الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
2- جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه :

قام أبو بكر بأمر الإسلام بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وواجهته أحداث جسام في ارتداد جمهرة العرب ، فجهز الجيوش وأوفدها لحروب المرتدين ، وكانت غزوة أهل اليمامة سنة اثنتي عشرة للهجرة تضم عددا كبيرا من الصحابة القراء ، فاستشهد في هذه الغزوة سبعون قارئا من الصحابة ، فهال ذلك عمر بن الخطاب ، ودخل على [ ص: 121 ] أبي بكر -رضي الله عنه- وأشار عليه بجمع القرآن وكتابته خشية الضياع ، فإن القتل قد استحر يوم اليمامة بالقراء - ويخشى إن استحر بهم في المواطن الأخرى أن يضيع القرآن وينسى ، فنفر أبو بكر من هذه المقالة وكبر عليه أن يفعل ما لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وظل عمر يراوده حتى شرح الله صدر أبي بكر لهذا الأمر ، ثم أرسل إلى زيد بن ثابت لمكانته في القراءة والكتابة والفهم والعقل ، وشهوده العرضة الأخيرة ، وقص عليه قول عمر - فنفر زيد من ذلك كما نفر أبو بكر من قبل ، وتراجعا حتى طابت نفس زيد للكتابة ، وبدأ زيد بن ثابت في مهمته الشاقة معتمدا على المحفوظ في صدور القراء ، والمكتوب لدى الكتبة ، وبقيت تلك الصحف عند أبي بكر ، حتى إذا توفي سنة ثلاث عشرة للهجرة صارت بعده إلى عمر ، وظلت عنده حتى مات - ثم كانت عند حفصة ابنته صدرا من ولاية عثمان حتى طلبها عثمان من حفصة .

عن زيد بن ثابت قال : " أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة ، فإذا عمر بن الخطاب عنده ، فقال أبو بكر : إن عمر أتاني فقال : إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن ، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن ، وإني أريد أن تأمر بجمع القرآن ، فقلت لعمر : كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : عمر : هو والله خير ، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر - قال زيد : قال : أبو بكر : إنك شاب عاقل لا نتهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- .

فتتبع القرآن فاجمعه ، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل مما أمرني به من جمع القرآن ، قلت : كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : هو والله خير ، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر ، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال ، ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري ، لم أجدها مع غيره لقد جاءكم رسول من أنفسكم 1 ، حتى خاتمة براءة ، فكانت [ ص: 122 ] الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حياته ، ثم عند حفصة بنت عمر “ .

وقد راعى زيد بن ثابت نهاية التثبت ، فكان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة ، وقوله في الحديث : " ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره " لا ينافي هذا ، ولا يعني أنها ليست متواترة ، وإنما المراد أنه لم يجدها مكتوبة عند غيره ، وكان زيد يحفظها ، وكان كثير من الصحابة يحفظونها كذلك ، لأن زيدا كان يعتمد على الحفظ والكتابة معا ، فكانت هذه الآية محفوظة عند كثير منهم ، ويشهدون بأنها كتبت ، ولكنها لم توجد مكتوبة إلا عند أبي خزيمة الأنصاري .

أخرج ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال : " قدم عمر فقال : من كان تلقى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئا من القرآن فليأت به ، وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب ، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان " وهذا يدل على أن زيدا كان لا يكتفي بمجرد وجدانه مكتوبا حتى يشهد به من تلقاه سماعا ، مع كون زيد كان يحفظ ، فكان يفعل ذلك مبالغة من الاحتياط ، وأخرج ابن أبي داود أيضا من طريق هشام بن عروة .

عن أبيه : أن أبا بكر قال لعمر ولزيد : اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه " ورجاله ثقات مع انقطاعه ، قال ابن حجر : " وكأن المراد بالشاهدين : الحفظ والكتاب " وقال السخاوي في " جمال القراء " : " والمراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو المراد أنهما يشهدان على أن ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن " قال أبو شامة : " وكان [ ص: 123 ] غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- لا من مجرد الحفظ ، ولذلك قال في آخر سورة التوبة : " لم أجدها مع غيره " أي لم أجدها مكتوبة مع غيره لأنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة “ .

وقد عرفنا أن القرآن كان مكتوبا من قبل في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب . فأمر أبو بكر بجمعه في مصحف واحد مرتب الآيات والسور وأن تكون كتابته غاية من التثبيت مشتملة على الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ، فكان أبو بكر -رضي الله عنه- أول من جمع القرآن بهذه الصفة في مصحف ، وإن وجدت مصاحف فردية عند بعض الصحابة ، كمصحف علي ، ومصحف أبي ، ومصحف ابن مسعود ، فإنها لم تكن على هذا النحو ، ولم تنل حظها من التحري والدقة ، والجمع والترتيب ، والاقتصار على ما لم تنسخ تلاوته ، والإجماع عليها ، بمثل ما نال مصحف أبي بكر ، فهذه الخصائص تميز بها جمع أبي بكر للقرآن ، ويرى بعض العلماء أن تسمية القرآن بالمصحف نشأت منذ ذلك الحين في عهد أبي بكر بهذا الجمع ، وعن علي قال : " أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر ، رحمة الله على أبي بكر ، هو أول من جمع كتاب الله " .

وهذا الجمع هو المسمى بالجمع الثاني . .

"

التالي السابق


الخدمات العلمية