الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        قوله ( ولا يملك الوقف ) بإجماع الفقهاء كما نقله في فتح القدير ولقوله عليه السلام لعمر رضي الله عنه { تصدق بأصلها لا تباع ولا تورث } ولأنه باللزوم خرج عن ملك الواقف وبلا ملك لا يتمكن من البيع أفاد بمنع تمليكه وتملكه منع رهنه فلا يجوز للمتولي رهنه قال في الخانية المتولي إذا رهن أرض الوقف بدين لا يصح وكذلك أهل الجماعة إذا رهنوا فإن سكن المرتهن الدار قال بعضهم عليه أجر المثل سواء كانت الدار معدة للاستغلال أو لم تكن نظرا للوقف وكذلك متولي المسجد إذا باع منزلا موقوفا على المسجد فسكنها المشتري ثم عزل هذا المتولي وولي غيره فادعى الثاني المنزل على المشتري وأبطل القاضي بيع المتولي وسلم الدار إلى المتولي الثاني فعلى المشتري أجر المثل . ا هـ .

                                                                                        ولا فرق بين أن يكون البائع المتولي أو غيره بل وجوب أجر المثل فيما إذا باعه غير المتولي بالأولى وذكر في القنية أنه لا يجب وهو ضعيف لأنه وإن سكن بتأويل الملك يجب أجر المثل مراعاة للوقف وفي القنية سكنها ثم بان أنها وقف أو لصغير يجب أجر المثل بخلاف ما مر وفي المحيط فإن هدم المشتري البناء فالقاضي بالخيار إن شاء ضمن البائع قيمة البناء وإن شاء ضمن المشتري فإن ضمن البائع [ ص: 222 ] نفذ بيعه لأنه ملكه بالضمان فصار كأنه باع ملك نفسه وإن ضمن المشتري لا ينفذ البيع ويملك المشتري البناء بالضمان ويكون الضمان للوقف لا للموقوف عليهم . ا هـ .

                                                                                        فإن قلت : قال في الخلاصة وفي فوائد شمس الإسلام الواقف إذا افتقر واحتاج إلى الوقف يرفع الأمر إلى القاضي حتى يفسخ إن لم يكن مسجلا . ا هـ .

                                                                                        وفي البزازية والخلاصة ولو وقف محدودا ثم باعه وكتب القاضي شهادته في صك البيع وكتب في الصك باع فلان منزل كذا أو كان كتب وأقر البائع بالبيع لا يكون حكما بصحة البيع ونقض الوقف ولو كتب باع بيعا جائزا صحيحا كان حكما بصحة البيع وبطلان الوقف وإذا أطلق الحاكم وأجاز بيع وقف غير مسجل إن أطلق ذلك للوارث كان حكما بصحة بيع الوقف وإن أطلقه لغير الوارث لا يكون ذلك نقضا للوقف أما إذا بيع الوقف وحكم بصحته قاض كان حكما ببطلان الوقف . ا هـ .

                                                                                        وفي القنية وقف قديم لا يعرف صحته ولا فساده باعه الموقوف عليه لضرورة وقضى القاضي بصحة البيع ينفذ إذا كان وارث الواقف ثم رقم : باعه الوارث لضرورة فالبيع باطل ولو قضى القاضي بصحته ولا يفتح هذا الباب . ا هـ .

                                                                                        قلت : إنه في وقف لم يحكم بصحته ولزومه بدليل قوله في الخلاصة إن لم يكن مسجلا أي محكوما به ومع ذلك الحمل أيضا فهو على قول الإمام المرجوح وعلى قولهما الراجح المفتى به لا يجوز بيعه قبل الحكم بلزومه لا للوارث ولا لغيره ولو قضى قاض بصحة بيعه فإن كان حنفيا مقلدا فحكمه باطل لأنه لا يصح إلا بالصحيح المفتى به فهو معزول بالنسبة إلى القول الضعيف ولذا قال في القنية تفريعا على الصحيح فالبيع باطل ولو قضى القاضي بصحته وقد أفتى به العلامة قاسم وأما ما أفتى به العلامة سراج الدين قارئ الهداية من صحة الحكم ببيعه قبل الحكم بوقفه فمحمول على أن القاضي مجتهد أو سهو منه وظاهر قول المصنف وأصحاب المتون والهداية أنه لا يجوز استبداله ولو خرب وأنه [ ص: 223 ] لا يعود ملكا للواقف ولا لورثته لعدم استثنائهم شيئا من قولهم لا يملك وظاهر قولهم أن الوقف لا يملك ولا يباع يقتضي أن الوقفية لا تبطل بالخراب ولا تعود إلى ملك الواقف ووارثه وأنه لا يجوز الاستبدال ولذا قال الإمام قاضي خان ولو كان الوقف مرسلا لم يذكر فيه شرط الاستبدال لم يكن له أن يبيعها ويستبدل بها وإن كانت أرض الوقف سبخة لا ينتفع بها لأن سبيل الوقف أن يكون مؤبدا لا يباع وإنما تثبت ولاية الاستبدال بالشرط وبدون الشرط لا تثبت فهو كالبيع المطلق عن شرط الخيار لا يملك المشتري رده وإن لحقه في ذلك غبن ا هـ .

                                                                                        وفي الخلاصة وفي فتاوى النسفي بيع عقار المسجد لمصلحة المسجد لا يجوز وإن كان بأمر القاضي وإن كان خرابا فأما بيع النقض فيصح ونقل عن شمس الأئمة الحلواني أنه يجوز للقاضي وللمتولي أن يبيعه ويشتري مكانه آخر وإن لم ينقطع ولكن يؤخذ بثمنه ما هو خير منه للمسجد لا يباع وقد روي عن محمد إذا ضعفت الأرض الموقوفة عن الاستغلال والقيم يجد بثمنها أخرى هي أكثر ريعا كان له أن يبيعها ويشتري بثمنها ما هو أكثر ريعا وفي الفتاوى قيم وقف خاف من السلطان أو من وارث يغلب على أرض وقف يبيعها ويتصدق بثمنها وكذا كل قيم إذا خاف شيئا من ذلك له أن يبيع ويتصدق بثمنها قال الصدر الشهيد والفتوى على أنه لا يبيع وما يوافق هذا ما روى الإمام السرخسي في السير الكبير في بابي الأسير في الدفتر الثاني ذكر مسألة ثم قال وبهذا تبين خطأ من يجوز استبدال الوقف والشيخ الإمام ظهير الدين كان يفتي بجواز الاستبدال ثم رجع ا هـ .

                                                                                        ما في الخلاصة وفي شرح الوقاية أن أبا يوسف يجوز الاستبدال في الوقف من غير شرط إذا ضعفت الأرض من الريع ونحن لا نفتي به وقد شاهدنا في الاستبدال من الفساد ما لا يعد ولا يحصى فإن ظلمة القضاة جعلوه حيلة إلى إبطال أكثر أوقاف المسلمين وفعلوا ما فعلوا . ا هـ .

                                                                                        وفي الذخيرة سئل شمس الأئمة الحلواني عن أوقاف المسجد إذا تعطلت وتعذر استغلالها هل للمتولي أن يبيعها ويشتري مكانها أخرى قال نعم قيل إن لم تتعطل ولكن يؤخذ بثمنها ما هو خير منها هل له أن يبيعها قال لا ومن المشايخ من لم يجوز بيعه تعطل أو لم يتعطل وكذا لم يجوز الاستبدال بالوقف وهكذا فتوى شمس الأئمة السرخسي وقد روينا عن محمد في فصل العمارة إذا ضعفت الأرض الموقوفة عن الاستغلال والقيم يجد بثمنها أرضا أخرى أكثر ريعا له أن يبيع هذه الأرض ويشتري وفي المنتقى قال هشام سمعت محمدا يقول الوقف إذا صار بحيث لا ينتفع به المساكين فللقاضي أن يبيعه ويشتري بثمنه غيره وليس ذلك إلا للقاضي وذكر محمد في السير الكبير مسألة تدل على عدم جواز الاستبدال بالوقف وصورتها الكفار إذا استولوا على بلدة من بلاد المسلمين ثم ظهر عليها المسلمون وقسموها فيما بينهم فأصاب رجل من الغانمين أرضا فجعلها صدقة موقوفة للمساكين ودفعه ا إلى قيم يقوم عليها ثم حضر المالك القديم فليس له أن يأخذها قالوا وهذا لأنه زال عن ملك الواقف وصار بحال لا يقبل النقل من ملك إلى ملك فلا يكون للمالك القديم حق الملك أما على قول أبي حنيفة الوقف باطل حتى كان للواقف أن يبيع الوقف حال حياته فإذا مات يصير ميراثا عنه فكان للمالك القديم حق الأخذ إلا في المسجد خاصة فإن اتخاذ المسجد عنده صحيح ويزول عن مليكة متخذه فلا يكون للمالك القديم حق الأخذ فيه . ا هـ .

                                                                                        وأما ما في الذخيرة وغيرها حانوت احترق في السوق وصار بحيث لا ينتفع به ولا يستأجر ألبتة وحوض محلة خرب وصار بحال لا يمكن عمارته فهو للواقف ولورثته فإن كان واقفه وورثته لا تعرف فهو لقطة زاد في فتاوى الخاصي إذا كان كاللقطة يتصدقون به على فقير ثم يبيعه الفقير [ ص: 224 ] فينتفع بثمنه فقال الصدر الشهيد في جنس هذه المسائل نظر يعني لأن الوقف بعدما خرج إلى الله تعالى لا يعود إلى ملك الواقف وسيأتي تمامه في بيان شروط الواقف عند قوله وإن شرط الولاية لنفسه وفي الخانية المتولي إذا اشترى من غلة المسجد حانوتا أو دارا أو مستغلا آخر جاز لأن هذا من مصالح المسجد فإن أراد المتولي أن يبيع ما اشترى أو باع اختلفوا فيه قال بعضهم لا يجوز هذا البيع لأن هذا صار من أوقاف المسجد وقال بعضهم يجوز هذا البيع وهو الصحيح لأن المشتري لم يذكر شيئا من شرائط الوقف فلا يكون ما اشترى من جملة أوقاف المسجد . ا هـ .

                                                                                        وفي القنية إنما يجوز الشراء بإذن القاضي لأنه لا يستفاد الشراء من مجرد تفويض القوامة إليه فلو استدان في ثمنه وقع الشراء له ا هـ .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله فسكنها المشتري ) قال المقدسي لعله اتفاقي بل وضع يده عليه كاف ( قوله وذكر في القنية أنه لا يجب ) ونصه سم مح سكن الدار سنين يدعي الملك ثم استحقت للوقف بالبينة العادلة لا يجب عليه أجر ما مضى ا هـ .

                                                                                        قال الرملي ما في القنية مذهب المتقدمين ووجوب الأجرة قول المتأخرين كما نص عليه في الإسعاف وصاحب القنية نقل القولين ( قوله بخلاف ما مر ) الإشارة إلى عدم الوجوب في العبارة التي نقلناها عنه ( قوله فإن هدم المشتري البناء إلخ ) في فتاوى قارئ الهداية سئل إذا استأجر شخص دارا وقفا من مؤجر شرعي ثم أنه هدمها بيده العادية وغير معالمها وجعلها طاحونا أو فرنا أو غير ذلك فهل يلزم المستأجر هدم ما بناه وإعادة العين الموقوفة كما كانت أو لا أجاب ينظر القاضي في ذلك إن كان ما غيرها إليه أنفع لجهة الوقف وأكثر ريعا أخذ منه الأجرة وبقي ما عمر لجهة الوقف وهو متبرع بما أنفقه في العمارة ولا يحسب له من الأجرة فإن لم يكن أنفع لجهة الوقف ولا أكثر ريعا ألزم بهدم ما صنع وإعادة الوقف إلى الصفة التي كان [ ص: 222 ] عليها بعد تعزيره بما يليق بحاله . ا هـ .

                                                                                        ( قوله قلت : إنه في وقف لم يحكم بصحته ولزومه إلخ ) قال الرملي أقول : الذي يظهر الإطلاق لأن بيعه استبدال لا فسخ والاستبدال ليس فيه فسخ القضاء السابق حتى يمتنع فإذا رآه حاكم وقضى به بعد استكمال شرائطه فهو قضاء في محل مجتهد فيه والقضاء في مثله يرفع الخلاف فتأمل الفرق يظهر لك الحق وفرق بين الفسخ والإبطال وبين البيع والاستبدال . ا هـ .

                                                                                        ( قوله وأما ما أفتى به العلامة سراج الدين إلخ ) أقول : قد وافق المؤلف في فتاواه ما أفتى به سراج الدين فأفتى بالجواز ثم قال وبهذا أفتى سراج الدين قارئ الهداية وهو شاهد لصحة ما أفتيت به أن الواقف لو باع الوقف غير المسجل وحكم بصحة البيع حاكم نفذ البيع وإن صحح المشايخ قولهما في الوقف لوقوع القضاء في محل الاجتهاد وقد صرح بذلك الإمام البزازي في كتاب الوقف فليراجع ا هـ .

                                                                                        وعبارة البزازية نصها وذكر شمس الإسلام رحمه الله تعالى افتقر الواقف واحتاج إلى الوقف يرفع إلى الحاكم حتى يفسخ إن لم يكن مسجلا وهذا ظاهر على مذهب الإمام رحمه الله وأما على مذهبهما فيصح أيضا لوقوعه في فصل مجتهد . ا هـ .

                                                                                        وعلى هذا مشى تلميذ المؤلف في متن التنوير وشرحه وقال به يندفع ما ذكره العلامة قاسم ومن تبعه لما في السراجية من تصحيح أن المفتي يفتي بقول الإمام أبي حنيفة على الإطلاق ثم بقول أبي يوسف ثم بقول محمد ثم بقول زفر والحسن بن زياد ولا يتخير إذا لم يكن مجتهدا وقول الإمام مصحح أيضا فقد جزم به بعض أصحاب المتون ولم يعولوا على غيره ا هـ .

                                                                                        وعزا مثله في الدر المختار إلى المولى أبي السعود مفتي الروم قلت : وقد أفتى الشيخ سراج الدين بخلاف فتواه الأولى فإنه ذكر بعدها سئل عن رجل وقف وقفا على جهات ولم يحكم به حاكم ثم رجع ووقف على جهات غير الأول وحكم بهذا حنفي هل يصح أو لا أجاب مذهب الإمام إن الوقف لا يلزم إلا بالحكم أو تعليقه بموته ثم يموت قبل أن يرجع عما علقه فعلى هذا يبطل الوقف ويصح الثاني لكن الفتوى في الوقف على قولهما أنه لا يشترط للزومه شيء مما شرطه أبو حنيفة فعلى هذا : الوقف هو الأول وما فعله ثانيا لا اعتبار به إلا أن يكون شرط في وقفه الأول أن له أن يغيره بما شاء من الجهات والمصارف غير الأول فيصح ذلك . ا هـ .

                                                                                        وفي فتاوى العلامة قاسم ما نصه وسئل عن رجل وقف شيئا معينا من ماله على نفسه ثم من بعده على جهة معينة ولم يتصل بحاكم شرعي ثم بعد ذلك وقف ذلك الشيء بعينه على نفسه ثم من بعده على جهة أخرى غير وحكم بصحة هذا الوقف الثاني ولزومه حاكم حنفي في وجه الواقف في ساعة الوقف ولم يتصل الوقف الأول بحاكم أصلا ثم بعد موت الواقف واتصال العين الموقوفة إلى الجهة الثانية حكم حاكم حنفي بصحة الوقف الأول لعدم علمه بالوقف الثاني والحكم به فأي الوقفين هو الصحيح المعمول به أجاب رحمه الله الوقف الأول هو الصحيح لاتفاق المشايخ على أن الفتوى على قولهما بلزوم الوقف وحيث كان لازما لا يصح تغييره بلا شرط منه ولا يضر في لزومه عدم اتصاله بحاكم لأن الحاكم ممنوع شرعا من الحكم [ ص: 223 ] بخلاف ما عليه الفتوى والله أعلم ( قوله فللقاضي أن يبيعه ويشتري بثمنه غيره إلخ ) قال الرملي لا تنس ما قدمه بأسطر عن شمس الأئمة الحلواني بنقل الذخيرة حين سئل عن أوقاف المسجد إذا تعطلت هل للمتولي أن يبيعها ويشتري مكانها أخرى قال نعم ولا قولهم الولاية الخاصة أقوى من الولاية العامة ولا اتفاق المشايخ المتأخرين على أن الأفضل لأهل المسجد أن ينصبوا متوليا ولا يعلموا القاضي في زماننا لما علم من طمع القضاة في أمور الأوقاف صرح به في التتارخانية وغيرها في كثير من كتب المذهب ( قوله وذكر محمد في السير الكبير مسألة إلخ ) قال الرملي يجب تقييد المسألة بما إذا كان استيلاء الكفار يوجب ملكهم على البلدة بأن كانت متصلة بدارهم أما إذا كانت بين بلاد المسلمين لا يملكونها بذلك فلا يصح للمقاتلين قسمتها بينهم فيبطل ما ترتب عليها ويأخذها مالكها ولو اتخذت مسجدا و صار كما لو غصب أرض الغير واتخذها مسجدا تأمل [ ص: 224 ] ( قوله وفي الخانية المتولي إذا اشترى إلخ ) قال الرملي وفي البزازية بعد ذكر ما تقدم وذكر أبو الليث في الاستحسان يصير وقفا وهذا صريح في أنه المختار . ا هـ .

                                                                                        قلت : وفي التتارخانية والمختار أنه يجوز بيعها إن احتاجوا إليه قال الفقيه ينبغي أن يكون ذلك بأمر الحاكم احتياطا في موضع الخلاف .




                                                                                        الخدمات العلمية