الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              3191 3371 - حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسين ويقول "إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق، أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة ". [فتح: 6 \ 408]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              معنى يزفون: يسرعون.

                                                                                                                                                                                                                              ذكر في الباب ثمانية أحاديث:

                                                                                                                                                                                                                              أولها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي حيان -بالمثناة تحت- يحيى بن سعيد بن حيان التميمي، عن أبي زرعة هرم بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما بلحم فقال: "إن الله يجمع يوم القيامة الأولين والآخرين.. " الحديث. وفيه: فذكر حديث الشفاعة، وذكر إبراهيم "فيقولون اذهبوا إلى موسى" وقد سلف، ثم قال: تابعه أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: أخرجها هو من حديث قتادة عنه، وروي أيضا من حديث ابن عمر عند البخاري، ومن حديث أبي سعيد الخدري أخرجه الترمذي [ ص: 391 ] محسنا، ومن حديث ابن عباس، أخرجه أبو داود الطيالسي من حديث علي بن زيد، عن أبي نضرة، عنه.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثاني:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أحمد بن سعيد أبي عبد الله شيخ البخاري المروزي المعروف بالرباطي، مات سنة ست أو ثلاث وأربعين ومائتين، ثنا وهب بن جرير، عن أبيه، عن أيوب، عن عبد الله بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يرحم الله أم إسماعيل، لولا أنها عجلت لكانت زمزم عينا معينا".

                                                                                                                                                                                                                              وقال الأنصاري. أي: محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس، مات سنة أربع عشرة أو خمس عشرة ومائتين، ثنا ابن جريج قال: أما كثير بن كثير فحدثني قال: إني وعثمان بن أبي سليمان جلوس مع سعيد بن جبير، فقال: ما هكذا حدثني ابن عباس، ولكنه قال: أقبل إبراهيم بإسماعيل وأمه وهي ترضعه، معها شنة. لم يرفعه.

                                                                                                                                                                                                                              وهذا التعليق رواه أبو نعيم الحافظ عن فاروق بن عبد الكبير: حدثنا أبو خالد عبد العزيز بن معاوية القرشي عنه به، وقال: ذكره البخاري عنه بلا رواية" وعثمان هذا هو ابن سليمان بن محمد بن جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف. وفيهم من نسبه إلى أبي سليمان جبير بن مطعم.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 392 ] ثم قال البخاري: وحدثني عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن أيوب السختياني، وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة -يزيد أحدهما على الآخر- عن سعيد بن جبير، قال ابن عباس: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت.

                                                                                                                                                                                                                              فذكر قصة زمزم بطولها وبناء البيت.

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساقه أيضا من حديث إبراهيم بن نافع، عن كثير بن كثير، عن سعيد، عن ابن عباس مطولا.

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه النسائي عن أحمد بن سعيد شيخ البخاري، عن وهب بن جرير، عن أبيه، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب.

                                                                                                                                                                                                                              ورواه أيضا عن أبي داود سليمان بن سعيد، عن علي بن المديني، عن وهب به، وفيه: قلت لأبي: حماد لا يذكر أبي بن كعب، ولا يرفعه، قال: أنا أحفظه كذا، كذا حدثني به أيوب، قال وهب: وثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن عبد الله بن سعيد، عن أبيه، عن ابن عباس نحوه، ولم يذكر أبيا، ولم يرفعه.

                                                                                                                                                                                                                              قال وهب: فأتيت سلام بن أبي مطيع فحدثني بهذا الحديث، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن عبد الله بن سعيد فرد ذلك ردا شديدا، ثم قال لي: فأبوك ما يقول؟ قلت: أبي يقول: أيوب عن سعيد، فقال: العجب، والله ما يزال الرجل من أصحابنا الحافظ قد غلط، إنما هو أيوب، عن عكرمة بن خالد، عن سعيد بن جبير. وقال [ ص: 393 ] أبو مسعود: رأيت جماعة اختلفوا على وهب بن جرير في هذا الإسناد.

                                                                                                                                                                                                                              قال الجياني: لم يذكر أبو مسعود إلا هذا، وأنا أذكر ما انتهى إلي من الخلاف على وهب وعلى غيره في هذا الإسناد: قد رواه عن حجاج، عن وهب به بزيادة أبي بن كعب، ثم رواه من طريق البخاري بإسقاطه، ورواه علي بن المديني عنه بإثباته.

                                                                                                                                                                                                                              ورواه حماد بن زيد، عن أيوب فلم يذكره ولا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورواه ابن علية عن أيوب فقال: نبئت عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: [أول] من سعى بين الصفا والمروة.. الحديث بطوله نحوا مما رواه معمر، عن أيوب، عن سعيد، وفيه قصة زمزم، ورواه سلام بن أبي مطيع، عن أيوب، عن عكرمة بن خالد، لم يذكر ابن جبير.

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو علي: فكيف يصح هذا، وفيه من الخلاف ما عرفت؟ فنقول: إذا ميزه الناظر ميز منه ما ميزه البخاري، وحكم بصحته، وعلم أن الخلاف الظاهر فيه إنما يعود إلى وفاق، وأنه لا يدفع بعضه بعضا، فأما من أوقفه فقليل، والذين أسندوه أئمة حفاظ، وكذلك من أسقط من سنده أبيا لا يوهنه. والحديث إذا اتصل إلى ابن عباس وكان محفوظا فلا نبالي من رواه عنه ابن عباس، ولا يعد مرسلا، وأما من أسقط عبد الله بن سعيد فليس بشيء، قد صح أن أيوب رواه عنه، عن أبيه، وقد أتى به في الإسناد حماد بن زيد، وجرير بن حازم، قال ابن علية، عن أيوب: نبئت عن سعيد. فهذا يصح أن أيوب إنما أخذه من عبد الله بن سعيد عن أبيه، وإنما كان يسقط [ ص: 394 ] وهب في بعض الأحايين، ويسوقه معنعنا على سبيل التخفيف وتقريب الإسناد، وكان أحمد بن سعيد يحدث به على الوجهين بسقوطه وإثباته، وأما إنكار سلام أن يكون مخرج الحديث عن سعيد رواية عن عكرمة فلا يلتفت إليه; لأنه ليس من جمال (المحامل).

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقرر ذلك فالكلام عليه من وجوه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              (شنة): القربة البالية.

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى: (تعفي أثرها): تسحب (طرف) الثوب على التراب وذلك أن سارة أبطأها الولد، فوهبت هاجر لإبراهيم، فلما ولدت إسماعيل قالت: لا تساكني في بلد، فكانت هاجر أول من خفضت من النساء، كما أن زوجها أول من اختتن من الرجال، وأول امرأة جرت ذيلها، وأول امرأة ثقبت أذناها، وذلك أن سارة غضبت عليها، فحلفت أن تقطع ثلاثة أعضاء من أعضائها، فأمرها إبراهيم أن تبر قسمها بثقب أذنيها وخفاضها.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن أبي زيد في "نوادره": فصارت سنة في النساء، فلما خفضت ورأت الدم سترته بذيلها، فمن ثم أرخى النساء ذيولهن.

                                                                                                                                                                                                                              والجراب: الأفصح كسر جيمه كما سلف، والدوحة: الشجرة العظيمة، والسقاء: إهاب فيه ماء، والقربة التي يستقى فيها، وفي رواية: (شنة) أي: خلقة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 395 ] ومعنى (قفى إبراهيم): ولى، ذكره الهروي في تفسير قوله - عليه السلام -: "أنا المقفي" أي: المولي، ومعنى: (نفد ما في السقاء): فرغ، و(عطشت): بكسر الطاء، وكذا (عطش ابنها)، ومعنى (يتلوى): يتمرغ ويتقلب. وقال ابن التين: يتقلب ظهرا لبطن، واللوى: وجع في البطن، ومعنى: (يتلبط) -بالباء الموحدة قبل الطاء-: ينصرع، وقيل: تحير.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الداودي: هو أن يحرك شفتيه ولسانه كأنه يموت. قال الخليل: لبط فلان بفلان الأرض إذا صرعه صرعا عنيفا. وقال ابن دريد: اللبط باليد والخبط بالرجل. وقوله: (يتلوى أو قال: يتلبط) هو شك من الراوي في أيهما وقع. قال الدارقطني: والتبلط أكثر.

                                                                                                                                                                                                                              وقال القزاز: معناهما واحد أي: يتضرب، (يتلوى) في الأرض.

                                                                                                                                                                                                                              (فهبطت) بفتح الباء. وفيه أصل مشروعية السعي بين الصفا والمروة كما نطق به الشارع.

                                                                                                                                                                                                                              و(صه): -بفتح الصاد وسكون الهاء من أسماء السكوت (تريد نفسها) لتسمع ما فيه فرج.

                                                                                                                                                                                                                              و(الغواث) بضم الغين، كذا ضبطه الدمياطي، وضبطه ابن التين بفتحها، قال: قيل: وليس من الأصوات ما يقال بفتح الفاء غيره، [ ص: 396 ] قال: ويجوز ضمه. وقال ابن الجوزي: قال لنا ابن الخشاب بالفتح، والغياث: بالكسر من الإغاثة. قال ابن الأثير: وروي غواث بالضم والكسر وهما أكثر ما يجيء في الأصوات كالنباح والنداء، والفتح فيهما شاذ. وقال القاضي: الفتح للأصيلي والضم لأبي ذر. والبحث: طلب الشيء في التراب، وكأنه حفر بطرف رجله.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فبحث بعقبه أو قال: بجناحه) الظاهر أنه شك من الراوي وذكر في الحديث الآخر: (فانبثق الماء) أي: نبع وخرج. و(تحوضه): تجعله حوضا; لئلا يذهب الماء. و(يفور): ينبع، مثل قوله تعالى: وفار التنور [هود: 40] ولا شك أن إجراء زمزم كان إنعاما محضا لم يشبه كسب البشر، فلما دخل الحرص وقفت تلك النعمة ووكلت إلى تدبيرها.

                                                                                                                                                                                                                              وأفاد الزمخشري في "ربيعه" أنها أنبطت قبل لآدم، حتى انقطعت زمن الطوفان أيضا، ثم لإسماعيل.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("يرحم الله أم إسماعيل") إنما يبتدأ بالدعاء للمذكور أو المخاطب; إكراما له; لقوله: عفا الله عنك لم أذنت لهم [التوبة: 43].

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("لو تركته لكان عينا معينا") أي: يجري على وجه الأرض. وفيه جواز قول المرء: لو لم يكن كذا كان كذا، وسيأتي له باب.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 397 ] و(الضيعة): الضياع، والرابية: المكان المرتفع.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة) كذا ضبطه الدمياطي خطأ بالضم، وصرح به ابن الجوزي حيث قال: الفتح والمد: أعلى مكة، والضم والكسر: أسفلها، وهو المراد هنا; لأنه قال: (فنزلوا أسفل مكة) وهو موضع يخرج منه من مكة إلى اليمن.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الثاني:

                                                                                                                                                                                                                              (جرهم): هو ابن قحطان بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح، والطير العائف -بالعين المهملة-: هو الذي يتردد ويحوم حول الماء ولا يبرح، قاله الخليل، ورجل عائف: يتكهن، والعائف: الذي يعرف مواضع الماء من الأرض.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فأرسلوا جريا أو جريين) يريد: الرسول والوكيل، وقيل: الأجير. وقوله: (وأنفسهم) هو بفتح الفاء، مثل قوله عقبه: (وأعجبهم).

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              سارة هي ابنة عمه توبيل بن ناحور، وقيل: هي بنت هاران الأكبر بن ناحور، وقول ابن قتيبة وغيره أن سارة هي بنت هارن بن تارح فغير جيد; لأن الله تعالى حرم نكاح بنت الأخ على لسان نوح.

                                                                                                                                                                                                                              وكان إسماعيل مرسلا أرسل إلى أخواله من جرهم، وإلى العماليق الذين كانوا بأرض الحجاز، فآمن بعض وكفر آخرون. قال ابن قتيبة: عاش مائة وسبعة وثلاثين سنة، ودفن مع أمه بالحجر.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 398 ] الثالث:

                                                                                                                                                                                                                              قال السهيلي: التي أمره أبوه بطلاقها اسمها جداء بنت سعد، والتي أمره بإمساكها اسمها السيدة، وقيل: عاتكة، وقيل سامة بنت مهلهل. وعند ابن سعد: أم ولد إسماعيل رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي.

                                                                                                                                                                                                                              وعند الكلبي: رعلة بنت يعرب بن يشجب بن لوذان بن جرهم. وعند الجواني: هالة بنت الحارث بن مضاض، ويقال: سلمى، ويقال (الحنفاء).

                                                                                                                                                                                                                              الرابع:

                                                                                                                                                                                                                              أول من نطق بالعربية إسماعيل، أخرجه الحاكم في "مستدركه" وقال: صحيح الإسناد. وذكر ابن إسحاق، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي ذر مرفوعا: أنه أول من كتب بالعربية.

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو عمر: هو أصح من رواية من روى أنه أول من تكلم بها.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "أدب الكاتب" للنحاس من حديث علي بإسناده مرفوعا: "أول من أنطق الله لسانه بالعربية المبينة إسماعيل وهو ابن أربع عشرة سنة" وأثنى أبو عبيدة على إسناده، وذكر أبو عمر له متابعا في كتاب "القصد والأمم".

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن سعد: أخبرنا الأسلمي، عن غير واحد من أهل العلم أن إسماعيل ألهم من يوم ولد لسان العرب.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 399 ] وقال هشام بن محمد: قال الشرقي: عربية إسماعيل أفصح من عربية يعرب بن قحطان. وقال النحاس: عربية إسماعيل هي التي نزل بها القرآن. وأما عربية حمير وبقايا جرهم فغير هذه العربية المبينة وليست فصيحة. وعن أبي عمرو بن العلاء قال: أول من فتق الله لسانه بالعربية المبينة إسماعيل، قال أبو عمر: لا يصح غير هذا. وفي "الوشاح" لابن دريد: أول من تكلم بالعربية القديمة يعرب بن قحطان ثم إسماعيل.

                                                                                                                                                                                                                              الخامس:

                                                                                                                                                                                                                              العتبة -بفتح الباء-: أسكفة الباب، قاله ابن التين.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فلما جاء إسماعيل) كأنه آنس شيئا، أي: أحس، مثل: فإن آنستم منهم رشدا [النساء: 6]. أي: علمتم.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (في ضيق وشدة) وقال ابن التين فأخبرته: أنا في جهد قال: والجهد: بضم الجيم عند الشعبي; لأنه من الفتنة، وعند غيره هو بالفتح.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (كأنه ينشغ للموت) هو بنون ثم بشين معجمة، والنشغ -بإسكان الشين المعجمة وبالغين المعجمة-: الشهيق وعلو النفس الصعداء حتى يكاد يبلغ به الغشي.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن فارس: هو مثل الشهيق عند الشوق من شدة ما يرد عليه منه. وقيل: معناه: يمتص بفيه. من نشغت الصبي دواء انتشغه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن التين: هو مثل الشهيق عند الموت، ويقال: الناشغ: الذي يحفى بعد جهد. وقيل: هو الشهيق من ناحية الصدر حتى يبلغ الغشي.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 400 ] وروى أبو أيوب عن الأصمعي: نشغه بالغين وبالعين، إذا أوجر الصبي.

                                                                                                                                                                                                                              وعند ابن فارس: هو بالعين غير المعجمة) إذا أوجره. وفي الحديث: "لا تعجلوا بتغطية وجه الميت حتى ينشع" قال الأصمعي: النشغات عند الموت فوقات خفيات.

                                                                                                                                                                                                                              السادس:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (فقال: يا إسماعيل إن ربك أمرني أن أبني له بيتا. قال: أطع ربك. قال: إنه أمرني أن تعينني عليه قال: إذا أفعل أو كما قال). وقال في الحديث قبله: (يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك به ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك).

                                                                                                                                                                                                                              لا مخالفة بين هذا وبين الأول، وقال ابن التين: انظر هل يحتمل أن يقال: أمره الله أن يعينه بعد ذلك، فيكون هذا الحديث الآخر متأخرا بعد الأول؟ قلت: يجوز أن يكون طلب منه الإعانة أولا فأجاب، ثم أخبره ثانيا أن الله أمره بها.

                                                                                                                                                                                                                              خاتمة:

                                                                                                                                                                                                                              أول من بنى البيت آدم أو شيث أو الملائكة، وقال ابن هشام في "تيجانه": معناه: نصب; لأن عليه نصبت الدنيا، ثم بناه إبراهيم، ثم قريش، ثم ابن الزبير، ثم الحجاج، وقيل: إن جرهما بنته مرة أو مرتين. وقيل: إنه لم يكن بناء وإنما كان إصلاحا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 401 ] الحديث الثالث:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي ذر قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: "المسجد الحرام". قلت: ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى". قلت: كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة، ثم أينما أدركتك بعد الصلاة فصله، فإن الفضل فيه"..

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث يأتي قريبا في باب: ووهبنا لداود سليمان، وأخرجه مسلم أيضا، قال الخطابي: يشبه أن يكون المسجد الأقصى أول ما وضع، بناه بعض أولياء الله قبل داود وسليمان ثم بنياه وزادا فيه وسعاه فأضيف لهما بناؤه; لأن المسجد الحرام بناه إبراهيم، وبينه وبين داود وسليمان عدة من الأنبياء: ابنه إسحاق، ويعقوب، ويوسف، وموسى، ومدة أعمارهم أضعاف أربعين سنة، فوجه الحديث ما قلناه. وقد ينسب هذا المسجد إلى إيليا، فيحتمل أن يكون هو بانيه أو غيره، ولست أحقق لم أضيف إليه.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن حبان في "صحيحه" لما أخرجه: هذا فيه دحض لقول من زعم أن بين إسماعيل وداود ألف سنة. واعترضه الضياء الحافظ فقال: وجه هذا الحديث أن هذين المسجدين وضعا قريبا ثم خربا ثم بنيا. وقال القرطبي: يرتفع الإشكال بأن يقال: إن الآية الكريمة والحديث لا يدلان على أن إبراهيم وسليمان ابتدءا وضعهما، بل كان تجديدا لما أسسه غيرهما.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 402 ] وقد روي أن أول من بنى البيت آدم، وعلى هذا فيجوز أن يكون غيره من ولده رفع بيت المقدس بعده بأربعين عاما، وبنحوه ذكره ابن الجوزي وغيره، ويوضحه ما ذكر ابن هشام في "تيجانه" أن آدم لما بنى البيت أمره جبريل بالمسير إلى بيت المقدس وأن يبنيه فبناه ونسك فيه.

                                                                                                                                                                                                                              ويؤيده أيضا ما رواه خالد بن عرعرة قال: سأل رجل عليا - رضي الله عنه - عن أول بيت وضع للناس الآية [آل عمران: 96] أهو أول بيت بني في الأرض؟ قال: لا، كان نوح قبله، وكان في البيوت، وكان إبراهيم قبله وكان في البيوت، ولكنه أول بيت وضع فيه البركة والهدى، ومن دخله كان آمنا. وظاهره أن الوضع غير البناء.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              في "تاريخ بيت المقدس" للكنجي عن أبي عمرو الشيباني أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: كانت الأرض ماء فبعث الله ريحا فمسحت الأرض مسحا فظهرت على الأرض زبدة، فقسمها الله أربع قطع، فخلق من قطعة مكة ومن الثانية المدينة ومن الثالثة بيت المقدس.. الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "فضائله" أيضا للواسطي من حديث ابن لهيعة عن يزيد، عن عطاء، عن عائشة - رضي الله عنها - أن مكة خلقها الله تعالى وحفها [ ص: 403 ] بالملائكة قبل أن يخلق شيئا من الأرض كلها بألف عام، ووصلها بالمدينة، ووصل المدينة ببيت المقدس، ثم خلق الأرض كلها بعد بألف عام، فعلى هذا تكون الأيام التي خلقت فيها السموات والموجودات كل يوم منها ألف سنة، على ما رجحه واحتج له ابن حزم، فيكون بين خلق البيت وخلق المسجد الأقصى هذا المقدار من سني الدنيا.

                                                                                                                                                                                                                              وقد يخدش فيه قول أبي ذر: (أي مسجد وضع في الأرض أول) وقد يراد موضع يوضع، وقول صاحب "التاريخ": روي عن كعب الحبر أن سليمان بنى بيت المقدس على أساس قديم كان أسسه سام بن نوح لا يدفع ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              في النسائي بإسناد حسن عن عبد الله بن عمر مرفوعا أن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل الله -عز وجل- خلالا ثلاثة: حكما يصادف حكمه فأوتيه، وملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، فلما فرغ من بنائه سأل الله ألا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وذكر أبو بكر محمد بن أحمد الواسطي في "تاريخ بيت المقدس" أن سليمان اشترى أرضه بسبعة قناطير ذهبا.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قيل له: الأقصى; لبعد المسافة بينه وبين الكعبة، وقيل: لأنه لم [ ص: 404 ] يكن وراءه موضع عبادة، وقيل: لبعده عن الأقذار والخبائث فإنه مقدس أي: مطهر.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (أي مسجد وضع أول) أي: للصلاة، وهو من خصائص هذه الأمة; لأن من كان قبلها كانوا لا يصلون إلا في موضع تيقنوا طهارته، ونحن خصصنا بجوازها في كل الأرض إلا ما تيقنا نجاسته وباشرناها.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الرابع:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أنس - رضي الله عنه - في أحد وتحريم مكة والمدينة.

                                                                                                                                                                                                                              سلف في الجهاد وغيره، ورواه عبد الله بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تقدم أيضا في البيوع.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الخامس:

                                                                                                                                                                                                                              حديث عائشة - رضي الله عنها - في رد الكعبة على القواعد. سلف في الحج، وفيه: (ابن أبي بكر) وهو عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخو القاسم، قتل بالحرة. وقوله آخره (وقال إسماعيل: عبد الله بن محمد بن أبي بكر) وهذا أخرجه في التفسير عن إسماعيل بن أبي أويس متصلا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 405 ] الحديث السادس والسابع:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي حميد وكعب بن عجرة، سلفا في الصلاة.

                                                                                                                                                                                                                              وأبو حميد: اسمه عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج ابن عم سهل بن سعد بن مالك، وأبو أسيد مالك بن ربيعة بن بدر بن عمر، وقيل: عامر بن عوف بن حارثة، مات أبو حميد في آخر خلافة معاوية قاله الواقدي.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثامن:

                                                                                                                                                                                                                              حديث جرير، عن منصور، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسين ويقول: "إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق، أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة".

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث رواه الأربعة: أبو داود في السنة، والترمذي وابن ماجه في الطب.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 406 ] وقال الترمذي: حسن صحيح، والنسائي في النعوت و"اليوم والليلة".

                                                                                                                                                                                                                              رواه النسائي من حديث جرير (عن منصور) عن سليمان فقال: عن المنهال عن عبد الله بن الحارث، مرسل، ورواه محمد بن فضيل عن الأعمش فقال: عن المنهال، عن محمد بن علي بن أبي طالب قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل، ورواه الإسماعيلي من حديث الأعمش ومنصور، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              (كلماته التامة) كلامه مطلقا، وقال الهروي: القرآن. وقال ابن التين: التام فضلها وبركتها; لأنها تمضي وتستمر، لا يردها شيء، ولا يحقق معها طلبه، وقيل: أقضيته وعذابه يتضمنها كلامه كقوله تعالى: وتمت كلمت ربك الحسنى [الأعراف: 137] (وهي): ونريد أن نمن [القصص: 5] وقيل: الكاملة أي: أنه لا يدخلها نقص ولا عيب كما يدخل كلام الناس، وقيل: النافعة الكافية الشافية مما يتعوذ به. قال الخطابي: كان أحمد يستدل بقوله: "كلمات الله التامة" على أن القرآن غير مخلوق ويقول: إنه - عليه السلام - لا يستعيذ بمخلوق.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 407 ] وقوله: "من كل شيطان وهامة" وقال الداودي يعني: شياطين الإنس والجن. قال: والهامة: كل ذي نفس. وقال الخطابي: الهامة من الهوام ذوات السموم. وقال ابن فارس: الهوام حشرات الأرض. وقال الهروي: الهوام: الحيات، وكل ذي سم يقتل، فأما ما لا يقتل وسم فهي السوام مثل: العقرب والزنبور، ومنها القيام مثل القنافذ والخنافس والفأر واليرابيع، قال: وقد تقع الهامة على ما يدب من الحيوان، ومنه قوله لكعب بن عجرة "أيؤذيك هوام رأسك؟" أراد: القمل، سماها (هواما); لأنها تهم في الرأس وتدب، وقيل الهامة: كل نسمة تهم بسوء.

                                                                                                                                                                                                                              و(العين اللامة) قال أبو عبيد: أصلها من ألممت إلماما بالشيء نزلت به، ولم يقل: ملمة; كأنه أراد أنها ذات لمم. وقال ابن الأنباري: اللامة: الملمة، وهي الآتية في الوقت بعد الوقت. وإنما قال: "لامة" وقياسها: ملمة; ليوافق لفظ "هامة" فيكون ذلك أخف على اللسان، وقال الخطابي: اللامة: ذات اللمم، وهي كل داء وآفة تلم بالإنسان من جنون وخبل ونحوه.

                                                                                                                                                                                                                              والعين اللامة ذات لمم بإصابتها وضرها، وقال الداودي: هي كل عين تصيب الإنسان إذا حلت به. وقاله ابن فارس أيضا.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية