في إنكار البعث الأخروي.

قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها [الأنعام: 31] : الضمير ب: " فيها " للحياة الدنيا؛ لأن المعنى يقتضي ذلك وإن لم يجر لها ذكر.

وقيل: للساعة، أي: فرطنا في شأنها والاستعداد لها.

والأول أظهر.

قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون [الأنعام: 33] : قرئ يحزن حيث وقع بضم الياء من أحزن إلا قوله: لا يحزنهم الفزع الأكبر [الأنبياء: 103] .

وقرأ الباقون بفتح الياء من حزن الثلاثي، وهو أشهر في اللغة، والذي يقولون: قولهم: شاعر ساحر كاهن.

قراطيس [الأنعام: 91] : هي الصحائف.

قال الجواليقي: يقال إن القرطاس أصله غير عربي.

ومعنى هذه الآية أن الله رد بها على اليهود بأنه ألزمهم ما لا بد لهم منه؛ لأنهم أقروا بإنزال التوراة على موسى.

وقيل: القائلون قريش، وألزموا ذلك؛ لأنهم كانوا مقرين بالتوراة.

قد جاءكم بصائر من ربكم [الأنعام: 104] : جمع بصيرة، وهي نور القلب، والبصر: نور العين، وهذا الكلام على لسان نبينا -صلى الله عليه وسلم- لقوله: وما أنا عليكم بحفيظ [هود: 86] .

[ ص: 144 ] قائلون [الأعراف: 4] : من القائلة.

قليلا ما تذكرون [الأعراف: 3] ، انتصب قليلا ب: " تذكرون " ، أي: تذكرون تذكرا قليلا، وما زائدة للتأكيد.

قالوا إنا كنا ظالمين [الأعراف: 5] : اعتراف منهم بأنهم كانوا ظالمين لما جاءهم العذاب، ولو اعترفوا قبل ذلك لنفعهم.

" قاسمهما " [الأعراف: 21] ، من القسم، وهو الحلف، وذكر قسم إبليس لآدم وحواء بصيغة المفاعلة التي تكون بين اثنين؛ لأنه اجتهد فيه، أو لأنه أقسم لهما وأقسما له أن يقبلا نصيحته.

" ( قبيله ) " الأعراف: 27] : أمته.

ومعنى الآية أن إبليس وجماعته يرى الإنسان من حيث لا يرونهم في الغالب؛ لأنه قد جاءت في رؤيتهم أحاديث كثيرة، فتحمل الآية على الأكثر جمعا بينه وبين الأحاديث، وفي الآخرة يراهم الإنسان ولا يرونهم، عكس الدنيا، فسبحان من قلب الحقائق.

قالوا وجدنا عليها آباءنا [الأعراف: 28] : اعتذروا بعذرين باطلين: أحدهما تقليد آبائهم، والآخر افتراؤهم على الله بأنه أمرهم، فرد الله عليهم أنه لا يأمر بالفحشاء.

قالت أخراهم لأولاهم [الأعراف: 38] : قد قدمنا أن الأولى هم الرؤساء والقادة، والأخرى هم الأتباع والسفلة، والمعنى أن أخراهم طلبوا من الله أن يضاعف العذاب لأولاهم؛ لأنهم أضلوهم.

وليس المعنى أنهم قالوا لهم ذلك خطابا لهم، إنما هو كقوله: قال فلان لفلان كذا، أي: قال عنه وإن لم يخاطبه به.

قال أولو كنا كارهين [الأعراف: 88] : الهمزة للاستفهام والإنكار، والواو للحال، تقديره: أنعود في ملتكم وما يكون لنا أن نعود فيها ونحن كارهون.

[ ص: 145 ] وهذا الخطاب من شعيب لقومه لما قالوا له: لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا .

فإن قلت: العود إلى الشيء يقتضي أنه فعل قبل ذلك، وهذا محال في حق الأنبياء قبل الرسالة؟

والجواب أن "عاد" قد تكون بمعنى صار، فلا تقتضي تقدم ذلك الحال الذي صار إليه، قاله ابن عطية.

وقال الزمخشري: إن المراد بذلك الذين آمنوا بشعيب، وإنما أدخلوه في الخطاب معهم بذلك كما أدخلوه في الخطاب معهم بقولهم: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا ، فغلبوا في الخطاب بعود الجماعة على الواحد، وبمثل ذلك لا يجاب على قوله: إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا [الأعراف: 89] .

فإن قلت: ما معنى هذا الاستثناء من شعيب مع علمه بعصمته، وأنه لا يعود فيها، ولا يريد الله ذلك منه؟

والجواب: ما قدمناه من أن الأنبياء يتبرؤون من إسناد الأمور إليهم ويتأدبون مع الله.

فإن قلت: ما المانع من أن الكفار ادعوا على الرسل أنهم كانوا قبل البعثة على ملتهم وافتروا عليهم ذلك؟

والجواب: يمنع منه أن هذا أمر مشاهد حسي، وليس بعقلي، وقالوا في أصول الفقه: إن عدد التواتر يقع في الأمر الحسي بخلاف العقلي، فلو أقر عشرون ألفا بعدم العالم لما قبل قولهم بخلاف ما لو أخبر جماعة بقدوم زيد، فإنا نقبل قولهم على الكذب فيه.

وأما الأول فالعقل يكذبهم، نعم يحتمل أن يكون العود على حقيقته لاحتمال كون الرسل لم يظهروا لهم قبل البعثة أنهم مخالفون لدينهم، فلما بعثوا إليهم أظهروا المخالفة.

[ ص: 146 ] فإن قلت: إخراجهم إياهم من أرضهم عقوبة ناشئة عن عدم العود، فهلا قالوا: لتعودن في ملتنا أو لنخرجنكم من أرضنا؟ فالجواب أن المقام مقام التخويف، فلذلك بدأوا بالإخراج.

قال الملأ من قوم فرعون [الأعراف: 109] : حكى الكلام هنا عن الملأ، وفي الشعراء [34] ، عن فرعون، فكأنه قد قاله هو وهم، أو قاله هو ووافقوه عليه كعادة جلساء الملوك في اتباعهم لما يقولون لهم.

قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين [الأعراف: 113] : هذا من قول السحرة، طلبوا الأجر من فرعون إن غلبوا موسى.

فإن قلت: لم ورد هنا مجيء السحرة عقب قوله: يأتوك بكل ساحر عليم [الأعراف: 112] ، وأخر جمعهم ومجيئهم في الشعراء، فقال: فجمع السحرة [الشعراء: 38] : الآيات المذكورة فاصلة؟ فالجواب أن فيها إطنابا يناسبه ما تقدم من ذلك في مجاورة موسى عليه السلام ومكالمته فرعون من لدن قوله تعالى: وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين [الشعراء: 10] .

إلى هذه الآية، ولم يقع في قصصه عليه السلام في السور الوارد فيها قصصه من الإحالة في مراجعة فرعون مثل الوارد هنا، فناسب ما أعقب به مما لم يقع الإخبار به في الأعراف.

ولما كان الوارد قبل آية الأعراف مبنيا على الإيجاز وتحصيل المراد بأوجز كلام - ناسبه إيجاز الآية المذكورة، وورد كل من ذلك على ما يجب ويناسب.

قال نعم وإنكم لمن المقربين [الأعراف: 114] : لما طلبوا الجعل من التقريب من فرعون أنعم لهم بذلك، فهذا عطف على معنى نعم.

كأنه قال للسحرة: نعطيكم أجركم، ونقربكم، واسم رئيسهم يومئذ شمعون أو يوحنا.

فإن قلت: ما وجه حذف "إذا" هنا وإثباتها في الشعراء؟

والجواب أن ذلك من الإطناب المذكور، وأيضا فهي مضمرة مقدرة، [ ص: 147 ] ومعناه: إن غلبتم قربتكم، ورفعت منزلتكم، فهي جزاء.

وورد في الشعراء مفصحا، ليناسب بزيادتها ما مضت عليه آي هذه السورة من الاستيفاء والإطناب.

قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين [الأعراف: 115] : "أن" هنا في موضع نصب، أي: إما أن تفعل الإلقاء.

ويحتمل أن تكون في موضع رفع، أي: إما هو الإلقاء.

وخير السحرة موسى في أن يتقدم في الإلقاء أو يتأخر، وهذا فعل العدل الواثق بنفسه.

والظاهر أن التقدم في التخييلات والمخارق أحجج؛ لأن بديهتها تمضي في النفوس، فلما أراد الحق أن يظهر نبوءة موسى قوى نفسه ويقينه، ووثقه بالحق، فأعطاهم التقدم، فبسطوا وسروا حتى أظهر الله الحق وأبطل سعيهم.

فإن قلت: ما معنى اختلاف كل السحرة وتخييرهم في الإلقاء؟

والجواب لأنه كان في موطنين، أو لعله كان قد تكرر منهم، أو لعل بعضهم قال هذا وبعضهم هذا، أو لعل المعنى الذي حكي عنهم تعطيه العبارتان، وهذا أقرب شيء لما بين اللغات من اختلاف المقاصد عند الواضع الأول، أو قصد الإيهام على الخلاف في ذلك، ومع هذه الإمكانات يسقط الاعتراض رأسا.

قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم [الأعراف: 123] .

هذا قول فرعون دليل على وهن أمره؛ لأنه إنما جعل إذنهم مفارقا لإذنه، ولم يجعله نفس الإيمان إلا بشرط.

والضمير في "به" يحتمل أن يعود على اسم الله تعالى، ويحتمل أن يعود على موسى عليه السلام، وعنفهم على الإيمان قبل إذنه ثم ألزمهم أن هذا كان من اتفاق منهم، فقال لهم موسى: إن غلبتكم أتؤمنون بي، فقالوا له: نعم، فعلم بذلك فرعون، فلهذا قال: إن هذا لمكر مكرتموه [الأعراف: 123] ، أي: صنيع صنعتموه في مصر، لتستولوا عليها، فلسوف تعلمون ما أفعل بكم.

فإن قلت: ما وجه إظهار اسم فرعون في هذه الآية [الأعراف: 123] ، وحذفه من طه [71]؟ [ ص: 148 ] والجواب: لأنه تقدمها قوله: قال الملأ من قوم فرعون [الأعراف: 109] ، فعرفت هذه الآية أنهم كانوا متولين للتجربة من تكذيب الآية، ورد ما جاء به موسى عليه، ولم يجر هنا ذكر لفرعون ولا فيما يلي الآية ويتلوها من المجاورة والمراجعة بين الملأ وأتباعهم إلى قوله: رب موسى وهارون ، فلما لم يقع إفصاح باسمه في هذه الجملة مع أنه ليس القائل على كل حال: آمنتم به غير فرعون وإن بعد ذلك، ولو لم يكن ليس ألبتة، فإن كونه لم يجر له ذكر مما يقتضي أن يذكر.

ولما تقدم في سورة طه أمر موسى عليه السلام بإرساله إلى فرعون في قوله تعالى: اذهب إلى فرعون إنه طغى [طه: 24] ، وقوله لموسى وهارون: اذهبا إلى فرعون إنه طغى [طه: 43] ، ثم كرر ذلك، ثم وقع بعد ذلك سؤال فرعون لهما في قوله: فمن ربكما يا موسى [طه: 49] ، فتكرر اسم فرعون ظاهر ومضمر، ولم يجر للملأ به ذكرا مفصحا به ظاهرا ألبتة ولا مضمرا سوى الجاري مضمرا في قوله: فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا إن هذان لساحران [طه: 62، 63] ، إلى ما بعد هذا - من غير إظهار ألبتة، فلتكرر اسم فرعون كثيرا ظاهرا ومضمرا، وارتفاع اللبس ألبتة، حسن إتيانه مضمرا في قوله: قال آمنتم له ، إذ ليس الوارد هناك كالوارد في الأعراف للافتراق من حيث ما ذكرنا.

فقد جاءكم الفتح [الأنفال: 19] : إن كان الخطاب للكفار فالفتح هنا بمعنى الحكم، أي: قد جاءكم الفتح الذي حكم الله عليكم بالهزيمة والقتل والأسر، وإن كان الخطاب للمؤمنين فالفتح هنا يحتمل أن يكون بمعنى الحكم؛ لأن الله حكم لهم، أو بمعنى النصر.

قالوا سمعنا وهم لا يسمعون [الأنفال: 21] أي: سمعنا بآذاننا، وهم لا يسمعون بقلوبهم، فسماعهم كلا سماع.

[ ص: 149 ] وقاتلوا المشركين كافة [التوبة: 36] ، أي: في الأشهر الحرم، فهذا نسخ لتحريم القتال فيها.

"وكافة" حال من الفاعل أو المفعول.

وقالوا لا تنفروا في الحر [التوبة: 81] : قائل هذه المقالة رجل من بني سلمة ممن صعب عليه السفر إلى تبوك في الحر، فأمر الله نبيه أن يقول: قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون [التوبة: 81] ، فحرارة هذا السفر دفعت حر نار جهنم، وكذلك الجوع والتعب الذي ينال الإنسان في الدنيا يقابل في الآخرة بضده.

وقعد الذين كذبوا الله ورسوله [التوبة: 90] : هم قوم لم يعتذروا وكذبوا في دعواهم الإيمان؛ إذ لو كانوا صادقين لم يتخلفوا عن رسول الله، فأخبر الله رسوله بأنه سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم.

وقدره منازل [يونس: 5] : الضمير للقمر، والمعنى قدر سيره في المنازل، ليعلموا عدد السنين والأشهر والأيام والليالي، ويكون القدر بمعنى التقدير، كقوله تعالى: إنا كل شيء خلقناه بقدر [القمر: 49] .

وبمعنى التصوير، كقوله تعالى: فقدرنا فنعم القادرون [المرسلات: 23] ، يعني صورنا، وبمعنى الوجود، كقوله تعالى: إلا امرأته قدرناها من الغابرين [النمل: 57] ، وبمعنى القضاء، كقوله تعالى: فالتقى الماء على أمر قد قدر [القمر: 12] .

وبمعنى التضييق، كقوله: ومن قدر عليه رزقه [الطلاق: 7] ، فظن أن لن نقدر عليه [الأنبياء: 87] .

وبمعنى التسوية، كقوله تعالى: نحن قدرنا بينكم الموت [الواقعة: 60] .

وبمعنى المثل، كقوله تعالى: فسالت أودية بقدرها [الرعد: 17] أي: بمثلها، ومنه سميت القدرية قدرية؛ لأنهم يقولون بمثل قول المجوس، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: القدرية مجوس هذه الأمة.

قدم صدق عند ربهم [يونس: 2] ، أي: عمل صالح قدموه.

[ ص: 150 ] وقال ابن عباس: السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ.

وقيل: غير هذا.

والظاهر أنه محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن أمته قدموه بين أيديهم.

قال الكافرون إن هذا لساحر مبين [يونس: 2] : يعنون به ما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- من القرآن، وعلى قراءة - الساحر- فيعنون به سيدنا ومولانا محمدا -صلى الله عليه وسلم-، ويحتمل أن يكون كلامهم هذا تفسيرا لما ذكر قبل من تعجبهم من النبوءة، أو يكون خبرا مستأنفا.

قادرون عليها [يونس: 24] ، أي: متمكنون من الانتفاع بها.

قتر [يونس: 26] ، أي: غبار يغبر الوجه، وهذا كقوله تعالى: ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة [عبس: 40 ، 41].

والقتور من التقتير.

قوما صالحين [يوسف: 9] ، أي: بالتوبة والاستقامة، وقيل: صالحين مع أبيهم يعقوب، فانظر كيف سوفوا التوبة، وعلموا أنهم أخطئوا الصواب، ولا ينسب لهم الخطأ؛ لأنهم صلوات الله وسلامه عليهم وقع منهم هذا قبل النبوءة لا بعدها.

قال لا يأتيكما طعام ترزقانه [يوسف: 37] ، تقتضي أنه وصف لهما نفسه بكثرة العلم، ليجعل ذلك وصلة إلى دعائهما لتوحيد الله، وفيها وجهان: أحدهما أنه قال ذلك يخبرهما بكل ما يأتيهما في الدنيا من طعام قبل أن يأتيهما، وذلك من الإخبار بالغيوب الذي هو معجزة الأنبياء.

والآخر أنه قال: لا يأتيكما طعام في المنام أخبرتكما بتأويله قبل أن يظهر تأويله في الدنيا.

وقال الذي نجا منهما [يوسف: 45] : هو ساقي القوم.

قليلا مما تأكلون [يوسف: 47] ، أي: لا تدرسوا منه إلا ما يحتاج للأكل خاصة خوف ضياعه.

وقال الملك ائتوني به [يوسف: 50] : قبل هذا محذوف، وهو: فرجع [ ص: 151 ] الرسول إلى الملك فقص عليه مقالة يوسف، فرأى علمه وعقله، فقال: ائتوني به.

قال ارجع إلى ربك فاسأله [يوسف: 50] .

لما أمر الملك بإخراج يوسف من السجن وإتيانه إليه أراد يوسف أن يبرئ نفسه مما نسب إليه من مراودة امرأة العزيز عن نفسه، وأن يعلم الملك وغيره أنه سجن ظلما، فذكر طرفا من قصته لينظر الملك فيها، فيتبين له الأمر، وكان هذا الفعل من يوسف صبرا وحلما، إذ لم يجب إلى الخروج من السجن ساعة دعي إلى ذلك بعد طول المدة.

فإن قلت: قد قال سيدنا -صلى الله عليه وسلم-: "رحم الله أخي يوسف، لو لبثت في السجن ما لبث فيه لأجبت الداعي".

وهذا يقتضي أن الإجابة أولى من المكث فيه؟

والجواب أن هذا عنه -صلى الله عليه وسلم- على جهة المدح ليوسف والتواضع منه -صلى الله عليه وسلم-، وإلا فصبر يوسف في السجن فيه فوائد، منها: إظهار منزلته عند الملك وتبرئته مما قيل، وليزداد منزلة عنده فيصير سائسا للدولة وحافظا، ألا تراه كيف قال: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم [يوسف: 55] ، وإنما طلب منه الولاية شفقة على عباد الله، ورغبة في العدل، وإقامة الحق والإحسان إلى الضعفاء من عباد الله؛ لأن هذا الملك كان كافرا فأسلم لما رأى من حسن سيرته، وكم له في هذه الولاية من المصالح الدينية والدنيوية، والمراد بخزائن الأرض أرض مصر؛ لأن الملك لم يملك غيرها، فتأس يا محمدي بهذه الأخلاق الكريمة، واجتهد في إصلاح هذه الأمة: وقر كبيرهم، وارحم صغيرهم، وتجاوز عن مسيئهم، ألا ترى الصديق لم يذكر امرأة العزيز مع ما كان منها من الإساءة، بل ذكر النسوة اللاتي قطعن أيديهن، وعفا عن إخوته فيما صدر منهم، هكذا أولو العزم في معاملتهم مع أمة نبيهم، تعلموا منه الصفح والإحسان، فعاملوا أمته بستر ذوي العصيان والدعاء لهم بالرحمة والإحسان، راجين بذلك معاملة الله لهم، وكما تدين تدان.

[ ص: 152 ] فإن قلت: هل يجوز لنا الاقتداء بمدح يوسف لنفسه؟

والجواب أنه مدح الصفتين اللتين أودعهما الله فيه، فالمدح إنما هو لله لا لنفسه، ولولا ذلك لهلك الخلق.

وقد أخبره الله أن صلاح هؤلاء العامة إنما يكون بسببه لصبره على بلائه، وكذلك أنت يا محمدي إذا جهل أمرك، ورجوت صلاح إخوانك، فلا ينبغي لك السكوت، لما فيه من المصلحة، هذا إن رجوت بذلك منفعة غيرك، ولذلك استحب للعلماء لبس الجيد، والتشبه بأرباب الدنيا؛ لأن العامة لا تقبل كلام رث الهيئة، ولا تلتفت إليه، فضلا عن سماع كلامه، ورضي الله عن السيد الذي طولب بولاية القضاء ففر منها، فلما كان بغد أعطي ألف دينار، فقال له الملك: بالأمس هربت منها، والآن أرشيت عليها، فقال: بالأمس كان غيري أولى بها، والآن أعتقت هذه الأمة ممن يريد أكلها، هكذا كانوا رضي الله عنهم، يراعون مصلحة الأمة رعيا لنبيها، ويرحمونها لوصيته عليها.

فيا أبناء الطريقة ورجال الحقيقة، استوصوا خيرا بهذه الخليقة، وخصوصا بهذه الأمة، فاخفضوا لها جناح الذل من الرحمة ولا توحشوها ما أنستها من ربها ونبيها، وعاملوا الكل على الإطلاق بمكارم الأخلاق، صلوا من قطعكم، وأعطوا من حرمكم، واعفوا عمن ظلمكم، وإن لم يكونوا لها أهلا فكونوا أنتم لها أهلا.

قال إني أنا أخوك [يوسف: 69] .

أي: قال يوسف لأخيه: إني أنا أخوك واستكتمه الأمر.

وحبسه بتهمة السرقة، فكتب إليه يعقوب وقال لموصله: انظره؛ فإن نظر فيه وتغير لونه فاعلم أنه يوسف، ثم قال له في كتابه: إن الله اصطفاك فاستحال عليك اسم السرقة، كذلك من اصطفاه الله يستحيل أن تنسبه إلى السرقة، فلما نظر يوسف إلى الكتاب تغير لونه، فقال للرسول: مثل هذا الكتاب لا يقرأ إلا في الخلوة، ثم قرأه وبكى كما قدمنا.

وأنت يا محمدي اصطفاك ربك في الأزل، وأخرجك في خير الملل، وبعث إليك خاتم الأنبياء والرسل، وخاطبك بكتابه الذي ليس له مثل، فامتهنته ولم تلتفت إليه، بل وصفت نفسك بشر الخصال، وعرجت عليه كأنك لم تصدق [ ص: 153 ] بالمآل، ولم تعرف أنك ترض عليه عند الموت ويوم السؤال، وتطالب - مع هذا الجور والقصور - بالتنعم باللذات والحبور، أنت تعلم ما تقاسي على صفة منتنة، وما تحتاج إليه من مؤونة، وتريد الوصول إلى الجواري الحسان اللاتي لم يطمثهن إنس ولا جان، هؤلاء الملائكة مع جليل قدرهم، وكثرة عبادتهم، يقولون يوم القيامة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، ولو استكثرت أعمالها لتباعدت من خالقها، يقول تعالى في بعض كتبه: "أيطلب أحدكم الجنة بقيام الليل، والحارس يحرس ليلة بدانقين، فكيف يمن علي بليلة، وهي تساوي دانقين، أخذت بزي كسرى وقيصر، وتريد أن ترافق أحبابي! ويحك اعرض نفسك على كتابي تجد فيه وصف أحبائي وأعدائي، وانظر إلى أي الصنفين أنت أقرب، فإنك بهم يوم القيامة تلحق.

كيف تأمن مكري، أو تطلب جواري، ولست تدري في أي الفريقين أنت يوم الميثاق حيث قلت: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي، أم حين خلقتك في ظلمات ثلاث، وكتب عليك ملك الأرحام بالشقاوة أو السعادة، أو يوم المطلع حين تبشر برضائي أو سخطي، أم يوم يصير الناس أشتاتا، ولا تدري أي الطريقتين تسلك، فمحقوق صاحب هذه الأخطار ألا يلتفت إلى الأغيار، ولا يتشبه بالأحرار، ما حيلتك إذا اضطجعت في حفرتك، وانصرف المشيعون من جيرانك، وبكى كل غريب عليك لغربتك، ودمع عليك المشفقون من عشيرتك، وناداك من شفير القبر ذو مودتك، ورحمك المعادي عند صرعتك، ولم يخف على الناظرين عجر حيلتك، فإن كنت عندي حبيبا، وإلي قريبا، أحسن ضيافتك، وأكون أشفق من قرابتك، وأقول لملائكتي: فريد قد نعاه الأقربون، ووحيد قد جفاه الأهلون، فأشفقوا عليه وارحموه، ويا هوام لا تقربوه، ويا أرض توسعي عليه ولا تؤذيه، ويا رضوان افتح عليه من نعيم ما يؤنسه ويغذيه، هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون .

قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا [يوسف: 78] : [ ص: 154 ] هذا الكلام من إخوة يوسف على وجه الاستعطاف؛ لأنهم كانوا أعلموه بشدة محبة أبيه.

قال كبيرهم [يوسف: 80] ، أي: في السن، وهو روبيل، أو في الرأي، وهو شمعون، وقيل: يهوذا.

قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا [يوسف: 18] ، قبله محذوف، تقديره: فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له: إن ابنك سرق ، عند الجمهور بفتح السين وضمها وشد الراء وتخفيفها، فقال: بل سولت لكم أنفسكم ؛ لأنه علم أن كل ذلك لم يكن.

وقال يا أسفى على يوسف [يوسف: 84] : تأسف على يوسف دون أخيه لإفراط محبته فيه، ووحشته له، ومصيبته كانت السابقة، فجددت له هذه الثانية وحشته.

وهكذا عادته فيمن أحب غيره ابتلي بفراقه، فلا تجعل محبك ومحبوبك إلا من لا يفارقك.

وروي أن يوسف عليه السلام جاءه رجل فقال له: إني أحبك.

فقال: لا تفعل، أحبني أبي فعمي بصره، وألقيت في الجب، وامرأة العزيز أحبتني فابتليت بالملامة، وحبست في السجن، وكذلك سيدنا ومولانا محمد -صلى الله عليه وسلم- أحب جبريل فابتلي بحبسه عنه مدة، وأحب مكة فابتلي بالخروج منها، وأحب عائشة فابتلي بقصة الإفك، كل هذا غيرة منه سبحانه على أحبابه، ليكون شغلك يا محمدي بالله لا بغيره إن فهمت، وإلا فهكذا يفعل بك.

قالوا أإنك لأنت يوسف [يوسف: 90] : قرئ بالاستفهام والخبر، فالخبر على أنهم عرفوه، والاستفهام على أنهم توهموا أنه هو ولم يحققوه.

قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف [يوسف: 94] .

كان يعقوب ببيت المقدس، ووجد ريح القميص، وكان مع يوسف في بيته زمانا لا ريح له، فلما فصلت العير اتصل ريحه بيعقوب.

كذلك قلبك يا محمدي مع مالك خزانتك، [ ص: 155 ] فإذا أنفقت مالك في طاعة الله تفرغ قلبك لعبادته، وترى حينئذ من لطف الله بك حالا لا يخطر ببالك.

قال سوف أستغفر لكم ربي [يوسف: 98] : وعدهم يعقوب بالاستغفار؛ لأنهم جاءوا متضرعين معترفين بما جنوه، كذلك أنت يا عبد الله، إذا أذنبت وأتيت معترفا لرسولك الذي أرسل إليك متضرعا وجلا، فإنه يستغفر لك، ويشفع فيك؛ لأن الله أمره بالاستغفار لك، وأذن له في الشفاعة فيك.

وكيف لا وهو أكرم الخلق عليه! وقد وعدنا بذلك في قوله: ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما [النساء: 64] .

وإني قد منعت يا سيد الأولين والآخرين عن الإتيان إليك بذنوب جنيتها على نفسي، فأنت تعلم عذري، ولا حيلة لي غير التعلق بجاهك العظيم والصلاة عليك، صلى الله عليك وعلى آلك أفضل صلاة وأزكى تسليم.

فإن قلت: لم وعدهم الله بالاستغفار ولم يستغفر في الحين؟

والجواب أنه وعدهم بالاستغفار للسحر؛ لأنه وقت إجابة، والدعاء في وقت الإجابة لا يرد.

فأخذ العلماء من هذه الآية التعرض لنفحات رحمة الله، ومن راقب يراقب، ومن غفل غفل عنه، وقالوا: الوعد مع العطاء أفضل من العطاء بغير وعد، فجبر قلوبهم بالوعد بالاستغفار، ثم استغفر لهم فكملت الفرحتان.

قصصهم [يوسف: 111] : الضمير للرسل على الإطلاق.

أو ليوسف وإخوانه، والأول أعم، لقوله تعالى: وظنوا أنهم قد كذبوا [يوسف: 110] . بتشديد الذال وتخفيفها.

وقد قدمنا معناها في حرف الكاف.

قارعة [الرعد: 31] : يعني في أنفسهم وأولادهم، أو غزوات المسلمين إليهم، وانظر قوله تعالى: حتى يأتي وعد الله [الرعد: 31] ما المراد به؟ وبهذا تمسك أهل الاعتزال، وقالوا بوجوب إنفاذ الوعيد، وهو مختلف فيه عندنا، لكن الكلام القديم الأزلي الذي هو صفة ذاتية لله تعالى يستحيل فيه [ ص: 156 ] الخلف، وأما كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي هو ترجمة عن ذلك الكلام فليس كذلك ومثاله إذا قلت: من يقتل زيدا فأنا أقتله، فتارة تقصد الحقيقة، وتارة تكون غير مريد قتله، لكنك تقصد المبالغة في العبارة على جهة التخويف والتنفير عن فعل ذلك، فعبارتك يمكن فيها عدم الوقوع، وأما في نيتك وقصدك فلا بد من وقوعه، لأنك عزمت على ما أجمعت عليه، وهو قصد حقيقي بخلاف الكلام الذي هو ترجمة عما في القلب؛ فإنه قد يكون مجازا.

وهذا هو جواب أهل السنة عن قوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها [النساء: 93] .

قائم على كل نفس بما كسبت [الرعد: 33] .

إن قصد استعلام الخبر فهو استفهام، وإلا فإن كان المعنى ثابتا في نفس الأمر فهو تقرير، وإن لم يكن ثابتا فهو إنكار.

وهو تقرير لقول ابن عطية: المراد: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أحق بالعبادة أم الجمادات التي لا تنفع ولا تضر، وهو معطوف على مقدر، فمنهم من كان يقدره: أهم جاهلون بمن هو قائم، ومنهم من قدره: أهم غافلون عمن هو قائم، وهو الصواب، قال: وهل هذا من العمومات المخصوصة أو لا، قال: إن قلنا إن ذات الباري تعالى لا يطلق عليها نفس فيكون عاما باقيا على عمومه، وإن جوزنا الإطلاق، لقوله تعالى: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك [المائدة: 116] ، فيكون هذا مخصوصا بالباري جل وعلا؛ إذ لا يقال إنه حفيظ على نفسه.

قيل: بما كسبت بدل على التخصيص.

وقيل: بل هو متعلق بقائم، وليس بصفة للنفس.

والكسب: الصواب تفسيره بما قاله أهل السنة؛ لأن الأصل عدم النقل، ومعنى قائم أي: حفيظ ورقيب وعالم.

قالت رسلهم أفي الله شك [إبراهيم: 10] أي: في ألوهية الله شك؟

وقال الفارسي: أفي وحدانية الله شك، وإنما قرره الفارسي هكذا؛ لأن أول ما يحض الرسل قومهم على اعتقاد وحدانية الله، بخلاف الألوهية؛ إذ لم يخالف فيها [ ص: 157 ] أحد، وقد خالف فيها المجوس الذين عبدوا الشمس وإن عبدوها فلم ينكروا البعث بدليل: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [الزخرف: 87] .

والدهرية قالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا [الجاثية: 24] .

وكان بعضهم يقول في هذه الآية: انظر كلامهم، جعلوا أنفسهم مظروفين في الشك، والشك ظرفا لهم، وكلام الرسل جعلوا الشك مظروفا في أمر الله، أي: في شأن الله، وجعلوا شأن الله ظرفا له، وقالوا: هذا لوجهين: نقلي وعقلي، أما النقلي فلأن الظرف أوسع من الظروف، فالشك محيط بالكفار من جميع الجهات، وهم مفتقرون إليه، إذ المتحيز مفتقر إلى الحيز، والحال مفتقر إلى المحل لا بد منه.

وقول الرسل: أفي الله شك - جعلوا الشك متحيزا حالا في أمر الله، فأمر الله أعلى منه وأكبر، فهو حيز له، فهو إشارة إلى تقليل الشك، أي: لا يتصور أن يقع شك في الله بوجه وإن قل، فإذا أنكروا أن يكون أمر الله حيزا للشك مع قلته فأحرى أن يكون الشك حيزا له مع كثرته.

فإن قلت: أضاف الرسل إليهم ولم يقل رسلنا؟ قلت: تنبيها على أن الرسل منهم بحيث يعلمون حالهم، وأنهم لم يعهدوا منهم كذبا، ولا علموا أنهم خالطوا سحرة، فدل على أن ما جاءوهم به حق.

قال الفخر في المحصل: مذهب أهل السنة أن الرسل ليس في خلقتهم وبنيتهم زيادة علمية، ولا خاصية ذاتية اختصوا بها عنا، وما وجد منهم من القوة على الوحي وغير ذلك فأمور عرضية، كالشجاعة للبطل.

ومذهب الفلاسفة أن بنيتهم مخالفة لنا، ولا بد فيهم من خاصية ذاتية اختصوا بها عنا.

قالت لهم رسلهم [إبراهيم: 11] : لم يثبت الخافض في الأولى وأثبته هنا، لأنها إما مقالة خاصة أو هي جواب عن قول صدر منهم، والمقالة الأولى لهم ولغيرهم.

وقيل: لما كان وجود الله تعالى أمرا نظريا ليس بضروري، وكون الرسل مثلهم أمرا ضروريا لا يحتاج إلى نظر لظهوره، فكأنه يقول: ما قالوا هذا إلا لهم [ ص: 158 ] لا لغيرهم لغفلتهم وغباوتهم وجهلهم، كما أن القائل: السماء فوقنا والأرض تحتنا - ما يخاطب بها إلا من هو في غاية الجهل والغباوة.

وأجاب بعض النجباء أن قوله: أفي الله شك - خطاب لمن عاند فيه، وهو كالعاند في الأمر الضروري، فلذلك أسقط المجرور؛ لأن المجيب عن ذلك يجيب به من حيث الجملة، ولا يقبل بالجواب على المخاطب لغباوته عنده ومعاندته، فيجيب وهو معرض عنه، بخلاف قولهم: إن نحن إلا بشر مثلكم [إبراهيم: 11] ، فإنه تقرير لمقالتهم، وتثبيت لها، والمقر لمقالة خصمه يقبل عليه بالجواب؛ لأنه لم يبطل كلامه بالإطلاق، بل يقرره ويزيد فيه زيادات تبطل دعوى خصمه.

فإن قلت: لم جمع السبل في قوله تعالى: وقد هدانا سبلنا [إبراهيم: 12] ، وقد ذكرتم غير مرة أن طريق الهدى واحدة؟ فالجواب: أنه على التوزيع، فلكل رسول طريق باعتبار شريعته وأحكامه.

قال تعالى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا [المائدة: 48] .

قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد [إبراهيم: 35] : المراد به مكة.

وهذا الدعاء وقع من إبراهيم حين خلف هاجر بواد غير ذي زرع [إبراهيم: 37] ، فنفى القليل والكثير، والمراد ليس فيه لحم ولا شجر ولا ماء.

فإن قلت: آية البقرة مدنية، وآية إبراهيم مكية، والقاعدة أن الاسم إذا كرر ذكره يأتي أولا منكرا وثانيا معرفا؟

والجواب أن الإنسان إذا دعا أولا إنما يدعو لشخص معين يقصده ويعينه في ذهنه، فإذا أراد الدعاء يعيد نكرة أو معرفة أو كيف ما كان، اكتفاء بحصول تعيينه أولا.

وقيل: هذا تأكيد، هذا إذا قلنا إن المنزل أولا هو المدعو به ثانيا؛ لأن الاسم إذا تقدم نكرة ثم يعاد فإنما يعيده معرفا، قال تعالى: كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول [المزمل: 15 ،16].

[ ص: 159 ] فإن قلت: القاعدة أن يكون المبتدأ معلوما وخبره مجهولا، والبلد في هذه الآية أصله قبل دخول الفعل عليه مبتدأ؛ لأنه نعت لهذا، ونعت المبتدأ مبتدأ، و: "آمنا" خبره.

وفي قوله: اجعل هذا بلدا آمنا " هذا " مبتدأ، و: بلدا خبره، و: "آمنا" نعت أو خبر بعد خبر، والقصة واحدة.

وأجيب بأن الشيء في نفسه ليس هو كغيره معه، فهو معلوم من حيث كونه، مجهول من حيث كونه بلدا آمنا، فالأول كما تقول: اجعل هذا الرجل صالحا، دعوت له بالصلاح فقط، والثاني كقولك: اجعل هذا رجلا صالحا مع أنه رجل، لكنك دعوت له بتحصيل المجموع.

ورد بأنه يلزم عليه أن يجوز زيد زيد العاقل، فيخبر بزيد العاقل عن زيد نفسه، مع أنه لا يفيد شيئا؛ لأن الأول هو الثاني.

وأجيب إنما نظيره زيد القائم زيد العاقل، فيخبر بزيد مع غيره، أما إذا أثبت بمجرد لفظ الأول فلا يجوز. فإن قلت: كيف يدعو الخليل بقوله: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [إبراهيم: 35] ، وقد علم أن عبادة الأصنام مستحيلة في حق النبي، فأحرى في حق الخليل؟ فالجواب: دعا بهذا على وجه التذلل والخضوع، وعادة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم عدم الانبساط مع الربوبية، لتمكن الخوف من قلوبهم، وهذا فيه الاقتداء بغيره، ويؤخذ من هذه الآية أنه لا يدعو الشخص بالمستحيل عقلا، كقول الإنسان: رب اجعلني في غير حيز، أو غير ذلك من المستحيلات.

وقد ذكرها القرافي في قاعدة ما يجوز من الدعاء وقاعدة ما لا يجوز، حذفنا ذكرها للطول.

وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر [الحجر: 6] ، يعني بزعمك ودعواك لا بإقرارنا.

[ ص: 160 ] فإن قلت: الوصف الأخص هو القرآن، والذكر وصف أعم، فلم عبروا بالأعم دون الأخص؟

والجواب أنه في التعبير بالأخص تنبيه وتذكير بالمعجزات التي ورد بها القرآن، وهم مقصدهم تعمية ذلك وإخفاؤه.

وانظر إلى المثل السائر: ذكرتني الطعن وكنت ناسيا.

فإن قلت: هل أرادوا اتصافه بالجنون، لما جاء به من الوحي إلى الذين يسترقون السمع؟ فالجواب أنهم أرادوا أن به جنونا يصحبونه بدليل قوله تعالى: أم يقولون به جنة [المؤمنون: 70] .

بل نحن قوم مسحورون [الحجر: 15] : هذا الإضراب منهم إضراب انتقال؛ لأنهم أضربوا عن مفهوم قولهم: سكرت أبصارنا [الحجر: 15] ؛ لأن مفهومه أن باقي جسدهم لم يسكر، وما زال صحيحا، فأضربوا عن هذا المفهوم، وقالوا: بل جميع ذواتنا مسحورة، ولو كان إضراب إبطال للزم عليه أن تكون أبصارهم غير مسحورة، وليس ذلك مرادهم، وقوله: إنما سكرت أبصارنا ظاهره كالمناقض لقوله: بل نحن قوم مسحورون .

فإن قلت: ما أفاد قولهم: " قوم " ، ولو قالوا: بل نحن مسحورون لاستقل الكلام؟ فالجواب أنه أفاد الإخبار بكمال عبادتهم، وأنهم جماعة كثيرون، وتعدد الأشخاص مظنة التفطن والفهم، ومع هذا فكلهم يتعامون وتعمهم الضلالة ولا يهتدون إلى الإيمان به بوجه.

قال رب بما أغويتني [الحجر: 39] : قد قدمنا معنى الإغواء.

واعترافه بالربوبية يفهم منه أن كفره كان باعتراضه على الله في أمره بالسجود لآدم.

وقدمنا أيضا أن الفاء لم تدخل في الحجر كما في الأعراف [16] ، اكتفاء [ ص: 161 ] بمطابقة النداء لامتناع النداء منه؛ لأنه ليس بالذي يستدعيه النداء.

فإن ذلك يقع مع السؤال والطلب، وهذا قسم عند أكثرهم، بدليل ما في "ص" [82].

وخبر عند بعضهم، والذي في "ص" [82] جاء على قياس ما في الأعراف؛ لأن ما فيها موافق لما قبله في مطابقة الفاء، وزاد فيها الفاء التي هي لعطف جملة على جملة لتكون الثانية مربوطة بالأولى، فموافقتها أكثر.

وقال في "ص" [82]: فبعزتك وهو قسم عند الجميع.

قال هذا صراط علي مستقيم [الحجر: 41] : القائل لهذا هو الله تعالى، والإشارة بهذا إلى نجاة المخلصين من إبليس، وأنه لا يقدر عليهم، وإلى تقسيم الناس إلى غوي ومخلص.

قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين [الحجر: 58] ، قالت الملائكة: أرسلنا إلى قوم لوط.

قالوا بشرناك بالحق [الحجر: 55] : الضمير لإبراهيم، أي: بشرناك باليقين الثابت، فلا تستبعده، ولا تكن من القانطين: من اليائسين.

قدرنا إنها لمن الغابرين [الحجر: 60] : إنما أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم، وهو لله وحده، لا لهم من القرب والاختصاص بالله، - لا سيما في هذه القضية، كما يقول خاصة الملك: دبرنا كذا.

ويحتمل أن يكون حكاية عن الله.

قوم منكرون [الحجر: 62] ، أي: لا نعرفهم.

قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون [الحجر: 63] : يعني جئناك بما كانوا يشكون من العذاب لقومك.

قالوا أولم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين [الحجر: 70، 71].

كان قوم لوط نهوه أن يضيف أحدا، فقالوا له هذه المقالة احتجاجا بما سبق من إنذاره، فأجابهم بتزوج بناته إن أرادوا شيئا، [ ص: 162 ] وفداهم ببناته.

واختلف في عددهم، وكان أبو البنات، كما كان إبراهيم أبا الذكور، وجمع الله لنبينا الذكور والإناث، فكان له أربعة ذكور وأربع نسوة.

وهذا من اعتدال مزاجه صلى الله عليه وسلم.

قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين [النحل: 27] .

الخزي: راجع لأمر الباطن النازل بهم، والسوء راجع لأمر الظاهر الحال بهم في أبدانهم.

فإن قلت: كيف أكد بأن خطابهم إنما هو لله تعالى العالم بأن ذلك حق؟

والجواب أن هذه المقالة صدرت منهم قبل حلول العذاب بأولئك، فهم في قضية الإنكار لها يريد أنهم استسلموا لقضاء الله، والمغلوب إذا استسلم تارة يعترف ويقر، كقوله تعالى: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا [النساء: 94] ، وتارة ينكر موجبات العقوبة، كهذه الآية، طمعا في أن يقبل ذلك منه، ويتغاضى عنه ويترك.

قال النار مثواكم [الأنعام: 128] : هذا من قول الله.

وقال: مثواكم ولم يقل: داركم؛ لأن الدار محل السكنى، والسكنى مظنة الطول، فناسب الإتيان بالدار في محل المدح للمتقين؛ لأن الإنسان قد يسكن الموضع الزمان القليل ويمل من سكناه، ولا يحب البقاء فيه.

والمثوى: الإقامة مطلقا، تطلق على القليل والكثير.

قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي [الإسراء: 62] : الكاف لا موضع لها من الإعراب، وهذا مفعول ب: أرأيت. والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته علي وأنا خير منه، فاختصر الكلام، فحذف ذلك.

وقال ابن عطية: أرأيتك هنا تأملت ونحوه لا بمعنى أخبرني.

ومعنى الاحتناك الميل، مأخوذ من تحنيك الدابة، وهو أن يشد على حنكها بحبل فتنقاد.

قال اذهب [الإسراء: 63] : خطاب من الله لإبليس، وما بعده من [ ص: 163 ] الأوامر على وجه التهديد لإبليس.

قال الزمخشري: ليس المراد هنا الذهاب الذي هو ضد المجيء، وإنما معناه: امض لشأنك الذي اخترته، خذلانا له وتخلية.

ويحتمل عندي أن يكون معناه الطرد والإبعاد.

قاصفا من الريح [الإسراء: 69] : القصف: هو الكسر، وفيه تهديد لمن ركب البحر ولا يخاف الله.

قبيلا [الإسراء: 92] : قيل معناه مقابلة ومعاينة.

وقيل: ضامنا شاهدا يصدقك.

والقبالة في اللغة الضمان.

قيما [الكهف: 2] أي: مستقيما.

وقيل: قيما على الخلق بأمر الله.

وقيل: قيما على سائر الكتب بتصديقها.

وانتصابه على الحال من الكتاب، والعامل فيه: "أنزل".

ومنع الزمخشري ذلك الفصل بين الحال وذي الحال، واختار أن العامل فيه فعل مضمر، تقديره: جعله قيما.

قال له موسى هل أتبعك [الكهف: 66] : في الآية مخاطبة فيها تلاطف وتواضع، وكذلك ينبغي أن يكون الإنسان مع من يريد أن يتعلم منه، ينصت لكلامه، ولا يعارضه، ويخدمه بنفسه وماله، ويسرع في قضاء حوائجه. قال ألم أقل لك [الكهف: 75] : هذا من قول الخضر لموسى، وذلك أن موسى نسي العهد الذي بينهما، هذا قول الجمهور.

فإن قلت: ما فائدة زيادة اللام في الثالثة؟ فالجواب لما فيه من الزجر والإغلاظ ما ليس في الأوليين.

وفي صحيح البخاري: كانت الأولى من موسى نسيانا، وفيه - عن مجاهد قال: كانت الأولى نسيانا، والثانية شرطا، والثالثة عجزا.

قال ابن عطية: وهذا كلام معترض؛ لأن الجميع شرط، ولأن العمد يبعد على موسى عليه السلام، وإنما هو التأويل، إذ جنب صفة السؤال أو النسيان.

وروى الطبري، عن أبي كعب، أنه قال: إن موسى عليه السلام لم ينس، ولكن قوله هذا من معاريض الكلام.

[ ص: 164 ] قال ابن عطية: ومعنى هذا القول صحيح، ولم يبينه.

ووجهه عندي أن موسى عليه السلام إنما رأى العهد في أن يسأل، ولم ير إنكار هذا الفعل شنيعا سؤالا، بل رآه واجبا، فلما رأى الخضر قد أخذ العهد على أعم وجوهه فضمنه السؤال والإنكار والمعارضة، وكل اعتراض، إذ السؤال أخف من هذه كلها - أخذ معه في باب المعاريض التي هي مندوحة عن الكذب، فقال له: لا تؤاخذني بما نسيت ، ولم يقل: إني نسيت العهد، بل قال لفظا يعطي للمتأول أنه نسي العهد، ويستقيم أيضا تأويله وطلبه مع أنه لم ينس العهد؛ لأن قوله: لا تؤاخذني بما نسيت - كلام جيد-، وليس فيه للعهد ذكر، هل نسيه أم لا، وفيه تعريض أنه نسي العهد، فجمع في هذا اللفظ بين العذر والصدق، وما يخل بالقول.

قال انفخوا [الكهف: 96] : يريد نفخ الكير، أي: أوقدوا النار على الحديد.

وروي أنه حفر الأساس حتى بلغ الماء، ثم جعل البنيان من زبر الحديد حتى ملأ به بين الجبلين، ثم أفرغ عليه قطرا: نحاسا مذابا.

وقيل: هو الرصاص.

وهذا السد من عجائب الدنيا؛ إذ لا يقدر على هدمه أهل الدنيا.

ولما فرغ من بنائه قال: هذا رحمة من ربي.

ولما أسري به -صلى الله عليه وسلم- رآه وتعجب من صنعته، وقال رجل: يا رسول الله، رأيت سد يأجوج ومأجوج.

فقال: كيف رأيته، قال: كالبرد المحبر، طريقة صفراء، وطريقة حمراء، وطريقة سوداء.

فقال -صلى الله عليه وسلم-: قد رأيته.


قبس [طه: 10] : قد قدمنا أنه الجذوة من النار تكون على رأس العود أو القصبة ونحوها.

فإن قلت: ما معنى اختلاف هذه الألفاظ والتقديم والتأخير في مواضع من السور؟

والجواب أن ذلك يختلف باختلاف المقصد، والتناسب، ففي آية طه [10] ، رؤية موسى النار وأمره أهله بالمكث وإخباره إياهم أنه آنس نارا، [ ص: 165 ] وأطمعهم بأن يأتيهم بنار يصطلون بها، أو خبر يهتدون به - إلى الطريق الذي ضلوا عنه، ولكنه نقص من النمل [7] رؤية موسى النار وأمره أهله بالمكث اكتفاء بما تقدم، وزاد في القصص: قضاء موسى الأجل المضروب وسيره بأهله إلى مصر؛ لأن الشيء قد يجمل ثم يفصل، وقد يفصل ثم يجمل، وفي طه فصل ثم أجمل، تم فصل في القصص [29] ، وبالغ، فيه، وقوله في طه: أو أجد على النار هدى ، أي: من يخبرني بالطريق فيهديني إليه، وإنما أخر ذلك الخبر فيها وقدمه فيهما مراعاة لفواصل الآي في السور جميعا، وكرر: لعلي في القصص لفظا وفيهما معنى؛ لأن: " أو " في قوله: أو أجد نائب عن: لعلي .

وقوله: سآتيكم تضمن معنى لعلي.

وفي القصص: أو جذوة من النار ، وفي النمل: بشهاب قبس ، وفي طه: بقبس : فهي في السور الثلاث عبارة عن معبر [معنى] واحد، وهذا برهان لامع.

قال قد أوتيت سؤلك يا موسى [طه: 36] .

أي: أعطيتك كل ما طلبت من الأشياء المذكورة.

قد جئناك بآية من ربك [طه: 47] : يعني: قلب العصا حية، وإخراج اليد بيضاء، وإنما وحدها وهما اثنان؛ لأنه أراد إقامة البرهان، وهو معنى واحد.

قالوا إن هذان لساحران [طه: 63] : قرئ: إن هذين بالياء ولا إشكال في ذلك، وقرئ بالتخفيف، وهي مخففة من الثقيلة، وارتفع بعدها هذان بالابتداء.

وأما على قراءة نافع وغيره بتشديد: "إن" ورفع: هذان فقيل: إن هنا بمعنى نعم، فلا تنصب، ومنه ما روي في الحديث: إن الحمد لله بالرفع.

وقيل: اسم إن ضمير الأمر والشأن، تقديره: إن الأمر، وهذان لساحران مبتدأ وخبر في موضع خبر إن.

وقيل: جاء في القرآن في هذه الآية بلغة بلحارث بن كعب، وهي إبقاء التثنية بالألف في حال النصب والخفض، وقالت عائشة: هذا مما لحن فيه كاتب المصحف.

[ ص: 166 ] وقد أكثروا في الكلام في هذه الآية وألفوا فيها تأليفا.

قالوا أضغاث أحلام [يوسف: 44] : إنما حكى الله عن قريش هذه الأقوال الكثيرة ليظهر اضطراب أمرهم وبطلان أقوالهم.

فقبضت قبضة من أثر الرسول [طه: 96] : القبضة: مصدر قبض، وإطلاقها على المفعول من تسمية المفعول بالمصدر، كضرب الأمير.

ويقال: قبض بالضاد المعجمة إذا أخذ بأصابعه وكفه، وبالصاد المهملة إذا أخذه بأطراف الأصابع.

وقد قرئ كذلك في الشاذ، وإنما سمي جبريل رسولا لأن الله أرسله إلى موسى.

قصمنا من قرية كانت ظالمة [الأنبياء: 11] : والقصم: الكسر.

قال ابن عباس: هي قرية باليمن، يقال لها حضور، بعث الله إليهم رسولا فقتلوه، فسلط الله عليهم بختنصر ملك بابل، فأهلكهم بالقتل.

وظاهر اللفظ أنه على العموم؛ لأن " كم " للتكثير، فلا يريد قرية معينة.

" قائمين " [الحج: 26] : مصلين.

"قانع" [الحج: 36] ، سائل، يقال: قنع قنوعا إذا سأل، وقنع قناعة إذا رضي.

قلى يقلي أبغض، ومنه: وما قلى [الضحى: 3] ، و: لعملكم من القالين [الشعراء: 168] .

قوما عالين [المؤمنون: 46] : متكبرين.

والمراد بهم قوم فرعون.

قال طائركم عند الله [النمل: 47] ، أي السبب الذي يحدث عنه خيركم وشركم هو عند الله، وهو قضاؤه وقدره، وذلك رد عليهم في تطيرهم ونسبتهم ما أصابهم من القحط إلى صالح عليه السلام.

وقال إني مهاجر [العنكبوت: 26] : فاعل "قال" إبراهيم.

وقيل: لوط، وهاجرا من بلادهما من أرض بابل إلى الشام.

[ ص: 167 ] قال إن فيها لوطا [العنكبوت: 32] : ليس إخبارا بأنه فيها، وإنما قصد نجاة لوط من العذاب الذي يصيب أهل القرية وبراءته من الظلم الذي وصفوا به، فكأنه قال: كيف تهلكون أهل هذه القرية وفيها لوط، وكيف تقولون: إنهم ظالمون وفيهم لوط؟ وقالوا أآلهتنا خير أم هو [الزخرف: 58] : الضمير لعيسى، وذلك أنهم قالوا: إن كان عيسى يدخل النار فقد رضينا أن نكون وآلهتنا معه؛ لأنه خير من آلهتنا.

وقيل: إنهم لما سمعوا ذكر عيسى قالوا: نحن أهدى من النصارى؛ لأنهم عبدوا آدميا، ونحن عبدنا الملائكة فمقصدهم تفضيل آلهتهم على عيسى.

وقيل: إن قولهم: أم هو يعنون محمدا -صلى الله عليه وسلم-، فإنهم لما قالوا إنما يريد محمد أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى قالوا: أآلهتنا خير أم هو - يريدون تفضيل آلهتهم على محمد، والأظهر أن المراد ب: " هو " عيسى.

وهو قول الجمهور، ويدل على ذلك تقدم ذكره.

قوم خصمون [الزخرف: 58] : هذا من قول الله لهم، يعني يريدون أن يغالطوك في عيسى وإنما هو عبد أنعمنا عليه بالنبوة والمعجزات وغير ذلك.

وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه [الأحقاف: 11] : القائلون لهذه المقالة هم أكابر قريش لما أسلم الضعفاء، كبلال وعمار وصهيب - قالوا: لو كان الإيمان خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه.

وقيل: بل قالها كنانة وقبائل من العرب لما أسلمت غفار ومزينة وجهينة، وقيل: بل قالها اليهود لما أسلم عبد الله بن سلام.

والأول أرجح: لأن الآية مكية.

فإن قلت: كان الأولى أن يقول ما سبقتمونا إليه؛ لأن قول الذين كفروا للذين آمنوا مواجهة؟

والجواب معنى الذين آمنوا: من أجل الذين آمنوا، أي: قالوا ذلك عنهم في غيبتهم، وليس المعنى أنهم خاطبوهم بهذا الكلام؛ لأنه لو كان خطابا لقالوا: ما سبقتمونا إليه.

[ ص: 168 ] وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه [الأحقاف: 21] ، أي: تقدمت من قبله ومن بعده.

والنذر: جمع نذير.

فإن قيل: كيف يتصور تقدمها من خلفه؟ فالجواب أن هذه الجملة اعتراض، وهي إخبار من الله تعالى أن الله قد بعث رسلا متقدمين قبل هود وبعده.

وقيل: من خلفه: يعني خلفه في زمانه.

قال إنما العلم عند الله [الأحقاف: 23] : قال هود: العذاب الذي قلتم ائتنا به ليس لي علم وقت كونه، وإنما يعلمه الله، وما علي إلا أن أبلغكم ما أرسلت به، ولكني أراكم قوما تجهلون أمر الله ووعيده.

قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا [محمد: 16] : قد قدمنا معنى آنفا.

والمعنى أن قريشا كانت تقول ذلك إما احتقارا لكلامه، كأنهم قالوا: أي فائدة فيه، وإما جهلا ونسيانا؛ لأنهم كانوا وقت كلامه -صلى الله عليه وسلم- معرضين عنه.

ق [ق: 1] : قد قدمنا أنه جبل محيط بالأرض، أو هو من أسماء الله تعالى: القاهر، أو المقتدر، أو القادر.

فإن قلت: أين جواب القسم، وما الفرق بينه وبين: "يس" في إظهار جواب القسم ووصف القرآن بالمجيد؟

والجواب أن جواب القسم محذوف، تقديره ما ردوا أمرك بحجة، وما كذبوا ببرهان، وشبه ذلك، وعن هذا المحذوف وقع الإضراب ب: بل.

ووصف كلامه هذا بالمجيد لشرفه، وفي سورة يس بالحكيم؛ لأنه محكم على غيره لرعاية الفواصل.

وقد قدمنا أن الله سماه بستين اسما، وما ذلك إلا لتعظيمه، فاعرف قدر ما وصل إليك يا من أكرمه الله به.

قعيد [ق: 17] ، أي: قاعد، وقيل: مقاعد يعني مجالس.

ورواه ابن عطية بأن المقاعد إنما يكون مع قعود الإنسان، وإنما أفرده وهما اثنان؛ لأن [ ص: 169 ] التقدير عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد من المتلقيان ، فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه.

وقال الفراء: لفظ قعيد يدل على الاثنين والجماعة، فلا يحتاج إلى حذف، وذكر جماعة عن مجاهد أن قعيد اسم كاتب السيئات.

قاصرات الطرف [الصافات: 48] : معناه أن الحور العين يقصرن أعينهن على النظر إلى أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم.

وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم [الزخرف: 31] : لم يكف قريشا معاندتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بل ضموا إليه مكابرتهم والاستخفاف بكتاب الله وشرائعه والاحتكام على حكمة الله في تخير محمد -صلى الله عليه وسلم- من أهل زمانه.

ومعنى القريتين: مكة، وعنوا بالرجل منها الوليد بن المغيرة.

وقيل: عتبة بن ربيعة.

والأخرى الطائف، وعنوا بالرجل منها عروة بن مسعود.

وقيل: حبيب بن عمير.

ووصفوه بالعظمة لكثرة ماله، فأنكر الله عليهم اعتراضهم وتحكمهم، وأن يكون لهم التدبير لأمر النبوءة بقوله: أهم يقسمون رحمت ربك [الزخرف: 32] ، والتخير لها من يصلح لها ويقوم بها والمتولين لقسمة رحمة الله التي لا يتولاها إلا هو بباهر قدرته وبالغ حكمته، ثم ضرب لهم مثلا فأعلم أنهم عاجزون عن تدبر خويصة أمرهم وما يصلحهم في دنياهم، وأن الله عز وعلا هو الذي قسم بينهم معيشتهم وقدرها ودبر أحوالهم تدبير العالم بها، فلم يسو بينهم، ولكن فاوت بينهم في أسباب العيش، وغاير بين منازلهم، فجعل منهم أقوياء وأغنياء، ومحاويج وضعفاء، وموالي وخدما، ليصرف بعضهم بعضا في حوائجهم، ويستخدموهم في مهنهم، ويسخروهم في أشغالهم حتى يتعايشوا ويتوافروا، ويصلوا إلى منافعهم، ويحصلوا على مرافقهم، ولو وكلهم إلى أنفسهم، وولاهم تدبير أمرهم لضاعوا وهلكوا، فإذا كانوا في تدبير المعيشة الدنية في هذه الحياة الدنيا على هذه الصفة فما ظنك بهم في تدبير أمر الدين الذي هو رحمة الله الكبرى ورأفته العظمى، وهو الطريق إلى خيار حظوظ الآخرة والسلم إلى حلول دار السلام.

[ ص: 170 ] وقالوا يا أيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك [الزخرف: 49] : يعني من إجابتك.

وقولهم: إننا لمهتدون [الزخرف: 49] : وعد نووا إخلافه؛ لأنهم رأوا تسع آيات فلم يؤمنوا.

وقولهم: يا أيه الساحر : إما أن يكون عندهم غير مذموم؛ لأن السحر كان علم أهل زمانهم، وكأنهم قالوا: يا أيها العالم.

وإما أن يكون ذلك اسما قد ألفوا تسمية موسى به من أول ما جاءهم، فنطقوا به بعد ذلك من غير اعتقاد معناه.

فإن قلت: ظاهر كلامهم يقتضي تكذيبهم له، وقولهم: ادع لنا ربك يقتضي تصديقه، فما معنى الجمع؟

والجواب: أن القائلين لذلك كانوا مكذبين، وقولهم: ادع لنا ربك يريدون: على قولك وزعمك، فدعا الله موسى فكشفه عنهم فنكثوا عهدهم.

قال يا قوم أليس لي ملك مصر [الزخرف: 51] : القائل لهذا فرعون، وقصد بذلك الافتخار على موسى والتعظيم لملكه، ومصر هو البلد المعروف، وما يرجع إليه، ومنتهى ذلك من نهر الإسكندرية إلى أسوان بطول النيل، فانظر عقله الفاسد، وبلادته، حيث فخر بتافه من الدنيا، ولم يعتبر بمن تقدمه من الملوك الذين كانوا أعظم منه، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .

وقال قرينه هذا ما لدي عتيد [ق: 23] : اختلف ما المراد بالقرين، هل الشيطان الذي كان يغويه، أو الملك الذي يسوقه، أو الملك الذي يتولى عذابه في جهنم، والأول أرجح؛ لأنه هو القرين المذكور بعد، ولقوله: نقيض له شيطانا فهو له قرين [الزخرف: 36] .

وقوله: هذا ما لدي عتيد ، أي: هذا الإنسان حاضر لدي قد استعدته ويسرته لجهنم، وكذلك المعنى إن قلنا إن القرين هو الملك السابق.

وإن قلنا إنه إحدى الزبانية فمعناه هذا العذاب لدي حاضر.

ويحتمل أن يكون: " ما " في قوله: ما لدي موصولة، ف: عتيد بدل منها، أو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف، أو تكون موصوفة [ ص: 171 ] ف: عتيد صفة لها، ويحتمل أن يكون: عتيد الخبر ويكون: " ما " بدلا من هذا أو منصوبة بفعل مضمر.

فإن قلت: إذا كان القرين في الآية الثانية [ق: 27] ، بعد هذا فما فائدة تكرره وعطفه بالواو أولا؟ فالجواب أنهم اختلفوا، هل المراد بهما قرين واحد أم لا؛ إذ المقارنة تكون على أنواع.

وقال بعض العلماء: قرين في هذه الآية الثانية ليست عطفا بل جوابا.

وأما عطفه بالواو فلأن هذه الآية معطوفة على ما قبلها من آيات هي إخبار عما يلقاه الإنسان المتقدم ذكره من الأهوال والشدائد في المواقف الأخروية، وما بين يديها: أولها قوله: وجاءت سكرة الموت بالحق [ق: 19] .

ثم قال: ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد .

وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد .

وقال قرينه هذا ما لدي عتيد [ق: 20، 21، 23] ، فهذه إخبارات عن شدائد يلي بعضها بعضا.

فطابق ذلك ورود بعضها معطوفا على بعض.

وأما قوله بعد: قال قرينه ربنا ما أطغيته [ق: 27] ، فهو إخبار مبتدأ مستأنف معرف بتبري قرينه من حمله على ما ارتكبه واجترحه، ولا طريق إلى عطف ذلك على ما قبله، إنما هو استئناف إخبار، فوجد كل على ما يرد.

قاب قوسين أو أدنى [النجم: 9] أي: كان جبريل من محمد -صلى الله عليه وسلم- بمقدار القاب - وهو مقدار المسافة بين قوسين عربيين، ومعناه من طرف العود إلى طرفه الآخر.

وقيل: من الوتر إلى العود.

وقيل: ليس القوس الذي يرمى بها، وإنما هي ذراع تقاس به المقادير.

ذكره الثعلبي، وقال: إنه من لغة أهل الحجاز، وتقدير الكلام: مقدار مسافة قرب جبريل من محمد -صلى الله عليه وسلم- مثل قاب قوسين، ثم حذفت هذه المضافات.

ومعنى أدنى أقرب.

و: " أو " هنا مثل قوله: أو تريدون.

وأشبه التأويلات فيها أنه إذا نظر إليه البشر احتمل أن يكون قاب قوسين، أو يكون أدنى.

وهذا الذي ذكرنا أن الضمائر المتقدمة لجبريل هو الصحيح.

وقد ورد ذلك في الحديث عن سيدنا [ ص: 172 ] ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم.

وقيل: إنها لله تعالى، وهذا القول يرد عليه الحديث والعقل.

إذ يجب تنزيه الله تعالى عن تلك الأوصاف من الدنو والتدلي وغير ذلك.

" قاضية " [الحاقة: 27] : يعني من أعطي كتابه بشماله يتمنى أن يكون مات في الموتة الأولى بحيث لا يكون بعدها بعث ولا حياة.

" قاسطون " [الجن: 14] : من قسط الثلاثي يعني جار، وأقسط الرباعي - بالألف، إذا عدل.

بالرومية، ومنه: " إن الله يحب المقسطين " [المائدة: 42، والحجرات:9 ، والممتحنة: 8].

"قصص" [القصص: 25] : له معنيان: من الحديث، ومن قص الأثر.

ومنه: فارتدا على آثارهما قصصا [الكهف: 64] ، قصيه [القصص: 11].

قسورة [المدثر: 51] : ابن عباس: هو الرامي.

وقال أيضا القسورة بلغة أهل الحبشة هو الأسد.

وقيل: أصوات الناس.

وقيل: الرجال الشداد، وقيل: سواد أول الليل.

فإن قلت: سواد أول الليل لا يليق؛ لأن اللفظة مأخوذة من القسر الذي هو للقهر والغلبة؟

والجواب: أنه يليق باللفظة؛ لأنه لا شيء أشد نفارا لحمر الوحش من قرب الظلام لتوحشها.

قمطريرا [الإنسان: 10] : معناه طويل، وقيل: شديد.

قواريرا قواريرا [الإنسان: 15، 16].

منونين، وبتنوين الأول، وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق؛ لأنه فاصلة، والثاني لإتباعه الأول.

وقرئ: "قوارير" -بالرفع، على: هي قوارير، والضمير في: قدروها تقديرا يحتمل أن يكون للطائفين وأن يكون للمنعمين، ومعنى تقديرهم أنهم قدروها في أنفسهم، أو تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم، فجاءت كما قدروا، والتقدير [ ص: 173 ] إما أن يكون على قدر الأكف، قاله الربيع، أو على قدر الري، قاله مجاهد.

قال ابن عطية: وهذا كله على قراءة من قرأ: قدروها بفتح القاف.

وقرئ: "قدروها" على البناء للمفعول، ووجهه أن يكون من قدر منقولا من قدر، تقول: قدرت الشيء، وقدرك على فلان إذا جعلك قادرا له.

والمعنى: جعلوا قادرين له كما شاءوا، وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا.

فإن قيل: من المعلوم أن القارورة من الزجاج، فكيف قال من فضة؟ فالجواب أن المراد أنها في أصلها من فضة، وهي تشبه الزجاج في صفائها وشفيفها.

وقيل: هي من زجاج، وجعلها من فضة على وجه التشبيه لشرف الفضة وبياضها.

"قصر" [المرسلات: 32]: واحد القصور، وهي الديار العظام.

وقد قدمنا وجه تشبيه الشرر به في عظمه وارتفاعه في الهواء.

وقيل: هو الغليظ من الشجر واحده قصرة كجمرة.

وقضبا [عبس: 28] ، هي الفصفصة، وقيل: علف البهائم.

واختار ابن عطية أنها البقول وشبهها مما يؤكل رطبا.

قيمة [البينة: 3] : فيعلة، وفيه مبالغة، تقديره: الملة القيمة أو الجماعة القيمة، ومعناه أن الذي أمروا به من عبادة الله والإخلاص له، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، هو دين الإسلام، فلأي شيء لا يدخلون فيه؟

قرآنا [الجن: 1] : يكون بمعنى القراءة، ويقال: فلان يقرأ قرآنا حسنا، ومنه: إن قرآن الفجر كان مشهودا [الإسراء: 78] .

وقد قدمنا أنه لا يسمى بهذا الاسم غير كتاب الله؛ لأنه يجمع السور ويضمها، والقارئ من له القراءة ومن لا قراءة له فليس بقارئ، ولا يكون قارئا إلا عند وجود القراءة، ولو كانت القراءة قديمة لكان يجب أن يكون الحافظ لكتاب الله قارئا له في جميع أحواله، فلما بطل ذلك دل على أنها محدثة، والقراءة غير الحفظ، [ ص: 174 ] والكتابة غير السمع.

والمتلو والمقروء والمحفوظ والمكتوب والمسموع واحد، ولهذا لو قال: والله لا قرأت القرآن ثم سمعه من غيره لم يحنث، وهكذا لو قال: والله لا حفظت القرآن ثم كتبه أو قرأه أو سمعه من غير أن يحفظه لا يحنث، فدل ذلك على تغاير الكتابة والقراءة والحفظ والسمع. والله أعلم.

وقري عينا [مريم: 26] أي: طيبي نفسا لما فعل الله لك من ولادة نبي كريم، أو من تيسير المأكول أو المشروب، كقولك: قررت به عينا أقر بالكسر في الماضي والفتح في المضارع، وقررت بالمكان بالفتح في الماضي، والكسر في المضارع.

" قرضا " [الحديد: 11، 18] : سلفا، والفعل منه أقرض يقرض.

قلنا [البقرة: 34] : مذهب العرب إذا أخبر الرئيس منها عن نفسه قال: قلنا وفعلنا وصنعنا، لعلمه أن أتباعه يفعلون بأمره كفعله، ويجرون على مثل أمره، ثم كثر الاستعمال بذلك حتى صار الرجل من السوقة يقول: فعلنا وصنعنا.

والأصل ما ذكرت.

قروء [البقرة: 228] : جمع قرء، وهو مشترك في اللغة بين الطهر والحيض، فحمله مالك والشافعي على الطهر لإثبات التاء في ثلاثة، فإن الطهر مذكر والحيض مؤنث، ولقول عائشة رضي الله عنها: الأقراء هي الأطهار.

وحمله أبو حنيفة على الحيض؛ لأنه الدليل على براءة الرحم، وذلك مقصود العدة، فعلى قول مالك والشافعي تنقضي العدة بالدخول في الحيضة الثالثة، إذا طلقها في طهر لم يمسها فيه، وعند أبي حنيفة بالطهر منها.

" قربان " [آل عمران: 183] : ما يتقرب به إلى الله عز وجل من ذبح وغيره، والقربة هي الطاعة، ومن شرطها العلم بالمتقرب إليه، فمحال وجود القربة قبل العلم بالمعبود والنظر والاستدلال المؤديين إلى معرفته عز وجل، فهو واجب وطاعة له، فكل قربة طاعة، وليست كل طاعة قربة؛ لأن الصلاة في [ ص: 175 ] الدار المغصوبة تقع واجبة وطاعة، وليست بقربة؛ لأنه لا يثاب عليها، وإنما الفرض يسقط عند الفقهاء والمتكلمين من أهل الحق، ومن لا قربة له فليس بمتقرب.

ولا يقال: متقرب إلا لمن كثرت قربه وطاعته.

" قبلا " [الأنعام: 111، والكهف: 55]: أصناف، جمع قبيل، أي: صنف صنف.

وقبلا أيضا جمع قبيل، أي: كفيل.

وقبلا أيضا مقابلة.

وقبلا عيانا.

وقبلا استئنافا.

وقول سليمان: لا قبل لهم بها ، أي: لا طاقة لهم.

"قسطاس" [الإسراء: 35، والشعراء: 182]: قال مجاهد: هو العدل بالرومية.

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، قال: القسطاس - بلغة الروم: الميزان.

"قمل" [الأعراف: 133] - بضم القاف وتشديد الميم: صغار الجراد.

وقيل: البراغيث.

وقال الواسطي: هو الذبان بلسان العبرانية والسريانية.

وقرئ بفتح القاف والتخفيف، وهو على هذا القمل المعروف، وكانت تتعلق بلحومهم، ومن طبعها أن تكون في الشعر الأحمر أحمر وفي الأسود أسود وفي الأبيض أبيض، ومتى تغير الشعر تغير إلى لونه، وهو من الحيوان الذي إناثه أكبر من ذكوره.

وقيل: إن الصئبان بيضه.

وأما قملة النسر التي تسقط منه إذا عضت قتلت.

وروي أن موسى عليه السلام مشى بعصاه إلى كثيب أهيل، فضربه فانتشر كله قملا في مصر.

ثم إنهم قالوا: ادع لنا ربك في كشف هذا عنا، فدعا، فرجعوا إلى كفرهم.

وروى الترمذي الحكيم أنه إذا وجد الجالس على الخلاء قملة لا يقتلها، بل يدفنها، لما روي أنه من قتل قملة على رأس خلائه بات معه في شعاره شيطانة تنسيه ذكر الله أربعين صباحا.

وقد رخص -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن بن عوف والزبير ابن العوام لبس الحرير لدفع القمل؛ لأنه لا يقمل بالخاصية.

قال الجاحظ، وربما كان للإنسان قمل الطباع، وإن تنظف وتعطر وبدل الثياب، فعند الشافعية يجوز [ ص: 176 ] لبس الحرير لهذه النازلة.

وقال مالك: لا يجوز لبسه مطلقا؛ لأن وقائع الأحوال عنده لا تعم.

وفي فتاوى قاضي خان: لا بأس أن يطرح القملة حية، والأدب أن يقتلها.

وإذا رأى المصلي في ثوبه قملة أو برغوثا فالأولى أن يتغافل عنها.

فإن ألقاها بيده أو أمسكها حتى يفرغ فلا بأس، فإن قتلها في الصلاة عفي عن دمها دون جلدها، فإن قتلها وتعلق جلدها بظفره أو ثوبه بطلت صلاته.

قال الغزالي: ولا بأس بقتلها كما لا بأس بقتل الحية والعقرب.

قال القمولي: ولا بأس بإلقائها بغير المسجد، والذي قاله صحيح، للحديث: "إذا وجد أحدكم القملة في المسجد فليصرها في ثوبه حتى يخرج من المسجد".

رواه الإمام أحمد في الصحيح.

وروى الحاكم في أوائل المستدرك من حديث أبي سعيد أنه قال: قلت: يا رسول الله، من أشد الناس بلاء، قال: الأنبياء.

قال: ثم من؟ قال: العلماء.

قال: ثم من؟ قال: الصالحون، كان أحدهم يبتلى بالقمل حتى تقتله، ويبتلى أحدهم بالفقر حتى لا يجد إلا العباءة يلبسها، ولأحدهم كان أشد فرحا بالملأ من أحدكم بالعطاء،
قال: صحيح على شرط مسلم.

قرت عين لي ولك [القصص: 9] : مشتق من القر، وهو الماء البارد، ومعنى قولهم: أقر الله عينك: أبرد الله دمعك؛ لأن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة.

وقدور راسيات [سبأ: 13] : قد قدمنا أنها ثابتات لا تنزل، لأنها كانت أثافيها منها، ويطبخ فيها الجمل، لا يخرج منها إلا عظامه.

قتل الخراصون [الذاريات: 10] ، أي الكذابون.

والإشارة إلى الكفار.

وقتل معناه: لعن.

قال ابن عطية: واللفظة لا تقتضي ذلك.

وقال الزمخشري: أصله الدعاء بالقتل، ثم جرى مجرى اللعن والقبح.

" قطوفها " [الحاقة: 23، الإنسان: 14] : جمع قطف، وهو ما يجنى من الثمار ويقطف كالعنقود.

[ ص: 177 ] قبلة [البقرة: 144] : جهة، وسميت الكعبة بذلك لأنها تقابل المصلي ويقابلها.

" قيلا ، وقولا" بمعنى واحد، ومنه: وأقوم قيلا [المزمل: 6] .

قسيسين [المائدة: 82] : جمع قس، وهو العالم.

وفي الحديث: يبعث ابن ساعدة أمة وحده.

وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: رأيته على جمل بعكاظ، وهو يقول: أيها الناس اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالإقامة فأقاموا، أم تركوا هنالك وناموا، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض عبرا.

سقف مرفوع، ومهاد موضوع، وبحار تمور، ونجوم تحور، ثم تعود.

أقسم بالله قسما لا كذب فيه ولا إثما: إن لله لدينا هو أرضى من دين نحن عليه، ثم تكلم بأبيات شعر لا أدري ما هي.

قال أبو بكر: كنت حاضرا، والأبيات عندي.

وأنشد:


في الذاهبين الأولي ن من القرون لنا بصائر


لما رأيت مواردا     للموت ليس لها مصادر


ورأيت قومي نحوها     يمشي الأكابر والأصاغر


لا يرجع الماضي ولا     يبقى من الباقين غابر


أيقنت أني لا محا     لة حيث صار القوم صائر

وقوله هذا يدل على أنه تنبه بعقله في هذه، فاتعظ واعتبر، ولو أدركته الرسالة لنبه بعقله من كان في جهالة.

قطعا من الليل مظلما [يونس: 27] : جمع قطعة، ومن قرأ قطعا - بتسكين الطاء - أراد اسم ما قطع، تقول: قطعت الشيء قطعا، بفتح القاف من المصادر، واسم ما قطعت، والجمع أقطاع، مظلما على قراءة فتح الطاء حال من الليل، وأما على إسكانها فصفة له أو حال من الليل.

[ ص: 178 ] قطع متجاورات [الرعد: 4] : قد قدمنا أن معناها قرى متصلة، ومع تلاصقها فإن أرضها تتنوع إلى طيب ورديء، وصلب ورخو، وغير ذلك.

"قيعة" [النور: 39] : جمع قاع، وهو المنبسط من الأرض.

وقيل: القيعة بمعنى القاع، وليس بجمع.

قرن [الأنعام: 6] : مفرد قرون، وهو مائة سنة، وقيل: سبعون، وقيل: أربعون.

فإن قلت: قد ورد في آيات من القرآن زيادة: "من" كآية الأنعام [6] ، ويس [3] ، وفي السجدة: أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم [السجدة: 26] .

وفي "ص": كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص [ص: 3] ، هذه، الآيات الثلاث بزيادة: " من " فيها، وسائرها ورد في القرآن مثل هذه الآي لم تزد فيها "من"؟

والجواب أنها تزاد حيث يراد تأكيد مضمن الآي من العصاة، والإشارة إلى الوعيد، وهي أبدا في أمثال هذه المواضع محرزة معنى التأكيد لا تنفك عن ذلك، ثم إن حذفها أوجز من إثباتها، ولكل مقام مقال، فحيث ورد من هذه الآي ما قبله استيفاء تفصيل وعيدي في أمة بعينها أو أكثر، أو تكرر التهديد وشدة التخويف من مقتضى السياق وهو فحوى الكلام، فذلك موضع زيادتها والتأكيد بإثباتها، وحيث لا يتقدم تفصيل على ما ذكرناه، أو تكون آية التهديد لا تبلغ في اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد، فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها؛ إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد في الآي الأخر.

وقرن في بيوتكن [الأحزاب: 33] : قرئ بكسر القاف، ويحتمل وجهين: أحدها أن يكون من الوقار، أو من القرار في الموضع، ثم حذفت الراء الواحدة كما حذفت اللام في: ظلت .

وأما القراءة بالفتح فمن القرار في الموضع على لغة من يقول: قررت بالكسر أقر بالفتح.

والمشهور في اللغة عكس ذلك.

[ ص: 179 ] وقيل: هو من قار يقار إذا اجتمع.

ومعنى القرار أرجح؛ لأن سودة رضي الله عنها قيل لها: لم تحتجبين؟ فقالت: أمرنا الله أن نقر في بيوتنا، وكانت عائشة إذا قرأت هذه الآية تبكي على خروجها أيام الجمل، وحينئذ قال لها عمار: إن الله أمرك أن تقري في بيتك.

قال رب إني قتلت منهم نفسا [القصص: 33] : هذا من قول موسى، والإشارة بالنفس إلى القبطي، فقال الله: ألم أحفظ خضرة الشجرة من النار لم تحرقها ولم تضرها، فكذلك يا موسى أحفظك وأنجيك من فرعون ولا يضرك بشيء، فلما خرج موسى من مصر حين قتل القبطي سأل الله الهداية، فقال: ربي أن يهديني سواء السبيل [القصص: 22] ، فلم يجبه حتى بعث إلى مصر ثانية، فقال عند خروجه: سمعت نداءك وأجبتك، واليوم هديتك إلى كلامي، إني أنا الله العزيز الحكيم، فكذلك أنت يا مؤمن لما أنزلتك إلى الدنيا عرفت المحن التي توجهت إليك، فقلت: اهدنا الصراط المستقيم، فأسمع وأجيب، تم إذا قرب رجوعك إلي وفوضت أمرك إلي أقول لك: إني أنا الغفور الرحيم، وأجعل الجنة منزلك ومثواك، كما جعلت ديار فرعون ومقامه ميراثا لبني إسرائيل، فقلت: كم تركوا من جنات وعيون [الدخان: 25] .

فإن قلت: ما ورد في الشعراء [59] ، أن الله أهلك القبط على أيدي بني إسرائيل وأورثهم ملكه وديارهم، والذي في الدخان [28] ، أن الله أورثها آخرين ليسوا هم؟ الجواب أنه وقع الخلاف في رجوع بني إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون، وقد قدمنا في مشهور التواريخ أنهم لم يرجعوا إليها ولا ملكوها قط، وإنما أمرهم الله بدخول الأرض المقدسة، ولهذا قال قتادة: القوم الآخرون هم بنو إسرائيل، فورثوا نوعها في بلاد الشام، وإنما سماهم آخرين؛ لأنهم ليسوا منهم في شيء من قرابة ولا دين ولا ولاء؛ لأنهم كانوا مسخرين مستعبدين في أيديهم . [ ص: 180 ] وقد ذكر الثعلبي عن الحسن أن بني إسرائيل لما رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون -ويقوي قوله آية الشعراء- إليه، ونصبه بالكاف في كذلك يدل على رجوعهم، أي: مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها، وأورثناها لهم، وسماها وراثة من حيث كانت لأناس ووصلت إلى آخرين بعد موت الأولين، وهو حقيقة الميراث في اللغة وربطها الشرع بالنسب وغيره من أسباب الميراث.

قطنا [ص: 16] : قد قدمنا أن القط في اللغة له معنيان: أحدهما الكتاب بالنبطية، والآخر النصيب.

وفي معناه - في قوله: وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب [ص: 16] ، ثلاثة أقوال: أحدها نصيبا من الخير، أي: دعوا أن يعجل الله لهم في الدنيا.

والآخر نصيبهم من العذاب، فهو كقولهم: فأمطر علينا حجارة من السماء [الأنفال: 32] .

والثالث صحائف أعمالنا.

فتبا لقوم طبع الله على قلوبهم وطلبوا الحجارة أو العذاب مع علمهم أنه الحق ولولا أن الله رحمهم بوجوده معهم لعاجلهم بالحجارة ونزول العذاب، لكنه -صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالم، كما قال تعالى: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم [الأنفال: 33] .

وقال معاوية لرجل من أهل سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا أمرهم امرأة! فقال له: قومك أجهل من قومي حيث قالوا حين دعاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الحق: إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة .

ولم يقولوا: اهدنا له.

فإن قلت: قد قال بعدها: وما لهم ألا يعذبهم الله [الأنفال: 34] ، وهي مناقضة لقوله تعالى: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم [الأنفال: 33] ؟ فالجواب أن هذه الآية نزلت كلها بمكة إثر قولهم: أو ائتنا بعذاب أليم [الأنفال: 32] .

ونزل قوله: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون [الأنفال: 33] ، عند خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة في طريقه إلى المدينة، وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون.

وقيل: إن قوله: وما لهم ألا يعذبهم الله نسخ [ ص: 181 ] لقوله: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون - وفيه نظر؛ لأن الخبر لا يدخله نسخ.

والظاهر أن: وما لهم ألا يعذبهم الله - يقتضي الوعيد.

وتقديره: وما يملكهم، أو ما يدريهم، ونحو هذا من الأفعال التي توجب أن تكون: " أن " في موضع نصب.

وقال الطبري: تقديره: وما يمنعهم أن يعذبوا.

قال ابن عطية: والظاهر في قوله: " وما " أنها استفهام على جهة التقرير والتوبيخ والسؤال، وهذا أفصح في القول، وأقطع في الحجة.

والمعنى: وأي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم وهم معذبون لا محالة، وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدون عن المسجد الحرام جورا وتعديا عام الحديبية، وإخراجهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الصد.

" قد " : حرف يختص بالفعل المتصرف الخبري المثبت المجرد من ناصب وجازم، وحرف تنفيس ماضيا أو مضارعا.

ولها معان: التحقيق مع الماضي، نحو: قد أفلح المؤمنون [المؤمنون: 1] .

قد أفلح من زكاها [الشمس: 9] ، وهي في الجملة الفعلية المجاب بها القسم.

مثل إن واللام في الاسمية المجاب بها في إفادة التوكيد والتقريب مع الماضي أيضا، تقربه من الحال، تقول: قام زيد، فيحتمل الماضي القريب والماضي البعيد.

فإن قلت: قد قام، اختص بالقريب.

قال النحاة: وانبنى على إفادتها ذلك أحكام، منها: منع دخولها على ليس.

وعسى، ونعم، وبئس، لأنهن للحال، فلا معنى لذكر ما يقرب ما هو حاصل، ولأنهن لا يفدن الزمان.

ومنها وجوب دخولها على الماضي الواقع حالا، إما ظاهرة، نحو: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا [البقرة: 246] .

أو مقدرة، نحو: هذه بضاعتنا ردت إلينا [يوسف: 65] .

أو جاءوكم حصرت صدورهم [النساء: 90] .

وخالف في ذلك الكوفيون والأخفش، فقالوا: لا يحتاج إلى ذلك لكثرة وقوعه حالا بدون قد.

[ ص: 182 ] وقال السيد الجرجاني وشيخنا العلامة الكافيجي: ما قاله البصريون غلط، سببه اشتباه لفظ الحال عليهم، فإن الحال الذي يقربه " قد " حال الزمان، والحال المبين للهيئة حال الصفات، وهما متغايران.

المعنى الثالث التقليل مع المضارع، قال في المغني: وهو ضربان تقليل وقوع الفعل نحو: قد يصدق الكذوب.

وتقليل متعلق الفعل نحو: قد يعلم ما أنتم عليه [النور: 64] ، أي: أن ما هم عليه هو أقل معلوماته تعالى، قال: وزعم بعضهم أنها في هذه الآية ونحوها للتحقيق.

وممن قال بذلك الزمخشري، قال: إنها دخلت لتوكيد العلم، ويرجع ذلك إلى توكيد الوعيد.

الرابع: التكثير، ذكره سيبويه وغيره، وخرج عليه الزمخشري: قد نرى تقلب وجهك في السماء [البقرة: 144] ، أي: ربما نرى، ومعناه تكثير الرؤية.

الخامس: التوقع، نحو: قد يقدم الغائب لمن يتوقع وقوعه وينتظره.

وقد قامت الصلاة؛ لأن الجماعة ينتظرون ذلك، وحمل عليه بعضهم قوله تعالى: قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها [المجادلة: 1] ، لأنها كانت تتوقع إجابة الله لدعائها.

التالي السابق


الخدمات العلمية