الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              6940 7375 - حدثنا محمد، حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب حدثنا عمرو، عن ابن أبي هلال، أن أبا الرجال محمد بن عبد الرحمن حدثه عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن - وكانت في حجر عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ قل هو الله أحد [ الإخلاص: 1 ] فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: " سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ ". فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أخبروه أن الله يحبه " [ مسلم: 813 - فتح: 13 \ 347 ].

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 177 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 177 ] ذكر فيه حديث بعث معاذ - رضي الله عنه - "إنك تأتي على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله" الحديث بطوله، وقد سلف في الزكاة.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث معاذ - رضي الله عنه - : "أتدري ما حق الله على العباد؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به. . " الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - : أن رجلا سمع رجلا يقرأ: قل هو الله أحد [ الإخلاص: 1 ] يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك - وكأن الرجل يتقالها - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن ".

                                                                                                                                                                                                                              زاد إسماعيل بن جعفر - يعني شيخ البخاري - عن مالك، عن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي سعيد - أي: كما أسلفه في الأول، وزاد قال: أخبرني أخي قتادة بن النعمان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث عائشة - رضي الله عنها - : أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلا على سرية. الحديث سلف.

                                                                                                                                                                                                                              ووجه ذكره هذه الأحاديث هنا ما اشتملت عليه من التوحيد، وكذا ذكره قل هو الله أحد ; لأنها سورة تشتمل على توحيد الله وصفاته الواجبة له وعلى نفي ما يستحيل عليه من أنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

                                                                                                                                                                                                                              وتضمنت ترجمة الباب: أن الله واحد، وأنه ليس بجسم; لأن الجسم ليس بشيء واحد، وإنما هي أشياء كثيرة مؤلفة، في نفس [ ص: 178 ] الترجمة الرد على الجهمية في قولها: إنه تعالى جسم. تعالى الله عن قولهم، والدليل على استحالة كونه جسما: أن الجسم موضوع في اللغة للمؤلف المجتمع وذلك محال عليه تعالى; لأنه لو كان كذلك لم ينفك عن الأعراض المتعاقبة عليه الدالة بتعاقبها عليه على حدثها لفناء بعضها عند مجيء أضدادها، وما لم ينفك عن المحدثات فمحدث مثلها، وقد قام الدليل على قدمه تعالى، فبطل كونه جسما.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 179 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              ينبغي أن يعتقد أن الله تعالى في عظمته لا يشبه شيئا من مخلوقاته ولا يشبه به، وأن ما جاء مما أطلقه الشرع على الخلق والمخلوقات فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي; إذ صفات القديم بخلاف صفات المخلوق، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات، فكذلك صفته لا تشبه صفات المخلوقين; إذ صفاتهم لا تنفك عن الأعراض، والأعراض هو تعالى منزه عنها.

                                                                                                                                                                                                                              قال بعضهم: التوحيد إثبات ذات غير مشبهة للذوات، ولا معطلة عن الصفات.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الواسطي: ليس كذاته ذات، ولا كاسمه اسم، ولا كفعله فعل، ولا كصفته صفة إلا من جهة موافقة اللفظ اللفظ، وجلت الذات القديمة أن تكون لها صفة حديثة، كما استحال أن يكون للذات المحدثة صفة قديمة، من اطمأن إلى موجود انتهى إليه فكره [ ص: 180 ] فهو مشبه، ومن اطمأن إلى النفي المحض فهو معطل، وإن ( اعترف ) بموجود، اعترف بالعجز عن درك حقيقته فهو موحد.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ذو النون: حقيقة التوحيد أن تعلم أن قدرة الله في الأشياء بلا علاج، وصنعه لها بلا مزاج، وعلة كل شيء صنعه ولا علة لصنعه، وما تصور في وهمك فالله بخلافه.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله - عليه السلام - لمعاذ: "فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله". يريد: وينزعون عن مقالتهم: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، ويقرون أن الله واحد لا شريك له، وذلك كله راجع إلى التوحيد.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: الدعوة قبل القتال، واختلف فيمن بلغته الدعوة، هل يدعى أم لا؟

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 181 ] ففي "المدونة" روايتان عن مالك، وأما من لم تبلغهم فلا يقاتلوا حتى يدعوا فإن شك في أمرهم، فالدعوة أقطع للشك ( قال أبو حنيفة: إن بلغتهم فحسن أن يدعوا قبل القتال )، وقال الشافعي: لا أعلم أحدا من المشركين لم تبلغه الدعوة إلا أن يكون خلف الذين يقاتلون قوم من المشركين خلف الترك والخوز لم تبلغهم الدعوة فلا يقاتلوا حتى يدعوا.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ( "فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله. فرض عليهم خمس صلوات" )، قال الداودي: يريد لا تفاجئهم في ذلك، وظاهر الحديث أنه يفعل بهم عقب معرفتهم.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن العطار في "دقائقه": فإذا أجاب بالإسلام وأقر برسالة محمد - عليه أفضل الصلاة والسلام - ، ووقف على الشرائع والأحكام وحدود الوضوء والصلاة والزكاة والصيام والحج مع الاستطاعة إلى بيت الله الحرام، فإن لم يلتزم ذلك لم يقبل إسلامه ولا يكون بذلك مرتدا بخلاف من صلى ثم ارتد، فإنه إن صلى صلاة واحدة وارتد فإنه يستتاب حينئذ، فإن تاب وإلا قتل.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 182 ] وقال بعض متأخريهم: إذا أقر بالألوهية والوحدانية وأنكر الصلاة أو الصوم أو الحج كان على حكم المرتد، ولا تقبل منه جزية إن بذلها ليبقى على ما كان عليه ( قبل ذلك ).

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ( "زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" ) فيه دليلان:

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما: من له نصاب فهو غني لا يجوز له أخذ الزكاة، وهو قول مالك في رواية المغيرة، وبه قال أبو حنيفة، ولمالك عند محمد يأخذ من له أربعون دينارا.

                                                                                                                                                                                                                              وثانيهما: أن الزكاة لا تنقل، وإنما تصرف في فقراء الموضع الذي تؤخذ منه، فإن خالف فالأصح عدم الإجزاء عندنا، وإن كان دون مسافة القصر. وقال سحنون: إذا كان بقريته فقراء، وقال ابن اللباد: يجزئه، وهذا استحسان، وقد أشار ( نحوه ) ابن القصار، واختلف عندهم هل يستأجر عليها منها أو من ماله.

                                                                                                                                                                                                                              ( فصل ):

                                                                                                                                                                                                                              قال الداودي: فيه تأخير البيان، بأن الفروض لم تلزم من لم يسمعها حتى يسمع، وأنه لا قضاء عليه فيما يقضي.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ( "وتوق كرائم أموال الناس" ) أي: اجتنب خيار مواشيهم أن تأخذها في الزكاة، وكرائم: جمع كريمة، وهي الشاة الغزيرة اللبن، واختلف إذا كانت جيادا كلها أو رديئة كلها وسخالا على [ ص: 183 ] أربعة أقوال للمالكية، ففي "المدونة": يأتي زكاتها من غيرها.

                                                                                                                                                                                                                              وقال محمد بن عبد الحكم: لولا خلاف قول أصحاب مالك لكان بينا أن يأخذ واحدة من أوساطها، وقال مطرف في "ثمانية أبي زيد": إذا كانت جيدة أو سخالا لا يأخذ منها، وإن كانت عجافا أو ذوات عوار أو تيوسا أخذ منها. وقال ابن الماجشون: تؤخذ من الجيد والرديء إلا أن تكون سخالا.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ( "حق العباد على الله أن لا يعذبهم" ) يريد: حقا علم من جهة الشرع بوعده تعالى لمن أطاعه بالنجاة من عذابه إلا أنه واجب عقلا عند المعتزلة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 184 ] وقيل: إنه خرج على الجهة ( المقابلة ) للفظ الأول; لأنه قال في أوله: "ما حق الله على العباد؟ ".

                                                                                                                                                                                                                              ولا شك أن لله تعالى على عباده حقوقا، فاتبع اللفظ الثاني الأول مثل: ومكروا ومكر الله [ آل عمران: 54 ]، فيسخرون منهم سخر الله منهم [ التوبة: 79 ]، فمن اعتدى عليكم [ البقرة: 194 ].

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى ( يتقالها ): يستقلها من قل الشيء يقل قلة، ولو كان من القول لكان يتقولها، وقوله: ( "تعدل ثلث القرآن" ) أي: في الأجر، لا أن شيئا من القرآن أفضل من شيء على أحد القولين; لأنه كله صفة لله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: المعنى في ذلك: أن الله تعالى يتفضل بتضعيف الثواب لقارئها، ويكون منتهى التضعيف إلى مقدار ثلث ما يستحق من الأجر على قراءة ثلث القرآن من غير تضعيف أجر.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: المعنى في ذلك: أن القرآن على ثلاثة أنحاء قصص وأحكام وأوصاف لله تعالى، قل هو الله أحد تشتمل على ذكر الصفات وكانت ثلثا بهذا الاعتبار، وقيل: معنى ثلث القرآن لشخص بعينه قصده الشارع وهو بعيد، وقيل: فضلت بذلك; لأنه ليس فيها شيء من العمل، إنما هي توحيد محض.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله - عليه السلام - : "سلوه" يحتمل أن يكون سؤالهم إياه; لأنه - عليه السلام - هو الذي أمره.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 185 ] وقوله: ( لأنها صفة الرحمن ) أي: لأن فيها أسماءه وصفاته، وأسماؤه مشتقة من صفاته.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ( "أخبروه أن الله يحبه" ) أي: يريد ثوابه; لأنه تعالى لا يوصف بالمحبة الموصوفة فيها; لأنه يتقدس ( عن ) أن يميل أو يمال إليه، وليس بذي جنس أو طبع فيتصف بالشوق الذي تقتضيه الجنسية والطبعية، فمعنى محبته للخلق: إرادته ثوابهم، وقيل: المحبة راجعة إلى نفس الإنابة والتنعيم لا لإرادة، ومعنى محبة المخلوقين له إرادتهم أن ينفعهم.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 186 ] [ ص: 187 ] [ ص: 188 ] خاتمة:

                                                                                                                                                                                                                              أمر الله تعالى نبيه - عليه الصلاة والسلام - بدعاء العباد إلى دينه وتوحيده، ففعل ما لزمه من ذلك، وبلغ ما أمر بتبليغه، وأنزل عليه فتول عنهم فما أنت بملوم [ الذاريات: 54 ]




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية