الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              660 [ ص: 524 ] 54 - باب: إمامة العبد والمولى

                                                                                                                                                                                                                              وكانت عائشة يؤمها عبدها ذكوان من المصحف، وولد البغي والأعرابي والغلام الذي لم يحتلم؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله".

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              أما هذا الأثر، فأخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع، ثنا هشام بن عروة، عن أبي بكر بن أبي مليكة، أن عائشة أعتقت غلاما لها عن دبر، فكان يؤمها في رمضان في المصحف، وحدثنا ابن علية عن أيوب، سمعت القاسم يقول: كان يؤم عائشة عبد بقراءة في المصحف، ورواه الشافعي عن عبد المجيد بن عبد العزيز عن ابن جريج: أخبرني عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة أنهم كانوا يأتون عائشة بأعلى الوادي [و] هو وعبيد بن عمير والمسور بن مخرمة وناس كثير، فيؤمهم أبو عمرو مولى عائشة وهو يومئذ غلام لم يعتق، وكان إمام بني محمد بن أبي بكر وعروة. وروى البيهقي من حديث هشام، عن أبيه أن أبا عمرو ذكوان كان عبدا لعائشة، فأعتقته، وكان يؤم بها في شهر رمضان، يؤمها وهو عبد. وفي "المصنف": وكان ابن سيرين لا يرى به بأسا. وفعلته عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، ورخص فيه الحكم والحسن بن أبي الحسن وعطاء، ونحوه عن أنس بن مالك.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 525 ] وقوله: (وكانت عائشة)، في رواية: وكان. على أن يضمر في كان الشأن والقصة.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الحديث الذي ذكره: "يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله" فهو حديث صحيح ثابت، أخرجه مسلم منفردا به في "صحيحه" من حديث أبي مسعود رضي الله عنه، وفيه من حديث أبي سعيد مرفوعا: "أحقهم بالإمامة أقرؤهم". ولأبي داود من حديث ابن عباس: "وليؤمكم أقرؤكم".

                                                                                                                                                                                                                              وأما فقه الباب: فأما إمامة العبد فأجازها أبو ذر، وحذيفة، وابن مسعود، ذكره ابن أبي شيبة بإسناد صحيح. وعن أبي سفيان أنه كان يؤم بني عبد الأشهل وهو مكاتب وخلفه صحابة: محمد بن مسلمة،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 526 ] وسلمة بن سلامة. وصلى سالم خلف زياد مولى أم الحسن وهو عبد.

                                                                                                                                                                                                                              ومن التابعين: ابن سيرين، والحسن، وشريح، والحسن بن علي، والنخعي، والشعبي، والحكم. ومن الفقهاء: الثوري، وأبو حنيفة، وأحمد، والشافعي، وإسحاق. وقال مالك: تصح إمامته في غير الجمعة. وفي رواية: لا يؤم إلا إذا كان قارئا ومن خلفه من الأحرار لا يقرءون، ولا يؤم في جمعة ولا عيد. وعن الأوزاعي: لا يؤم إلا أهله. وممن كره الصلاة خلفه: أبو مجلز فيما ذكره ابن أبي شيبة، والضحاك بزيادة: ولا يؤم من لم يحج قوما فيهم من قد حج. وفي "المبسوط": أن إمامته جائزة، وغيره أحب. قلت: ولا شك أن الحر أولى منه؛ لأنها منصب جليل؛ فالحر أليق بها. وقال ابن خيران من أصحابنا: تكره إمامته بالحر، وخالف سليم الرازي.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 527 ] فرع: لو اجتمع عبد فقيه وحر غير فقيه، فثلاثة أوجه: أصحها أنهما سواء، ويترجح من قال: العبد الفقيه أولى بما سيأتي: أن سالما مولى أبي حذيفة كان يؤم المهاجرين الأولين في مسجد قباء، فيهم عمر وغيره؛ لأنه كان أكثرهم قرآنا. وأما إمامة المولى فقد عرفته آنفا.

                                                                                                                                                                                                                              وأما إمامة ولد البغي، وهو ولد الزنا، فأجاز إمامته النخعي - وقال: رب عبد خير من مولاه - والشعبي، وعطاء، والحسن. وقالت عائشة: ليس عليه من وزر أبويه شيء، ذكره ابن أبي شيبة عنه.

                                                                                                                                                                                                                              وإليه ذهب الثوري والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وعيسى بن دينار، ومحمد بن الحكم، وكرهها عمر بن عبد العزيز، ومجاهد، ومالك إذا كان راتبا. وذكر في "المبسوط" الجواز، وقال: غيره أحب إلي؛ لأنه ليس له من يفقهه، فيغلب عليه الجهل. وقيل: لئلا يؤذى بالألسنة ويأثم الناس. ولا تكره إمامته عندنا، خلافا للشيخ أبي حامد والعبدري.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 528 ] قال الشافعي: وأكره أن ينصب من لا يعرف أبوه إماما. وتابعه البندنيجي، وغيره صرح بعدمها.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن حزم: الأعمى والخصي والعبد وولد الزنا وأضدادهم والقرشي سواء، لا تفاضل بينهم إلا بالقراءة وشبهه.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الأعرابي، بفتح الهمزة - الذي ينسب إلى الأعراب سكان البوادي. فمن كره إمامته عللها بجهله بحدود الصلاة. وأجازها الثوري وأبو حنيفة والشافعي وإسحاق - وصلى ابن مسعود خلف أعرابي، ولم ير بها بأسا إبراهيم والحسن وسالم.

                                                                                                                                                                                                                              وفي الدارقطني من حديث مجاهد عن ابن عباس مرفوعا: "لا يتقدم الصف الأول أعرابي ولا أعجمي ولا غلام لم يحتلم".

                                                                                                                                                                                                                              وأما الغلام الذي لم يحتلم فمنع الائتمام به في الفرض مالك،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 529 ] وأبو حنيفة، وأحمد، والأوزاعي، والثوري، وإسحاق، وجوزها مالك في النفل.

                                                                                                                                                                                                                              ولأبي حنيفة وأحمد فيه روايتان.

                                                                                                                                                                                                                              ومنع داود فيهما، وحكاه ابن أبي شيبة عن الشعبي، ومجاهد، وعمر بن عبد العزيز، وعطاء. وأجازه الشافعي فيهما.

                                                                                                                                                                                                                              وفي الجمعة خلاف، وما نقله ابن المنذر عن أبي حنيفة وصاحبيه من الكراهة فقط غريب عنهما. حجة الشافعي حديث عمرو بن سلمة الآتي في البخاري: أنه كان يؤم قومه وهو ابن سبع سنين أو ثمان سنين. وعند ابن أبي شيبة عن إبراهيم: لا بأس أن يؤم الغلام قبل أن يحتلم في رمضان، وعن الحسن بمثله، ولم يقيده. وفعله الأشعث بن قيس، قدم غلاما فعابوا ذلك عليه، فقال: ما قدمته ولكن قدمت القرآن العظيم. أجاب المانع بأن هذا كان في أول الأمر، ولم يبلغ الشارع صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن حزم: لو علمنا أنه - عليه السلام - عرف هذا أو أقره لقلنا به، ووجدنا [ ص: 530 ] السنة قوله - عليه السلام -: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أقرؤكم" ووجدناه قال: "إن القلم" رفع عن الصغير حتى يبلغ" فليس مأمورا بها، ولا تصح خلفه. وقال الخطابي: كان الإمام أحمد يضعف حديث عمرو بن سلمة. وقال مرة: دعه ليس بشيء بين، قال أبو داود: قيل لأحمد: حديث عمرو؟ قال: لا أدري ما هذا. ولعله لم يتحقق بلوغ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد خالفه أفعال الصحابة، قال: وفيه قال عمرو: كنت إذا سجدت خرجت استي، قال: وهذا غير سائغ، وأجاب ابن الجوزي بأنه يحتمل أن يكون في النافلة.

                                                                                                                                                                                                                              وابن رشد قال: سبب الخلاف كونها صلاة مفترض خلف متنفل.

                                                                                                                                                                                                                              وروى الأثرم بسنده عن ابن مسعود أنه قال: لا يؤم الغلام حتى تجب عليه الحدود، وعن ابن عباس: لا يؤم الغلام حتى [ ص: 531 ] يحتلم، وقد سلف مرفوعا.

                                                                                                                                                                                                                              وأما جواز الإمامة من المصحف: فقال به ابن سيرين والحكم وعطاء والحسن، وكان أنس يصلي وغلامه خلفه يمسك له المصحف، فإذا تعايا في آية فتح عليه، وأجازه مالك في قيام رمضان، وكرهه النخعي وسعيد بن المسيب والشعبي ورواية عن الحسن، وقال: هكذا يفعل النصارى، وفي "مصنف ابن أبي شيبة" وسليمان بن حنظلة ومجاهد وابن جبير وحماد وقتادة، وقال ابن حزم: لا يجوز القراءة في المصحف ولا غيره لمصل إماما كان أو غير إمام، فإن تعمد ذلك بطلت صلاته، وبه قال ابن المسيب والحسن والشعبي وأبو عبد الرحمن السلمي، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي. كذا نقله عن الشافعي، وهو غريب لم أره عنه. وقد نقل ابن بطال عن الحسن رواية أخرى جواز ذلك فقال: أجاز الإمامة من المصحف ابن سيرين والحكم بن عتيبة وعطاء والحسن، وأما قوله: لا يمنع العبد من الجماعة بغير علة، أي: أن السيد لا يمنعه من [ ص: 532 ] حضورها لغير علة. قال القاضي حسين - من أصحابنا -: ليس للسيد منع عبده من حضور الجماعات إلا أن يكون له معه شغل، ويقصد تفويت الفضيلة عليه، فحينئذ ليس له منعه.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية