الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : وإن تطيب أو لبس أو حلق بعذر ذبح شاة أو تصدق بثلاثة أصوع على ستة أو صام ثلاثة أيام ) لقوله تعالى { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } ، وكلمة أو للتخيير ، وقد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا والآية نزلت في المعذور ، وهو كعب بن عجرة الذي أذاه هوام رأسه فأبيح له [ ص: 14 ] الحلق كما في صحيح البخاري ، وهي وإن نزلت في حلق الرأس لكن قيس الطيب واللبس والقص عليه لوجود الجامع ، وهو المرض أو الأذى كذا في غاية البيان وظاهر النهاية أنه إلحاق له بطريق الدلالة ; لأنه في معنى المنصوص عليه ، وهو الأولى لما عرف في الأصول أن ما ثبت بخلاف القياس فغيره عليه لا يقاس فهو كإلحاق الأكل والشرب بالجماع في كفارة الفطر في رمضان ، وفسر العذر المبيح كما ذكره قاضي خان في فتاويه بخوف الهلاك من البرد والمرض أو لبس السلاح للقتال ، وهكذا في الظهيرية ، وفتح القدير . ولعل المراد بالخوف الظن لا مجرد الوهم فإذا غلب على ظنه هلاكه أو مرضه من البرد جاز له تغطية رأسه مثلا أو ستر بدنه بالمخيط لكن بشرط أن لا يتعدى موضع الضرورة فيغطي رأسه بالقلنسوة فقط إن اندفعت الضرورة بها وحينئذ فلف العمامة عليها حرام موجب للدم أو الصدقة كما قدمناه .

                                                                                        وكذا إذا اندفعت الضرورة بلبس جبة فلبس جبتين فإنه يكون آثما إلا أنه لا دم عليه حيث كان اللبس على موضع الضرورة إنما يلزمه كفارة مخيرة كما قدمناه ذكره الإمام ابن أمير حاج الحلبي في مناسكه فليحفظ هذا فإن كثيرا من المحرمين يغفل عنه كما شاهدناه .

                                                                                        فالحاصل أنه لا إثم عليه إذا كان لعذر ويأثم إذا كان لغيره وصرحوا بالحرمة ، ولم أر لهم صريحا هل ذبح الدم أو التصدق مكفر لهذا الإثم مزيل له من غير توبة أو لا بد منها معه وينبغي أن يكون مبنيا على الاختلاف في الحدود هل هي كفارات لأهلها أو لا هل يخرج الحج عن أن يكون مبرورا بارتكاب هذه الجناية ، وإن كفر عنها أو لا الظاهر بحثا لا نقلا أنه لا يخرج [ ص: 15 ] والله أعلم بحقيقة الحال . وقيد بالعذر ; لأنه لو فعل شيئا منها لغيره لزمه دم أو صدقة معينة ، ولا يجزئه غيره كما صرح به الإمام الإسبيجابي وبهذا ظهر ضعف ما قدمناه عن الظهيرية من أنه إن لم يقدر على الدم يصوم ثلاثة أيام ، ولم أره لغيرها ، وإنما لم يقيد المصنف ذبح الشاة بالحرم مع أنه مقيد به اتفاقا لما سنبينه في باب الهدي أن الكل مختص بالحرم فإن ذبح في غيره ( الحرم ) لا يجزئه عن الذبح إلا إذا تصدق بلحمه على ستة مساكين على كل واحد منهم قدر قيمة نصف صاع من حنطة فإنه يجوز بدلا عن الإطعام كذا ذكره الإسبيجابي ، ولا يختص بزمان اتفاقا .

                                                                                        وأشار بقوله ذبح إلى أنه يخرج عن العهدة بالذبح حتى لو هلك المذبوح بعده أو سرق فإنه لا شيء عليه بخلاف ما إذا سرق ، وهو حي فإنه يلزمه غيره .

                                                                                        ومقتضاه جواز الأكل منه كهدي المتعة والقران والأضحية لكن الواقع لزوم التصدق بجميع لحمه كما سيأتي في بابه ; لأنه كفارة فالحاصل أن له جهتين جهة الإراقة وجهة التصدق فللأولى لا يجب غيره إذا سرق مذبوحا وللثانية يتصدق بلحمه ، ولا يأكل منه كذا في فتح القدير ، وأطلق في التصدق والصوم فأفاد أن له التصدق في غير الحرم ، وفيه على غير أهله . قال : في المحيط والتصدق على فقراء مكة أفضل ، وإنما لم يتقيد بالحرم لإطلاق النص بخلاف الذبح ; لأن النسك في اللغة الدم المهراق بمكة ويقال للمذبوح لوجه الله تعالى ويقال لكل عبادة ، ومنه قوله تعالى : { إن صلاتي ونسكي } كما في المغرب .

                                                                                        وأشار المصنف بلفظ التصدق الموافق للفظ الصدقة المذكورة في الآية إلى أن طعام الإباحة لا يكفي ; لأن التصدق ينبئ عن التمليك لقوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة } وحكى خلافا في المجمع بين أبي يوسف ومحمد فعند أبي يوسف تكفي الإباحة ، وعند محمد لا بد من التمليك ورجح في غاية البيان قول أبي يوسف بأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الصدقة بالإطعام هنا فكان ككفارة اليمين وتعقبه في فتح القدير بأن الحديث ليس مفسرا لمجمل بل مبين للمراد بالإطعام ، وهو حديث مشهور عملت به الأمة فجازت الزيادة به ثم المذكور في الآية الصدقة ، وتحقق حقيقتها بالتمليك فيجب أن يحمل في الحديث الإطعام على الإطعام الذي هو الصدقة ، وإلا كان معارضا ، وغاية الأمر أنه يعتبر بالاسم الأعم . انتهى . فالحاصل ترجيح قول محمد رحمه الله ولهذا قيل إن قول أبي حنيفة رحمه الله كقوله كما في الظهيرية لكن ذكر الإسبيجابي أن أبا حنيفة مع أبي يوسف رحمهما الله ، وأفاد المصنف بإطلاقه أن الصوم يجوز متفرقا ، ومتتابعا كما صرح به الإسبيجابي .

                                                                                        والأصوع على وزن أرجل جمع صاع وظاهر كلامهم أنه لا بد من التصدق على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع حتى لو تصدق بالثلاثة على أقل من ستة أو على أكثر منها بها فإنه لا يجوز ; لأن العدد منصوص عليه في الحديث وينبغي على القول بجواز الإباحة أنه لو غدى مسكينا واحدا ، و عشاه ستة أيام يجوز أخذا من مسألة الكفارات ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                                                                        [ ص: 14 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 14 ] ( قوله : وحينئذ فلف العمامة عليها حرام موجب للدم أو الصدقة كما قدمناه ) لم يقدم ذلك بل قدمنا عن الفتح والمعراج والغاية ما هو صريح في خلافه ، وقد نبه على ذلك في الشرنبلالية فقال : وليتنبه لما ذكره صاحب النهر في هذا المحل ; لأنه مخالف لما قدمناه عن الفتح وبه صرح في تحفة الفقهاء أيضا على أن صاحب البحر ناقض هذا بقوله بعده ، وكذا إذا اندفعت الضرورة إلخ . ا هـ .

                                                                                        قلت : ولعل مراده ما إذا كانت العمامة نازلة بحيث تغطي ربعا مما تحرم تغطيته فحينئذ يجب دم إن كان يوما ، وإلا فصدقة تأمل ثم رأيته في شرح اللباب أجاب عن مثل ذلك بنحو ما ذكرنا حيث قال : وفي المحيط إذا اضطر إلى تغطية رأسه فلبس قلنسوة ، ولف عمامة يلزمه كفارة واحدة ، ولو وضع قميصا على رأسه ، وقلنسوة يلزمه للضرورة فدية يتخير فيها بلبس القلنسوة ويلزمه دم للقميص ; لأنه لا حاجة للرأس إلى القميص بخلاف القلنسوة والعمامة ، هكذا ذكره الفارسي والطرابلسي ، وهو غريب مخالف للأصول والفروع ; لأن الموجب هو التغطية ، وقد حصلت بواحد منهما ، ولا يتعدد الجزاء بتعدد الملبوس في موضع واحد سواء كان لعذر أم لا اللهم إلا أن يحمل على أن الضرورة ملجئة إلى قدر قلنسوة غير مستوعبة للرأس بأن يكون ربعه ليس فيه عذر فوضع على رأسه قميصا بحيث غطى رأسه جميعه فإنه حينئذ فيه جزاءان بلا شبهة جزاء لغير عذر ، وجزاء لمكان الضرورة . ا هـ .

                                                                                        ( قوله : ولم أر لهم صريحا إلخ ) نقل البحث في النهر والشرنبلالية وغيرهما ، وأقروه عليه ( قوله : وينبغي أن يكون مبنيا إلخ ) قال نوح أفندي قلت قال في الملتقط في باب الأيمان إن الكفارات ترفع الإثم ، وإن لم توجد عنه التوبة من تلك الجناية . ا هـ .

                                                                                        وفي البدائع ما يخالفه فإنه ذكر فيه ما حاصله أنه لا بد في الجنايات التي فيها الكفارة من التوبة والاستغفار كما في الجنايات التي ليست فيها كفارة معهودة ورجحوا ما في البدائع وحملوا ما في الملتقط على غير المصر ، وقالوا على المصر الكفارة في الدنيا والعذاب في الأخرى إن لم يتب قال : الإمام النسفي في تفسيره المسمى بالتيسير للمصر العذاب في الآخرة مع الكفارة في الدنيا إذا لم يتب ; لأن الكفارة لا ترفع الذنب عن المصر . ا هـ .

                                                                                        فعلى هذا يخرج الحج من أن يكون مبرورا بارتكاب الجناية عمدا مرة بعد أخرى ، وإن كفر عنها صاحبها . ا هـ .

                                                                                        قلت : وهو مقتضى حديث البخاري المار في بحث الوقوف { من حج فلم يرفث ، ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ، ولدته أمه } ، وقد مر في باب الإحرام أن الفسوق المعاصي ثم رأيته في اللباب صرح بأنه لا بد من التوبة مع الكفارة ، وقال : شارحه ، وقد ذكر ابن جماعة عن الأئمة الأربعة أنه إذا ارتكب محظور الإحرام عامدا يأثم ، ولا تخرجه الفدية والعزم عليها عن كونه عاصيا قال النووي : وربما ارتكب بعض العامة شيئا من هذه المحرمات ، وقال : أنا أفدي متوهما أنه بالتزام الفدية يتخلص من وبال المعصية وذلك خطأ صريح وجهل قبيح فإنه يحرم عليه الفعل فإذا خالف أثم ، ولزمته الفدية ، وليست الفدية مبيحة للإقدام على فعل المحرم وجهالة هذا الفاعل كجهالة من يقول أنا أشرب الخمر ، وأزني والحد يطهرني ، ومن فعل شيئا مما يحكم بتحريمه فقد أخرج حجه عن أن يكون مبرورا . ا هـ .

                                                                                        وقد صرح أصحابنا بمثل هذا في الحدود فقالوا إن الحد لا يكون طهرة من الذنوب ، ولا يعمل في سقوط الإثم بل لا بد من التوبة لكن قال : في الملتقط إلخ ثم ذكر شارح اللباب كلام النسفي المار ثم قال : وهذا [ ص: 15 ] تفصيل حسن يجمع به بين الأدلة والروايات ( قوله : وبهذا ظهر ضعف ما قدمناه ) أي قبيل قوله أو حلق ربع رأسه أو لحيته ، وفي حاشية المدني بعد ذكره كلام المؤلف ونقل المنلا رحمه الله في منسكه الكبير نحوه ونقل عن الفارسي والبحر العميق نحو ما ذكره في الظهيرية على وجه الاعتراض عليهما قال شيخنا مولانا السيد محمد أمين ميرغني بعد نقل عبارتهما في رسالة له قلت بل المقرر المنصوص عليه في كثير من كتب المذهب المعتبرة إجزاء الصوم عند العجز عن الدم كما نمليه عليك وسرد الأقوال المؤيدة لكلامه فراجعها إن شئت . ا هـ .

                                                                                        ( قوله : بل مبين للمراد بالإطعام ) كذا في أغلب النسخ ، وفي بعضها للمراد بالإطلاق ، وهي الموافقة لما في الفتح ، وعلى الأولى فقوله بالإطعام متعلق بمبين لا بالمراد أي مبين للمراد من الصدقة في الآية بالإطعام ( قوله : فجازت الزيادة به ) أي جاز بذلك الحديث المشهور تقييد مطلق الكتاب المسمى عندنا بالزيادة على النص كما في التحرير ; لأن المشهور كالمتواتر في ذلك بخلاف خبر الواحد وبيان ما ذكره أن الصدقة في الآية مطلقة تصدق على القليل والكثير ، وقوله عليه السلام { أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع } مشهور فصح بيانا للمراد من المطلق في الآية ثم إن الصدقة تقتضي التمليك لا تتحقق إلا به بخلاف الإطعام فتعارضا ظاهرا فيجب أن يحمل الإطعام على ما فيه تمليك ليكون بمعنى الصدقة في الآية ويندفع التعارض ، وغايته أنه من إطلاق الأعم على الأخص هذا تقرير كلامه فتدبره .




                                                                                        الخدمات العلمية