الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              964 1010 - حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال: حدثني أبي عبد الله بن المثنى، عن ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن أنس ، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال فيسقون. [3710 - فتح: 2 \ 494]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث عبد الله بن دينار قال: سمعت ابن عمر يتمثل بشعر أبي طالب:


                                                                                                                                                                                                                              وأبيض يستسقى الغمام بوجهه. .. ثمال اليتامى عصمة للأرامل



                                                                                                                                                                                                                              وقال عمر بن حمزة: ثنا سالم، عن أبيه: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي، فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب: وأبيض.. البيت.

                                                                                                                                                                                                                              وهو قول أبي طالب.

                                                                                                                                                                                                                              وفي الأول أبو قتيبة، وهو: مسلم بن قتيبة الخراساني البصري، [ ص: 232 ] مات بعد المئتين، وأبو طالب حضر استسقاء عبد المطلب والنبي - صلى الله عليه وسلم - معه، كما ذكره الخطابي والسهيلي والتعليق المذكور أسنده ابن ماجه، عن أحمد بن الأزهر، عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن أبي عقيل عبد الله بن عقيل، عن عمر بن حمزة، وفي لفظ: على المنبر يستسقي.

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق البخاري عن أنس: إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب. .. الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              وهو من أفراد البخاري عن الستة، وطوله الإسماعيلي، وجاء أنه استسقى به عام الرمادة، واعترض الإسماعيلي فقال: ما رواه خارج عن الترجمة إذ ليس فيه السؤال، تمحله ابن المنير فقال: فاعل يستسقي الناس، وهو محذوف، وكذا قول عمر: ( اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك محمد )، دل أنهم كانوا يتوسلون وأن لعامة المؤمنين مدخلا في الاستسقاء.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: ويؤخذ أيضا من قوله على المنبر يستسقي، ومعلوم أنه استسقى على المنبر لما سأله الأعرابي وقال: ( هلكت الأموال.. ) الحديث. وهو صريح فيه وقت القحط، وقد بوب عليه البيهقي [ ص: 233 ] بذلك، وبوب على حديثي البخاري: الاستسقاء بمن يرجى بركة دعائه.

                                                                                                                                                                                                                              وعمر بن حمزة هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب ابن أخي سالم ابن عبد الله بن عمر، وأخرج له في "الأدب" أيضا، وتكلم فيه أحمد والنسائي، ووثقه ابن حبان، وقال: كان يخطئ، وروى له مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وقال ابن عدي: هو ممن يكتب حديثه.

                                                                                                                                                                                                                              والثمال - بكسر الثاء المثلثة: المعتمد والملجأ والكافي، وقيل: هو المطعم في الشدة. وقوله: ( عصمة للأرامل )، أي: ينلن ببركته وفضله ما يقوم لهن مقام الأزواج. والأرامل يقع على الرجال والنساء، وقيل: لا يقال: أرملة إلا في النساء، والصواب الأول، فقد صرح ابن الأثير أن الأرامل في البيت المذكور المساكين رجالا ونساء، يقال لكل واحد منهما على انفراده أرامل، وهو بالنساء أخص وأكثر [ ص: 234 ] استعمالا، والواحد أرمل وأرملة، وهو من مات زوجه، وسواء كانا غنيين أو فقيرين.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ( كان إذا قحطوا ) قحط - بفتح القاف والحاء، وبضم القاف مع كسر الحاء - أي: أبطأ عنهم الغيث.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ( حتى يجيش كل ميزاب )، هو بالجيم، جاش البحر إذا هاج، وجاشت القدر جيشانا إذا غلت، وجاش الوادي والشيء إذا ملئ وتحرك، فكأنه استعار ذلك للميزاب لتحرك الماء فيه عند كثرة المطر وانصبابه، وقيل: يروى بالجيم والحاء، كذا رأيته بخط الدمياطي.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: أن أبا طالب كان يعرف نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعث، بما أخبره مخبر، أو بما وصى به عبد المطلب بما سمع عبد المطلب من سيف بن ذي يزن. واستسقاء عمر بالعباس فللرحم التي كانت بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأراد عمر أن يصلها بمراعاة حقه ويتوصل إلى من أمر بصلة الأرحام، بما وصلوه من رحم العباس، وأن يكون ذلك السبب إلى رحمة الله.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر الماوردي في "الأحكام السلطانية" عن أنس، أن أعرابيا رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، لقد أتيناك وما لنا بعير يئط، ولا صبي يغط، ثم أنشده:


                                                                                                                                                                                                                              أتيناك والعذراء يدمى لبانها. .. وقد شغلت أم الصبي عن الطفل


                                                                                                                                                                                                                              وألقى بكفيه الصبي استكانة. .. من الجوع ضعفا ما يمر وما يحلي


                                                                                                                                                                                                                              ولا شيء مما يأكل الناس عندنا. .. سوى الحنظل العامي والعلهز الغسل
                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 235 ] وليست لنا إلا إليك فرارنا. .. وأين فرار الناس إلا إلى الرسل



                                                                                                                                                                                                                              فقام - صلى الله عليه وسلم - يجر رداءه حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "اللهم اسقنا.. "
                                                                                                                                                                                                                              الحديث، وفيه فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: "لله در أبي طالب، لو كان حاضرا لقرت عيناه ( من الذي أنشدنا ) من شعره" فقال علي: ( يا ) رسول الله: كأنك أردت قوله: وأبيض.. البيت.


                                                                                                                                                                                                                              يلوذ به الهلاك من آل هاشم. .. فهم عنده في نعمة فواضل


                                                                                                                                                                                                                              كذبتم وبيت الله يبزى محمدا. .. ولما نناضل دونه ونقاتل


                                                                                                                                                                                                                              وننصره حتى نصرع حوله. .. و ( نذهل ) عن أبنائنا والحوائل



                                                                                                                                                                                                                              فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أجل". فقام رجل من بني كنانة فأنشده:


                                                                                                                                                                                                                              لك الحمد، والحمد ممن شكر. .. سقينا بوجه النبي المطر


                                                                                                                                                                                                                              دعا الله خالقه دعوة. .. وأشخص معها إليه البصر


                                                                                                                                                                                                                              فلم يك إلا كإلقاء الردا. .. وأسرع حتى رأينا الدرر



                                                                                                                                                                                                                              .. القصيدة.

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن يكن شاعر أحسن، فقد أحسنت".


                                                                                                                                                                                                                              فرع: الخروج إلى الاستسقاء والاجتماع متوقف على إذن الإمام ; لما في الخروج بغير إذنه من الافتيات، وهذه سنن الأمم السالفة، قال تعالى: وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه [الأعراف 160] وأما الدعاء في أعقاب الصلوات في الاستسقاء فجائز بغير إذنه.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية