الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2459 2599 - حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن ابن أبي مليكة، عن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبية، ولم يعط مخرمة منها شيئا، فقال مخرمة: يا بني، انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانطلقت معه، فقال: ادخل فادعه لي. قال: فدعوته له، فخرج إليه وعليه قباء منها، فقال: " خبأنا هذا لك". قال: فنظر إليه، فقال: رضي مخرمة. [2657، 3127، 5800، 5862، 6132 - مسلم: 1058 - فتح: 5 \ 222]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ذكر حديث المسور بن مخرمة أنه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبية، ولم يعط مخرمة .. قال: فدعوته له، فخرج إليه وعليه قباء منها، فقال: "خبأنا هذا لك". قال: فنظر إليه، فقال: رضي مخرمة.

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              التعليق سلف قريبا، والحديث ذكره البخاري في مواضع أخر تأتي.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: فخرج ومعه قباء وهو يريه محاسنه.

                                                                                                                                                                                                                              وفي آخره في الجهاد: أهديت له أقبية من ديباج مزررة بالذهب، فقسمها بين أصحابه، وعزل منها واحدا لمخرمة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 361 ] وفيه: فاستقبله بأزراره. وفي بعض الطرق: يا بني إنه قدمت عليه أقبية وهو يقسمها. وفيه: (يا بني ادعه لي). قال: فأعظمت ذلك. فقال: (يا بني، إنه ليس بخيار فدعوته فخرج).

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه مسلم وقال: (ولم يعط منه) بضمير الواحد، كأنه عائد على نوع الأقبية في المعنى.

                                                                                                                                                                                                                              والقباء: ممدود، قال ابن دريد: هو من قبوت الشيء: جمعته.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (خبأنا هذا). وقبله: (فخرج إليه وعليه قباء)، وقال ابن التين: قوله: (خبأنا لك هذا).

                                                                                                                                                                                                                              وقال: (وخرج وعليه قباء)، فقال: "خبأنا لك هذا".

                                                                                                                                                                                                                              فيه إشكال; للباسه - عليه السلام- بعد أن خبأه لمخرمة.

                                                                                                                                                                                                                              ويحمل قوله: (فخرج وعليه قباء). أنه كان في يده. وفيه بعد يبينه حديث أنه خرج ومعه قباء، وهو يريه محاسنه ويقول: "خبأت هذا لك".

                                                                                                                                                                                                                              وقد قيل: قد كان في خلقه شيء ولاطفه. كما ذكره في الجهاد، ولفظه: وكان في خلقه شدة.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: "رضي مخرمة؟" هو من قوله - عليه السلام-، وصرح به الداودي، قال: أي: هل رضيت.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 362 ] ويحتمل أن يكون من قول مخرمة.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فخرج إليه وعليه قباء منها). ظاهره استعمال الحرير، ويجوز أن يكون قبل النهي، وأن يكون المراد أنه نشره على أكتافه; ليراه مخرمة كله.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه ائتلاف أهل اللسانة وغيرهم.

                                                                                                                                                                                                                              فرع: مجرد التخبية لا يصيره ملكا; لانتفاء الحوز، وممن صرح باشتراط الحوز الصديق والفاروق، وعثمان، وابن عباس، ومعاذ، وشريح، ومسروق، والشعبي، وإليه ذهب الثوري، والكوفيون، والشافعي، وقالوا: ليس للموهوب له مطالبة الواهب بالتسليم إليه; لأنها ما لم تقبض عدة يحسن الوفاء بها ولا تقضى عليه، وعندنا مع اشتراط الحوز لا بد من إذنه فيه، على الأصح.

                                                                                                                                                                                                                              وقال آخرون: يصح بالكلام دون القبض كالبيع.

                                                                                                                                                                                                                              روي عن علي وابن مسعود والحسن البصري والنخعي، وبه قال مالك، وأحمد وأبو ثور، إلا أن أحمد وأبا ثور قالا: للموهوب [ ص: 363 ] له المطالبة في حياة الواهب، فإن مات الواهب بطلت الهبة.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن بطال: وتقبض الهبات والمتاع عند جماعة العلماء بإسلام الواهب لها إلى الموهوب له.

                                                                                                                                                                                                                              وحيازة الموهوب له؛ كركوب ابن عمر الجمل، وكإعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم القباء لمخرمة وتلقيه بأزراره، كما ذكر البخاري في الجهاد أنه عليه.

                                                                                                                                                                                                                              حجة أهل المقالة الأولى: أنه - عليه السلام- قال لابن عمر وهو راكب الجمل: "هو لك".

                                                                                                                                                                                                                              فكان حكم الهبات كلها كذلك لا تتم إلا بالقبض.

                                                                                                                                                                                                                              حجة الثاني: أنه - عليه السلام- قال لابن عمر في الجمل: "هو لك" ملكه إياه، ولا يملك الشارع شيئا أحدا إلا وهو مالك له ويستحقه، فكان لابن عمر المطالبة بهذا الجمل لو لم يركبه لحقه الذي تعين فيه، فوجب له طلبه، وكذلك دل فعله في القباء الذي تلقى به مخرمة واسترضاه به قبل سؤاله إياه، أنه قد تعين للمسور فيه حق وجب للمسور طلبه على ما ذهب إليه مالك، فإن قلت: فإذا بقي في الهبة حق للموهوب له وجبت به مطالبة الواهب في حياته، فكذلك يجوز [ ص: 364 ] مطالبته بعد مماته كسائر الحقوق. قيل: هذا هو القياس، لولا حكم الصديق بين ظهراني الصحابة وهم متوافرون فيما وهب لابنته جداد عشرين وسقا من ماله بالغابة، ولم تكن قبضته، وقال لها: لو كنت حزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث.

                                                                                                                                                                                                                              ولم يرو عن أحد من الصحابة أنه أنكر قوله ذلك، ولا رد عليه، فكان هذا دليلا لصحة قول مالك.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية