الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              3733 3949 - حدثني عبد الله بن محمد، حدثنا وهب، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق: كنت إلى جنب زيد بن أرقم، فقيل له: كم غزا النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزوة؟ قال: تسع عشرة. قيل: كم غزوت أنت معه؟ قال: سبع عشرة. قلت: فأيهم كانت أول؟ قال: العسيرة أو العشير.

                                                                                                                                                                                                                              فذكرت لقتادة، فقال: العشير.
                                                                                                                                                                                                                              [4404 - 4471 - مسلم: 1254 - فتح: 7 \ 279]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق من حديث شعبة، عن أبي إسحاق: قال: كنت إلى جنب زيد بن أرقم، فقيل له: كم غزا النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزوة؟ قال تسع عشرة. قيل: كم غزوت أنت معه؟ قال: سبع عشرة. قلت: فأيهم كانت أول؟ قال: العشيرة. أو: العسير. فذكرت لقتادة، فقال: العشيرة.

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              من هنا شرع البخاري -رحمه الله- بذكر جماع مغازي سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعوثه وسراياه، ولا شك أن الله تعالى لما أذن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القتال كانت أول آية نزلت في ذلك أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا كذا رويناه من طريق سعيد بن جبير والزهري ، وقال: "أمرت أن أقاتل الناس" الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 11 ] قال أهل السير كما طرقه ابن سعد عنهم: كان عدد مغازيه التي غزا بنفسه ستة وعشرين، وكانت سراياه التي بعث فيها سبعة وأربعين سرية .

                                                                                                                                                                                                                              قلت: والذي بالتأمل -إن شاء الله- المجموع فوق المائة كما سيمر بك في هذا الشرح المبارك، وكان ما قاتل فيها من المغازي تسعة: بدر القتال وأحد والمريسيع والخندق وقريظة وخيبر وفتح مكة وحنين والطائف، وفي رواية: أنه قاتل في بني النضير لكن الله جعلها له نفلا خاصة، وقاتل في غزاة وادي القرى منصرفه من خيبر، وقتل بعض أصحابه، وقاتل في الغابة، فأول مغازيه غزوة ودان على رأس اثني عشر شهرا من مقدمه المدينة لاثنتي عشرة ليلة مضت من صفر، وهي غزوة الأبواء، ثم رجع إلى المدينة، قاله ابن إسحاق.

                                                                                                                                                                                                                              وكان استعمل عليها سعد بن عبادة فيما ذكره ابن هشام. قال ابن إسحاق: فوادعته فيها بنو ضمرة، وكان الذي وادعه منهم مخشي بن عمرو الضمري، وكان سيدهم في زمانه، ثم رجع ولم يلق كيدا. ثم ذكر ابن إسحاق بعده بعث حمزة بن عبد المطلب بن عبد مناف وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف في ربيع الأول في ستين أو ثمانين راكبا من المهاجرين ليس معهم أحد من الأنصار، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة فلقي بها جمعا عظيما من قريش، فلم يكن بينهم قتال، إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمى يومئذ بسهم، فكان أول سهم رمي به في الإسلام .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 12 ] قال ابن إسحاق: وكانت راية عبيدة فيما بلغنا أول راية عقدت في الإسلام، وبعض العلماء يزعم أنه عليه السلام بعثه حين أقبل من غزوة الأبواء قبل أن يصل إلى المدينة، وبعث في مقامه ذلك حمزة بن عبد المطلب بن هاشم إلى سيف البحر من ناحية العيص في ثلاثين راكبا، فلقي أبا جهل ولم يكن هناك قتال، قال: وبعض الناس يقول: كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معا فشبه ذلك على الناس .

                                                                                                                                                                                                                              وقال موسى بن عقبة: أول البعوث بعث حمزة، ثم بعث عبيدة، ثم سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار، في ذي القعدة، ثم غزوة الأبواء وهي غزوة ودان على رأس اثني عشر شهرا.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق: ثم غزا في ربيع الأول حتى بلغ بواط من ناحية رضوى ثم غزوة العشيرة التي ذكرها البخاري ونقلها عن ابن إسحاق.

                                                                                                                                                                                                                              إذا قلت كذلك، فالكلام من وجوه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (فذكرت ذلك لقتادة) هو شعبة فيما نسبه.

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (قلت: فأيهم كانت أول؟) قال الدمياطي: الكلام: أيهن أو أيها، وفي "مسند أبي داود الطيالسي" حدثنا شعبة عن أبي إسحاق: قلت لزيد بن أرقم: ما أول غزوة غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: ذات العسير أو العشيرة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 13 ] وفي "مسند مسلم" و"تاريخ ابن أبي خيثمة" من رواية غندر، عن شعبة بسنده: ذات العشير أو العسير، وتابع شعبة إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن زيد، إلا أنه لا ذكر لأولاهن، قاله عبد الله بن رجاء، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة. ذكره في آخر المغازي .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              قال عياض: وقع في البخاري العشير والعسير، بفتح العين وكسر السين المهملة، وحذف الهاء، قال: والمعروف تصغيرها، وبالشين المعجمة، وحكي أيضا فتح المهملة وضم السين بغير هاء ، ذكر ذلك الحاكم ، قال السهيلي: معنى العسير أو العسير أنه اسم مصغر من العسرى والعسراء، وإذا صغر تصغير الترخيم، قلت: عسيرة، وهي بقلة أذنة، أي: عصيفة، ثم تكون سحاء، ثم يقال لها: العسرى، وأما العشيرة بالشين المعجمة فتصغير واحد العشر ، قال أبو عبيد: خرج - صلى الله عليه وسلم - من المدينة فسلك على شعب بني دينار، ثم فيفاء الخرار ثم سلك شعب عبد الله، ثم هبط ملل فنزل بمجتمعه، ثم سلك فرش ملل حتى لقي الطريق ضمرة اليمام، ثم اعتدل به الطريق حتى نزل العشيرة، قال حسان بن ثابت يذكر قومه في أبيات منها:


                                                                                                                                                                                                                              ولم يكن في إيمانه خلل وبايعوه فلم ينكث به أحد منهم مع الرسول عليها البيض والأسل
                                                                                                                                                                                                                              وذا العشيرة جاسوها بخيلهم



                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 14 ] ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              كانت في جمادى الآخرة على رأس ستة عشر شهرا من المهاجر فيما ذكره ابن سعد وحمل لواءه حمزة، وكان أبيض، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وخرج في خمسين ومائة، ويقال: في مائتين من المهاجرين على ثلاثين بعيرا يعتقبونها، فبلغ ذا العشيرة وهي لبني مدلج بناحية ينبع، وبين ينبع والمدينة تسع برد . وذكر في هذه الغزوة: أتى عليا أبا تراب وأخبره بأشقى الناس عاقر الناقة. ووادع بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة، وذكرها ابن إسحاق في جمادى الأولى قال: وأقام بها بقيته وليال من جمادى الآخرة ، وكذا قال موسى بن عقبة: إنها في جمادى الأولى، ووجد العير التي خرج إليها قد كانت قبل ذلك بأيام، وهي العير التي خرج إليها حين رجعت من الشام، فكانت بسببها وقعة بدر الكبرى.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها:

                                                                                                                                                                                                                              قول ابن إسحاق مخالف لما ذكره عن زيد بن أرقم أنها أول غزواته، فيحتمل أن يكون زيد أشار إلى أنها أول غزوة كان فيها مناوشة وقتال، أو أول غزواته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو بالنسبة إلى ما علمه. وادعى الداودي أنه قيل أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحضرها بنفسه، وهو خلاف ما قاله موسى بن عقبة، أنه غزاها مع المهاجرين خاصة، وله هو خلاف ما ذكره ابن سعد وابن إسحاق. وادعى الداودي أن عدة مغازيه وسراياه خمس وأربعون، وقد أهمل وأكثر مما ذكر كما أسلفناه،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 15 ] قال: والى القتال بنفسه في ثمان، ذكرها الله في القرآن: بدر سنة اثنين، وأحد سنة ثلاث، والأحزاب سنة أربع، وفيها بنو قريظة، وبنو المصطلق سنة خمس، وخيبر سنة ست -ويقال: أول سنة سبع- والفتح وحنين سنة ثمان، ولعله والى القتال بنفسه في ثمان قاتل فيها، وقد سلف أنه قاتل في غير ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              والأحزاب هي الخندق، وقيل: إنها سنة خمس، نعم، قال مالك: كانت سنة أربع في برد شديد، وقوله في بني المصطلق: إنها في سنة خمس، قال غيره: سنة ست.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية