الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              1946 [ ص: 32 ] 2 - باب: الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات

                                                                                                                                                                                                                              2051 - حدثني محمد بن المثنى ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن ابن عون ، عن الشعبي ، سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنه : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - . حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا ابن عيينة ، عن أبي فروة ، عن الشعبي قال : سمعت النعمان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا ابن عيينة ، عن أبي فروة ، سمعت الشعبي سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان ، عن أبي فروة ، عن الشعبي ، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الحلال بين ، والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهة ، فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك ، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان ، والمعاصي حمى الله ، من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه" . [انظر : 52 - مسلم: 1599 - فتح: 4 \ 290]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث النعمان بن بشير : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - . "الحلال بين ، والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهة ، فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك ، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان ، والمعاصي حمى الله ، من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه" .

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث سلف في الإيمان في باب : فضل من استبرأ لدينه .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر هنا (سنده) مرتين متفقا ومرتين مختلفا ، قال في الأول : عن ابن [ ص: 33 ] عون ، عن الشعبي ، سمعت النعمان بن بشير ، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقال في الثاني : عن أبي فروة -واسمه عروة بن الحارث بن فروة الهمداني الكوفي- عن الشعبي : سمعت النعمان ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وفي الثالث : عن أبي فروة : سمعت الشعبي . مثل هذا . وقال في الرابع : عن أبي فروة ، عن الشعبي ، عن النعمان بن بشير : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . والحاصل أن النعمان صرح بسماعه في الرواية الأولى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأتى في الثانية والثالثة بعن ، وفي الرابعة بقال .

                                                                                                                                                                                                                              وعند أبي داود : عن الشعبي : سمعت النعمان -ولا أسمع أحدا بعده- يقول : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن الحلال بين . . . " الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              وقد أسلفنا في الإيمان بطلان من ادعى عدم سماعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; يوضحه سماع ابن (النعمان) حديث نحلني أبي : كما ستعلمه في موضعه .

                                                                                                                                                                                                                              وسفيان الراوي عن أبي فروة في الرابع هو الثوري كما صرح به أبو نعيم وغيره .

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو نعيم : وهذا لفظ الثوري ، وجمع البخاري بين ابن عون وأبي فروة ظنا أن الروايتين في إسناد واحد ، وساق الحديث بلفظ الثوري . وفي كتاب الإسماعيلي لما قال : "ألا وإن في الجسد مضغة" قال : قال فلان -يعني أحد رواته- : لا أدري هذا من لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم لا .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 34 ] ولا بد لنا أن نذكر نبذة هنا فنقول : هذا الحديث أصل في باب الورع وما يجتنب من الشبه . والشبه : كل ما أشبه الحلال من وجه والحرام من آخر ، والورع : اجتنابها فالحلال البين : ما علم المرء ملكه يقينا لنفسه ، والحرام البين عكسه ، والشبهة : ما يجده في بيته فلا يدري أهو له أو لغيره . وقد اختلف في حكم المشتبهات على أقوال أسلفناها هناك ، فرواية : "لا يعلمها كثير من الناس" دالة على الوقف . ورواية : "من وقع في الشبهات وقع في الحرام" دالة على أن تركها واجب . ورواية : "من رتع حول الحمى يوشك أن يواقعه" تدل على الحيل . وقيل : قوله : ("حول الحمى") نهي عما يشك فيه هو من الحمى أو مما حوله ؟ فنزهه عما قرب منه ، ولم يشك فيه خوفا أن تزين النفس أنه ليس منه ، ويحمل على الندب .

                                                                                                                                                                                                                              والمشتبهات في الدماء والأموال والأعراض والفتيا والقضاء وغير ذلك ، فأشدها الاجتراء على الفتيا بغير علم ; لأنه قد تزين له نفسه أنه أهل لها وهو خلافه ، قال تعالى : فاحكم بين الناس بالحق الآية [ص : 26] . وفي الحديث : "حبك للشيء يعمي ويصم" . ويقال : [ ص: 35 ] أشقى الناس من باع دينه بدنياه ، وأشقى منه من باع دينه بدنيا سواه .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 36 ] قال سحنون : إنما ذلك في الفتيا . وما يجتنب من الشبهات : الظن أن يقطع به : فإن النفس ربما تزين عند الظن خلاف الحق ، تغطي عند الرضا العيب ، وتبدي في عكسه المساوئ . وقسم بعضهم الورع ثلاثة أقسام ، واجب : وهو اجتناب ما يحققه لغيره ، ومستحب : وهو اجتناب معاملة من أكثر ماله حرام ، ومكروه : أن لا يقبل الرخص ، ولا يجيب الداعي ، ولا يقبل الهدية ، ويجتنب الأشياء المباحة مثل المياه التي يتوضأ بها ، واجتناب الغريب التزويج مع الحاجة ; لقيام قدوم أبيه البلدة المذكورة والتزوج بها ، وكره ذلك ; لأن النادر لا عبرة به .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ("من يرتع") قال ابن فارس : يقال رتع : إذا أكل ما شاء ، وقيل : رتعت أقامت في المرتع .

                                                                                                                                                                                                                              وعبارة ابن بطال : الحلال البين : ما نص الله على تحليله أي ورسوله ، والحرام البين : ما نص على تحريمه ، وكذا ما جعل فيه حد أو عقوبة أو وعيد ، والمشتبه : ما تنازعته الأدلة من الكتاب والسنة ،

                                                                                                                                                                                                                              وتجاذبته المعاني فوجه منه يعضده دليل الحرام ، وآخر عكسه ، وقال فيه : من ترك الشبهات إلى آخره ، فالإمساك عنه ورع ، والإقدام عليه لا يقطع عالم بتحريمه .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 37 ] وقال القرطبي : أقل مراتب الحلال أن يستوي فعله وتركه فيكون مباحا ، وما كان كذلك لم يتصور فيه الورع من حيث هو متساوي الطرفين ، فإنه إن ترجح أحد طرفيه على الآخر خرج عن كونه مباحا فحينئذ يكون تركه راجحا على فعله وهو المكروه ، أو عكسه فالمندوب ، وفيه دليل أن الشبهة لها حكم خاص بها .

                                                                                                                                                                                                                              قال الخطابي : وقوله : "لا يعلمها كثير من الناس" معناه : أنها تشتبه على بعض الناس دون بعض والعلماء يعرفونها ; لأن الله جعل عليها دلائل عرفها بها ، لكن ليس كل أحد يقدر على تحقيق ذلك ; ولهذا قال ذلك ولم يقل : لا يعلمها كل الناس .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : "كراع يرعى حول الحمى" هو مثل يحتمل أن صاحبه يقع في الحرام ولا يدري .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الخطابي : إذا اعتادها قادته إلى الوقوع في الحرام ، فيتجاسر عليه ويواقعه عالما ومتعمدا ; لخفة الزاجر عنده ، ولما قد ألفه من المساهلة .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية