الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              3955 4191 - حدثني محمد بن هشام أبو عبد الله حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية ونحن محرمون، وقد حصرنا المشركون قال: وكانت لي وفرة، فجعلت الهوام تساقط على وجهي، فمر بي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " أيؤذيك هوام رأسك؟ ". قلت: نعم. قال: وأنزلت هذه الآية: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [البقرة:196].

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              وبايعوا على ألا يفروا، وسيأتي أنهم بايعوه على الموت، وكانت الشجرة سمرة، فعلم ما في قلوبهم من الإخلاص فأنزل السكينة عليهم [الفتح:18] ،أي: الصبر والوقار كما (أفاده) قتادة،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 297 ] وأثابهم فتحا قريبا ، أي: خيبر، كما قاله قتادة أيضا ، وقد أسلفنا في الحج أن الحديبية مخففة الياء، وأنكر أهل اللغة تثقيلها، وجعله صاحب التنظير بحثا، ونقله الخطابي عن أهل الحديث فيه وفي الجعرانة أن أهل العربية يخففونها، وقال البكري: أهل العراق يثقلون بخلاف أهل الحجاز .

                                                                                                                                                                                                                              وهل هي في الحل والحرم، أو بعضها في الحل وبعضها في الحرم؟ فيه خلاف سبق أيضا، ويفسر فائدة الخلاف أن هدي الإحصار لا يكون إلا في الحرم عند مالك، خلافا للشافعي، فإنه قال: هذا محصر .

                                                                                                                                                                                                                              وهي قرية ليست بالكبيرة سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة، بينها بين المدينة تسع مراحل، ومرحلة إلى مكة، وكانت مغازيه - صلى الله عليه وسلم - في الحل ومصلاه في الحرم، وكانت في هلال ذي القعدة يوم الاثنين سنة ست، ركب النبي - صلى الله عليه وسلم - ناقته القصواء بعد اغتساله، قال البيهقي: وهذا هو الصحيح أنها سنة ست. وإليه ذهب الزهري وقتادة وابن عقبة وابن إسحاق وغيرهم، واختلف فيه على عروة، فقيل مثل الجماعة، وقيل في رمضان، فروي عنه: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان، وكانت العمرة في شوال .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن سعد: ولم يخرج معه بسلاح إلا السيوف في القرب .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 298 ] وساق سبعين بدنة فيها جمل أبي جهل الذي غنمه يوم بدر ومعه من المسلمين ألف وستمائة، ويقال: ألف وأربعمائة، ويقال: ألف وخمسمائة وخمسة وعشرون رجلا ومعه أم سلمة.

                                                                                                                                                                                                                              قال الحاكم: والقلب أميل إلى رواية من روى: ألف وخمسمائة; لاشتهاره ولمتابعة المسيب بن حزن له فيه، فلعل الأخذ به أولى لاشتهاره وروايته عن جماعة، قال: ورواية موسى بن عقبة: كانوا ألفا وستمائة لم يتابع عليها.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: قاله أبو معشر وأبو سعيد النيسابوري، قال: وروي عن عبد الله بن أبي أوفى: كانوا ألفا وثلاثمائة. وستأتي هذه في البخاري مع رواية البراء أنهم كانوا ألفا وأربعمائة، ومع إحدى روايتي جابر ، كذلك تابعهما سلمة بن الأكوع ومعقل بن يسار ، وصححه البيهقي ، وسعيد بن المسيب زعم أن جابرا حدثه بالخمسمائة ، ثم نسيه جابر، وجمع ابن دحية بين اختلاف الروايات أن ذلك من باب الحزر والتخمين لا التحديد، ويجوز أن يكون بعضهم ضم إليهم النساء وبعضهم حذف.

                                                                                                                                                                                                                              وقد قالوا: إن ابن أبي أوفى هو الذي حقق عدتهم بقوله: (وكانت أسلم ثمن المهاجرين) وثلاثة عشرة مائة من المستحبات أن يكون في لقاء

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 299 ] العدو، وكذا قوله: والعاديات ضبحا ثلاثة عشر حرفا فالموريات قدحا مثله فالمغيرات صبحا [العاديات: 1 - 3 ] مثله، فمراعاة هذا العدد إنما في السرايا من حيث التفاؤل مطلوب; لأنه جزاؤهم لا يقبل التكثير، وقد كانت الصحابة يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              ذكر ابن سعد بعد الإفك غزوة ذي قرد، ثم سرية عكاشة بن محصن الأسدي إلى الغمر -غمر مرزوق- وهو ماء لبني أسد، فكانت في ربيع الأول سنة ست، ثم سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة بفتح القاف والصاد المهملة في ربيع الآخر منها ، ثم سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة في الشهر المذكور، ثم سرية زيد بن حارثة إلى بني سليم بالجموم بفتح الجيم: ناحية بطن نخل عن يسارها فيه أيضا، ثم سرية زيد أيضا إلى العيص، بينها وبين المدينة أربع ليال في جمادى الأولى منها، ثم سرية زيد أيضا إلى الطرف: ماء قريب من المراض دون النخيل على ستة وثلاثين ميلا من المدينة، ثم سريته أيضا إلى حسمى، وهي وراء وادي القرى في جمادى الآخرة، ثم سريته أيضا إلى وادي القرى في رجب منها، ثم سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل في شعبان منها.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر ابن إسحاق سرية لزيد إلى مدين . وذكر ابن سعد بعد سرية عبد الرحمن سرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر منها. ثم قال: وسرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة بوادي القرى في رمضان منها، ثم سرية

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 300 ] عبد الله بن رواحة إلى أسير بن (رزام) اليهودي، ثم سرية (سلمة بن) عمرو الضمري، وسلمة بن حريس. وعند ابن إسحاق: بدل سلمة بن حريس جبار بن صخر إلى أبي سفيان بن حرب بمكة ثم ذكر غزوة الحدييبة .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              ذكر البخاري في الباب أحاديث نحو الثلاثين:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث زيد بن خالد قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية، فأصابنا مطر .. الحديث، سلف في الصلاة والاستسقاء .

                                                                                                                                                                                                                              وقد أسلفنا هناك أن من اعتقد أن النوء هو الفاعل للمطر فقد كفر، ومن اعتقد ذلك دالا عليه فلا بأس به، وقال بعض المالكية: هو مخطئ إن اعتقد ذلك، وقال بعضهم: من قاله يخبر به بما جرى من الأزمنة فلا يدخله ما في الحديث، وقد أسلفنا عن عمر - رضي الله عنه - أنه سأل عن نوء الثريا فراجعه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 301 ] الحديث الثاني:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أنس في عمره - صلى الله عليه وسلم - وقد سلف في الحج، وعده منها عمرة مع حجته على قول من لم ير أنه أحرم مفردا، ثم أدخلها عليه.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثالث:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي قتادة: انطلقنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية، فأحرم أصحابه ولم أحرم .. سلف، وإنما لم يحرم; لأنه أرسل كاشفا لطريق الساحل ولم يقصد الإحرام، ويجوز أن المواقيت لم توقت يومئذ.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الرابع:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي إسحاق، عن البراء، قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع عشرة مائة، والحديبية بئر، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ، ثم مضمض ودعا، ثم صبه فيها، فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا.

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (تعدون الفتح) إلى آخره، قاله أنس وكعب أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              قال مجاهد: فتحنا لك قضينا لك قضاء بينا ، واستحسنه بعضهم; لأن فتح الحديبية قضاء من قضاء الله، وهداية من هدايته، هدى بها من شاء، وعن ابن عباس: ما كنت أدري معنى إنا فتحنا

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 302 ] لك
                                                                                                                                                                                                                              حتى قالت ابنة مشرح: فتح الله بينك وبينه .

                                                                                                                                                                                                                              قوله: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وقوله: (فنزحناها) كذا في الأصول، وذكره ابن التين بلفظ: فنزفناها، ثم قال النزح والنزف واحد: وهو أخذ الماء شيئا بعد شيء، ثم قال: وقوله: (فنزحناها) -أي: في الحديث الآتي بعد- لم يبق فيها ماء، يقال: نزحت البئر، فنزحت لازم ومتعد، وفيه علم من أعلام نبوته في كثرة الماء.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الخامس:

                                                                                                                                                                                                                              حديث البراء أيضا مثله. وأنهم كانوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية ألفا وأربعمائة أو أكثر، فنزلوا على بئر فنزحوها، وفيه: أنه بصق، وهو بالصاد وبالسين وبالزاي أيضا بمعنى.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث السادس:

                                                                                                                                                                                                                              حديث سالم، عن جابر: عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين يديه ركوة، فتوضأ منها، الحديث، وفيه: ليس عندنا ماء إلا ما في ركوتك. فجعل يده فيها، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، قال: فشربنا وتوضأنا. قلت: لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة.

                                                                                                                                                                                                                              الركوة -بكسر الراء وفتحها- وحكى ابن دحية تثليثها: جلد مستجف كالإناء ومعنى (يفور): ينبع، وأصل الفور الغليان، يقال: فارت القدر إذا غلت.

                                                                                                                                                                                                                              وفي هذه الرواية أنهم كانوا ألفا وخمسمائة.

                                                                                                                                                                                                                              ثم ذكر بعده عن يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: قلت لسعيد بن

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 303 ] المسيب:
                                                                                                                                                                                                                              بلغني أن جابرا كان يقول: كانوا أربع عشرة مائة. فقال لي سعيد: حدثني جابر: أنهم كانوا خمس عشرة مائة الذين بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية.

                                                                                                                                                                                                                              تابعه أبو داود: ثنا قرة، عن قتادة.

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق عن سفيان: عن عمرو، عن جابر قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية: "أنتم خير أهل الأرض". وكنا ألفا وأربعمائة، ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة. تابعه الأعمش، سمع سالما، سمع جابرا: ألفا وأربعمائة.

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق معلقا عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاثمائة، وكانت أسلم ثمن المهاجرين.

                                                                                                                                                                                                                              تابعه محمد بن بشار، ثنا أبو داود، ثنا شعبة. أي عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي أوفى .

                                                                                                                                                                                                                              فالحاصل ثلاث روايات: ألف وخمسمائة وأربعمائة وثلاثمائة، وقد أسلفناها بزيادة، وكلام الحاكم أن القلب أميل إلى الأولى، وادعى ابن التين أن الأظهر الثاني، وهو الذي ذكره الشيخ أبو محمد.

                                                                                                                                                                                                                              ومتابعة أبي داود أخرجها مسلم عن محمد بن مثنى وعبيد الله

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 304 ] عنه ، قال أبو مسعود الدمشقي: حديث أبي داود مشهور عنه، وأما حديث سعيد هو ابن أبي عروبة، قال العباس بن الوليد: رواه عن يزيد بن زريع رواه كما ذكرنا، وقال فيه: نسي جابر كانوا خمس عشرة مائة ولم يقل فيه هو حدثني، وكذلك رواه أبو موسى وبندار عن ابن أبي عدي، عن سعيد كرواية العباس، وكذلك رواه غندر، عن سعيد، ورواه معاذ عن قرة كرواية أبي داود. ورواه سعيد بن الربيع بآخره، ذكره البيهقي في "دلائله" .

                                                                                                                                                                                                                              ومتابعة الأعمش أسندها البخاري في آخر الأشربة عن قتيبة، ثنا جرير، عن الأعمش به ، وأخرجها مسلم عن عثمان وإسحاق بن إبراهيم، عن جرير، عن الأعمش به .

                                                                                                                                                                                                                              والتعليق الذي ذكره عن عبيد الله بن معاذ أخرجه مسلم عنه به .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (كان أسلم ثمن المهاجرين) لعله علم عدة المهاجرين حمل على عدتهم مثل مثليهما فتعود بمثلها فتكون أسلم يومئذ ثمن المهاجرين.

                                                                                                                                                                                                                              وقول جابر: (لو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة.).

                                                                                                                                                                                                                              وقول سعيد فيما يأتي: (فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها)، فقد يكون جابر أعلم الموضع وحرص على حفظه ولم

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 305 ] يعلمه سعيد، ولا يرد قول من نسي قول من حفظ.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (قال - صلى الله عليه وسلم - لنا يوم الحديبية: "أنتم خير أهل الأرض"). فيه: منقبة ظاهرة لهم، وادعى الداودي أنه لم يرد دخول نعمة فيستدل به على أن الخضر ليس بنبي وأن إلياس ليس بنبي! وليس كما ادعاه، فإن القرآن نطق بأن إلياس من المرسلين عوضا عن كونه نبيا.

                                                                                                                                                                                                                              وكان معه علي، وبايع لعثمان بيده فكان في جملتهم، فلا يوجد فيه تفضيل علي عليه.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث السابع:

                                                                                                                                                                                                                              بعد تعداد حديث جابر وابن أبي أوفى حديث قيس، أنه سمع مرداسا الأسلمي -وكان من أصحاب الشجرة- يقول: يقبض الصالحون الأول فالأول، وتبقى حفالة كحفالة التمر والشعير لا يعبأ الله بهم شيئا.

                                                                                                                                                                                                                              (قيس) هو ابن أبي حازم، و (مرداس) هو ابن مالك الأسلمي، كوفي ليس له غير هذا الحديث ولم يروه عنه غير قيس.

                                                                                                                                                                                                                              انفرد به البخاري عن الخمسة، وفي الصحابة مرداس جماعات غيره نحو العشرة والحفالة: الرديء من كل شيء.

                                                                                                                                                                                                                              وفي غير البخاري، حثالة كحثالة بالثاء المثلثة وهي أشهر كما قال الخطابي ، والجماعة على أنهما بمعنى ليس أحدهما مبدى على الآخر ولا أشهر منه، قيل: الحفاء والحثاء يتعاقبان، ومعنى (لا يعبأ الله بهم): لا يباليهم، أي: ليس لهم عنده منزلة، وهذا الحديث ساقه لأجل أن مرداسا من أصحاب الشجرة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 306 ] الحديث الثامن:

                                                                                                                                                                                                                              حدثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن مروان والمسور بن مخرمة قالا: خرج - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعر وأحرم منها. لا أحصي كم سمعته من سفيان حتى سمعته يقول: لا أحفظ من الزهري الإشعار والتقليد، فلا أدري يعني: موضع الإشعار والتقليد، أو الحديث كله.

                                                                                                                                                                                                                              ادعى الداودي أن سفيان بين بقوله: وأفهمني معمر بعضه. أنه إنما يعني موضعهما، زاد ابن التين أن الذي في الأصل عن سفيان، سمعت الزهري حين حدث هذا الحديث حفظت بعضه، وحدثني معمر، عن عروة، والذي في الأصل ما سقته لك بإسناده، وقد سلف الكلام على الإشعار والتقليد واضحا في الحج فراجعه، وفي إحرامه - صلى الله عليه وسلم- من ذي الحليفة; لأنه ميقاته.

                                                                                                                                                                                                                              وقول علي - رضي الله عنه -: تمام الحج أن تحرم من دويرة أهلك. تأول علي من كان منزله دون الميقات.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث كعب بن عجرة سلف في الحج .

                                                                                                                                                                                                                              الحديث التاسع:

                                                                                                                                                                                                                              حديث زيد بن أسلم، عن أبيه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى السوق، فلحقت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - امرأة شابة فقالت: يا أمير المؤمنين، هلك زوجي وترك صبية صغارا، والله ما ينضجون كراعا،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 307 ] ولا لهم زرع ولا ضرع، وخشيت أن تأكلهم الضبع، وأنا ابنة خفاف بن إيماء الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم-. فوقف معها عمر ولم يمض، ثم قال: مرحبا بنسب قريب. ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطا في الدار فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاما، وحمل بينهما نفقة وثيابا، ثم ناولها بخطامه، ثم قال: اقتاديه فلن يفنى حتى يأتيكم الله بخير.

                                                                                                                                                                                                                              فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أكثرت لها. قال عمر: ثكلتك أمك، والله إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصنا زمانا فافتتحاه، ثم أصبحنا نستفيء سهمانهما فيه.

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              قولها: (ما ينضجون كراعا) تريد: أنهم لو حاولوا طبخ كراع ما قدروا لصغرهم، وقال الخطابي: تريد أنهم لا يكفون أنفسهم خدمة ما يأكلونه ، والكراع من الدواب ما دون الكعب، ومن الإنسان ما دون الركبة، و (الضرع) الشاة وغيرها، تريد ليس لهم [ما] يحلبون.

                                                                                                                                                                                                                              و (الضبع) من أسماء السنة الشديدة المجدبة، قال الداودي: سميت بذلك; لأنه يكثر الموتى حتى لا يقبر أحدهم فتأكله الضبع وغيرها. وفيه نظر.

                                                                                                                                                                                                                              والزرع كل ما زرع من الحب بر أو شعير أو غيرهما من زراع البقول، ضرب بالزرع المثل، أي: ليس لهم نبات.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 308 ] وقوله: (مرحبا بنسب قريب) يريد: أتيت سعة ورحبا، ويحتمل أن يريد بالنسب القريب غفار أو يريد قربها من أبيها، وفيه إكبار عمر - رضي الله عنه - لأبناء السابقين الأولين.

                                                                                                                                                                                                                              والظهير: هو البعير القوي الظهر، الشديد على الراحلة.

                                                                                                                                                                                                                              قال الجوهري: بعير ظهير بين الظهارة إذا كان قويا، وناقة ظهيرة، والبعير الظهري: المعد للحاجة إن احتيج إليه .

                                                                                                                                                                                                                              والخطام: الحبل الذي يقاد به سمي بذلك; لأنه يقع على الخطم الذي هو الأنف.

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (ثم أصبحنا نستفيء سهمانهما فيه) أي: نسترجع وهي من الفيء، سمي فيئا; لأنه مال استرجعه المسلمون من يد الكفار، ومنه: يتفيأ ظلاله [النحل: 48]، أي: يرجع على كل شيء من جوانبه، ومنه: فإن فاءوا [البقرة: 226] أي: رجعوا، وضبط في رواية بالقاف ، أفاده ابن التين.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              خفاف بن إيماء: هو ابن رحضة بن خربة بن خلاف بن الحارث بن غفار أخي ثعلبة ابني مليل بن ضمرة أخي ليث، والمليل وعريج أولاد بكر بن عبد مناة بن كنانة، وقيل: خربة بن حراق بن حارثة بن غفار، (وإليه نسبت بني) غفار، كان إمام بني غفار وخطيبهم شهد الحديبية، ومات في خلافة عمر - رضي الله عنه - بالمدينة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 309 ] قال أبو عمر: ويقال: لخفاف وأبيه وجده صحبة وكانوا ينزلون غيقة من بلاد بني غفار ويأتون المدينة كثيرا . وقال ابن الكلبي: خفاف بن إيماء أحد المعذرين من الأعراب.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الواقدي: كان فيمن جاء من الأعراب من بني غفار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يريد تبوك يعتذرون إليه في التخلف عنه، فلم يعذرهم الله .

                                                                                                                                                                                                                              وقد روى مسلم لخفاف دون البخاري حديث "غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله" الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              وروى عنه ابنه الحارث وغيره، أخرجه مسلم في الصلاة والفضائل .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (إني لأرى أبا هذه) يعني: خفافا. وأخاها يعني: أحد ابنيه: الحارث أو مخلد ابني خفاف.

                                                                                                                                                                                                                              والحارث روى عن أبيه كما ذكرنا وعنه خالد المدلجي فقط، أخرج له مسلم كما ذكرناه، ومخلد بن خفاف روى عن عروة وعنه ابن أبي ذئب حديث "الخراج بالضمان" ، أخرج له الأربعة. أما مخلد الغفاري، فقال البخاري: له صحبة ، وقال أبو حاتم: لا . رآه عمرو بن

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 310 ] دينار،
                                                                                                                                                                                                                              وادعى بعض الشراح أنه كأنه يريد مخلدا لذكره عند جماعة في الصحابة ، والله أعلم. والظاهر وهمه.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث العاشر:

                                                                                                                                                                                                                              حديث سعيد بن المسيب، عن أبيه قال: لقد رأيت الشجرة، ثم أتيتها بعد فلم أعرفها. قال محمود: ثم أنسيتها بعد. وقد سلف.

                                                                                                                                                                                                                              وكذا الحديث الحادي عشر، حديث طارق بن عبد الرحمن قال: انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون، قلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة، حيث بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة الرضوان. فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته، فقال سعيد: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها، فلم نقدر عليها. فقال سعيد: إن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يعلموها وعلمتموها أنتم، فأنتم أعلم.

                                                                                                                                                                                                                              وعن طارق، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه: أنه كان ممن بايع (تحت) الشجرة، فرجعنا إليها العام المقبل فعميت علينا.

                                                                                                                                                                                                                              وعن طارق قال: ذكرت عند سعيد بن المسيب الشجرة، فضحك فقال: أخبرني أبي، وكان قد شهدها.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثاني عشر:

                                                                                                                                                                                                                              حديث عمرو بن مرة: سمعت عبد الله بن أبي أوفى -وكان من أصحاب الشجرة- قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه قوم بصدقة قال: "اللهم صل عليهم " .. الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 311 ] قد سلف في الزكاة وفيه جواز الصلاة على غير الأنبياء تبعا وكما في الآل، وعن مالك لا يصلى على غير الأنبياء، وفيه الشكر على فعل الفريضة والتغبيط بفعل الخير.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: أنه يقال آل فلان يريد فلانا وآله، والآل: أوسع من الأهل، وقيل: هما واحد، وذكر بعض النحويين أنه لا يقال آل فلان إلا لمعظم، ولا يقال لحقير.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثالث عشر:

                                                                                                                                                                                                                              حديث عباد بن تميم قال: لما كان يوم الحرة والناس يبايعون لعبد الله بن حنظلة، فقال ابن زيد: على ما يبايع ابن حنظلة الناس؟ قيل له: على الموت. قال: لا أبايع على ذلك أحدا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان شهد معهالحديبية.

                                                                                                                                                                                                                              ابن زيد هذا هو أبو عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري النجاري المازني صاحب الوضوء الذي قتل مسيلمة ، وقتل يوم الحرة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، له ولأبويه صحبة ولأخيه حبيب الذي قطعه مسيلمة.

                                                                                                                                                                                                                              وغلط ابن عيينة فقال: هو الذي أري الأذان، والمبايعة على الموت، كذا وقعت هنا، وقيل: المبايعة على ألا يفروا، ويحتمل كما قال الداودي على ألا يفروا حتى يموتوا، فسقط ذلك من بعض الرواة، ويحتمل أن يرويه بعضهم على التأويل، وأنه إذا لم يفر مات.

                                                                                                                                                                                                                              وقد سلف في الجهاد أيضا في باب: البيعة في الحرب أن لا يفروا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 312 ] الحديث الرابع عشر:

                                                                                                                                                                                                                              حديث إياس بن سلمة بن الأكوع قال: حدثني أبي -وكان من أصحاب الشجرة- قال: كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به. هذا الحديث أسلفته في بابه مع تأويله.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الخامس عشر:

                                                                                                                                                                                                                              حديث يزيد بن أبي عبيد قال: قلت لسلمة بن الأكوع: على أي شيء بايعتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية؟ قال: على الموت.

                                                                                                                                                                                                                              قد سلف الكلام عليه أيضا مع تأويل ما قد يعارضه.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث السادس عشر:

                                                                                                                                                                                                                              حديث العلاء بن المسيب، عن أبيه قال: لقيت البراء بن عازب فقلت: طوبى لك، صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبايعته تحت الشجرة. فقال: يا ابن أخي، إنك لا تدري ما أحدثنا بعده.

                                                                                                                                                                                                                              (طوبى لك) مثل هنيئا لك، قيل: إن طوبى شجرة في الجنة، أو الجنة، أو خير لهم، أو فعلى من الطيب، أي: طيب العيش لهم، أو طوبى للخير وأقصى الأمنية. وفيه فضل ظاهر للبراء، والتحرز مما قد يحدثه الشخص.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث السابع عشر:

                                                                                                                                                                                                                              حديث معاوية -هو ابن سلام- عن يحيى، عن أبي قلابة، أن ثابت بن الضحاك أخبره أنه بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة.

                                                                                                                                                                                                                              هو أيضا من الفضائل كونه بايع تحتها، و (يحيى) هو ابن أبي كثير. قال الجياني: كذا جاء في رواية الفربري. وكذلك قال فيه النسفي، عن يحيى، عن أبي قلابة وفي رواية ابن السكن، عن معاوية، عن زيد بن

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 313 ] سلام،
                                                                                                                                                                                                                              عن أبي قلابة جعل زيدا بدل يحيى، ولم يتابعه أحد على ذلك، على أن الدارقطني قد ذكر زيد بن سلام فيمن خرج له البخاري في "الصحيح" والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                              وقد أخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن معاوية، عن يحيى، عن أبي قلابة، رواه الجماعة عن البخاري وهو المحفوظ .

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثامن عشر:

                                                                                                                                                                                                                              قتادة، عن أنس - رضي الله عنه - إنا فتحنا لك فتحا مبينا [الفتح: 1] قال: الحديبية. قال أصحابه: هنيئا مريئا، فما لنا؟ فأنزل الله: ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات [الفتح: 5] قال شعبة: فقدمت الكوفة فحدثت بهذا كله عن قتادة، ثم رجعت فذكرت له، فقال: أما: إنا فتحنا لك فعن أنس، وأما: هنيئا مريئا، فعن عكرمة.

                                                                                                                                                                                                                              قيل: (هنيئا) لا إثم فيه، (مريئا) لا داء فيه، ويقال: هنأني الطعام ومرأني، فإذا لم تذكر هنأني قلت: أمرأني بالألف أي: انهضم، هذا قول أبي عبيد الهروي، وقال ابن فارس: يقال: مرأني الطعام وأمرأني . وذكره الهروي عن ابن الأعرابي، قال: ولا يقال مرني.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث التاسع عشر:

                                                                                                                                                                                                                              حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا أبو عامر، ثنا إسرائيل، عن مجزأة بن زاهر الأسلمي، عن أبيه -وكان ممن شهد الشجرة- قال: إني لأوقد تحت القدر بلحوم الحمر، إذ نادى منادي رسول- الله - صلى الله عليه وسلم -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهاكم عن لحوم الحمر.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 314 ] وعن مجزأة، عن رجل منهم من أصحاب الشجرة يقال له أهبان بن أوس، وكان اشتكى ركبته، وكان إذا سجد جعل تحت ركبته وسادة.

                                                                                                                                                                                                                              كذا هذا الحديث في الأصول كما سقته لك، وفي بعضها بإسقاط إسرائيل، وقال فيه: ثنا أبو عامر، ثنا مجزأة، عن أبيه، وقيل: إنه رواية سائر الرواة عن الفربري، وفي رواية ابن السكن بعد عبد الله، ثنا عثمان بن عمر، ثنا إسرائيل، ثنا مجزأة، جعل مكان أبي عامر عثمان.

                                                                                                                                                                                                                              وأبو عامر هو العقدي واسمه عبد الملك بن عمرو، وفي نسخة أبي زيد مجزأة بن زاهر، عن أنس، والصواب عن أبيه، وذكر أنس فيه ليس بشيء. والحديث محفوظ لزاهرة أبي مجزأة، وقد أسلفنا الخلاف في لحوم الحمر الأهلية، وضعفنا ما جاء في حلها.

                                                                                                                                                                                                                              قال الداودي: والنهي عنها إنما كان يوم خيبر بعد الحديبية وما هنا وهم، وليس في هذا الحديث بيان أن النهي كان يوم الحديبية، لكنه مذكور في غيره.

                                                                                                                                                                                                                              وما اتخذه أهبان مثل الوسادة لعلها كانت لينة; لأن يبس الأرض يضر بركبته. وقد قال ابن القاسم فيمن بجبهته جراحات أنه يومئ ولا يرفع شيئا إلى جبينه ليسجد عليه . وقال أشهب: إن رفع مقدار ما كان يومئ أجزأه ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              أهبان بن أوس هذا الأسلمي، وهو مكلم الذئب كما قال الواقدي، ورفع نسبه غيره فقال: هو أهبان بن عياذ بن ربيعة بن كعب بن أمية بن

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 315 ] يقظة بن خزيمة بن مالك بن سلامان بن أسلم بن أفضى الأسلمي،
                                                                                                                                                                                                                              نزل الكوفة وبنى بها دارا ومات بها في ولاية المغيرة لمعاوية.

                                                                                                                                                                                                                              أخرى: أهبان أيضا ابن صيفي الغفاري أبو مسلم، نزل البصرة وروى حديثا في الفتنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأوصى أن يكفن في ثوبين فكفن في ثلاثة ودفن فيه، فأصبح القميص الثالث موضوعا على المشجب. قال أبو عمر: خبر صحيح رواه جماعة من ثقات البصريين .

                                                                                                                                                                                                                              ثالثة: مكلم الذئب أيضا رافع بن أبي رافع الطائي، واسم أبي رافع عميرة، وقيل: عمير، وقيل: عمرو، كلمه الذئب في ضأن يرعاها فيما تزعم طيء فدعا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واللحاق به، وقالوا فيه شعرا، وله خبر في صحبة الصديق في غزوة ذات السلاسل، مات قبيل قتل عمر سنة ثلاث وعشرين، وقيل: إن رافعا قطع ما بين الكوفة ودمشق في خمس ليال، لمعرفته بالمفاوز.

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن وهب أن أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية أخذ ظبيا فاصطاداه وكلمهما، وروي مثله أنه جريح لا دحيم وأصحابه. وفي "معجم الطبراني" عن أنس قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك فمررت على غنم فجاء الذئب أخذ منها شاة، فاشتد الرعاء خلفه، فقال الذئب: طعمة أطعمنيها الله تنزعونها مني .. الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              الحديث العشرون:

                                                                                                                                                                                                                              حديث ابن أبي عدي، عن شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سويد بن النعمان -وكان من أصحاب الشجرة- كان رسول الله

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 316 ] - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أتوا بسويق فلاكوه.
                                                                                                                                                                                                                              تابعه معاذ (بن عدي) عن شعبة.

                                                                                                                                                                                                                              أي: كما رواه ابن أبي عدي عنه، وسلف القول في الهجرة.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الحادي بعد العشرين:

                                                                                                                                                                                                                              حديث شعبة، عن أبي جمرة قال: سألت عائذ وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من أصحاب الشجرة: هل ينقض الوتر؟ قال: إذا أوترت من أوله فلا توتر من آخره.

                                                                                                                                                                                                                              هو الصحيح عندنا وهو قول مالك أيضا، وكان ابن عمر يشفع وتره ثم يوتر من آخر صلاته وأبو جمرة بالجيم، وصحف من قاله بالحاء.

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو علي الجياني: وقع في نسخة أبي ذر عن أبي الهيثم بالحاء والزاي وهو وهم والصواب بجيم وراء . وعائذ هذا هو ابن عمرو بن هلال المزني كنيته أبو هبيرة، وعنه: ابنه حشرج وغيره، وكان شريفا جوادا صالحا صلى عليه أبو برزة.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثاني بعد العشرين:

                                                                                                                                                                                                                              حديث زيد بن أسلم، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسير في بعض أسفاره، وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا، فسأله عمر عن شيء فلم يجبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر: ثكلتك أمك يا عمر، نزرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك. قال عمر: فحركت بعيري ثم تقدمت أمام المسلمين، وخشيت أن ينزل في قرآن، فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي. إلى أن قال: وجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلمت عليه، فقال: "لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 317 ] أحب إلى مما طلعت عليه الشمس"، ثم قرأ: إنا فتحنا لك فتحا مبينا
                                                                                                                                                                                                                              [الفتح: 1].

                                                                                                                                                                                                                              معنى (نزرت): ألححت وضيقت عليه حتى أحرجته، بتشديد الزاي وتخفيفها وهو المعروف واقتصر بعض شيوخنا على التشديد، والنزر: القلة، ومنه البئر النزور: القليلة الماء، فقيل ذلك أن أكثر عليه السؤال حتى انقطع جوابه، وقال ابن الأعرابي: النزر: الإلحاح في السؤال، تقول: ألححت عليه في مسألتك إلحاحا أو أدبك بسكوته عنك وأجزأته عن جوابك. وعن الأصمعي: نزر فلان فلانا: إذا استخرج ما عنده قليلا قليلا .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن التين: وظاهر ضبط أهل اللغة أنه نزرت على زيد: أتيت ثلاثي، ومنه عطاء منزور: إذا استخرج بشدة سؤال وإلحاح، قال: وقيل: هو القليل، قال: وهو يدل على أنه مخفف; لأن منزورا لا يكون إلا من ثلاثي، قال الداودي: وقيل: إنه يقال نزرت ويزرت وبزرت بالنون والياء والباء.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              اختلف في الموضع الذي نزلت عليه فيه سورة الفتح، فعند أبي معشر بالجحفة وفي "الإكليل" عن مجمع بن جارية بكراع الغميم، وعند ابن سعد بضجنان وسيأتي الكلام على الحديث بأوضح من هذا في التفسير.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 318 ] الحديث الثالث بعد العشرين:

                                                                                                                                                                                                                              حديث سفيان: سمعت الزهري حين حدث هذا الحديث، حفظت بعضه، وثبتني فيه معمر، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان -يزيد أحدهما على صاحبه- قالا: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي، وأشعره، حتى كان بغدير الأشطاط أتاه عينه قال: إن قريشا جمعوا لك جموعا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك. فقال: "أشيروا أيها الناس علي، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله قد قطع عنقا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين؟ ". قال أبو بكر: يا رسول الله، خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه. قال: "امضوا على اسم الله".

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الرابع بعد العشرين:

                                                                                                                                                                                                                              حديث الزهري عن عروة أيضا، أنه سمع مروان بن الحكم، والمسور بن مخرمة يخبران خبرا من خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمرة الحديبية .. الحديث بطوله.

                                                                                                                                                                                                                              و (الحديبية) إحدى غزواته - صلى الله عليه وسلم - وإحدى عمراته كما سلف.

                                                                                                                                                                                                                              وهو دال على أن من أحرم يمشي تطوعا عمرة أو حجة ثم صد أنه يجزئه ولا قضاء عليه، وبه قال مالك والشافعي وخالف أبو حنيفة فيه ، وقد شرحنا الحديث بطوله في الصلح وأوائل الشروط، وقد أسلفنا هناك

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 319 ] اسم العين .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: جواز سفر الإنسان وحده إذا مست الحاجة إلى ذلك أو كان فيه صلاح المسلمين، ولا يكون داخلا في النهي عن السفر وحده.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              ينعطف على ما مضى: كان سبب بيعة الرضوان فيما ذكره ابن عقبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بكتاب الصلح مع عثمان بن عفان، ثم أراه الله وعثمان بمكة أن يبايع المؤمنين تحت الشجرة وعلى الموت، وأراد القتال، فلبث يوما أو ما شاء الله ولما لان بعضهم لبعض وأمن بعضهم بعضا، فهم ينتظرون نفاذ ذلك وإمضاءه، رمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الآخر وكان بينهم شجار وقتال تراموا بالحجارة والنبل فتصالحا وارتهن كل واحد من الفريقين من كان عنده من الآخرين، وارتهن المشركون عثمان ومن كان معه.

                                                                                                                                                                                                                              وكذا ذكره في "الإكليل" عن عروة، قال موسى: وارتهن المسلمون سهيل بن عمرو ومن كان معه، فعند ذلك دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى البيعة وأراد القتال، فبايعوا على الموت كما سلف عن سلمة بن الأكوع .

                                                                                                                                                                                                                              وكذا ذكره أبو معشر وأنكره جابر وقال: إنما بايعناه على أن لا نفر وقد سلف. وعمر آخذ بيده.

                                                                                                                                                                                                                              والشجرة سمرة فلما رأت ذلك قريش رعبهم الله فأرسلوا من كان بأيديهم ودعوا إلى الموادعة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 320 ] وروى البيهقي في "دلائله" أن قريشا كانوا بعثوا سبعين رجلا ، وعند الصباح اثني عشر رجلا، وفي "أسباب الواحدي" ثمانين، رواه أنس وفي رواية عبد الله بن المغفل ثلاثين . وفي "شرف المصطفى" أربعين فأخذوا أخذا.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "الدلائل" لأبي نعيم يخرج ثلاثون شابا عليهم السلاح فدعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم، فأتي بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعفا عنهم وخلى سبيلهم.

                                                                                                                                                                                                                              وعن عروة نادى منادي رسول الله: ألا إن روح القدس نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر بالبيعة، فاخرجوا على اسم الله. فبايعوا على أن لا يفروا أبدا، فرهبهم المشركون وأرسلوا من كانوا ارتهنوا من المسلمين .

                                                                                                                                                                                                                              وعند مقاتل في قوله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم [الفتح: 24] قال: كان أهل مكة خرجوا يقاتلون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية فهزمهم - صلى الله عليه وسلم - بالطعن والنبل حتى أدخلهم بيوت مكة ، وأصله في مسلم .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الفراء في "معانيه " نزلت في أسد وغطفان وكان مع أهل

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 321 ] خيبر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصالحوه وخلوا بينه وبين أهل خيبر . وهو خلاف ما عند البخاري. نزلت في بني النضير لما ضيق على أهل مكة. قال ابن هشام: وأول من بايع بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي ، قلت: لا، فقد قال الواقدي وابن حبان، وابن جرير وغيرهم: مات أبو سنان في حصار بني قريظة قبل الحديبية، قال الواقدي: وإنما هو سنان بن أبي سنان الأسدي ، وفي مسلم: أول من بايع يومئذ سلمة بن الأكوع ، وذكر أن أول من بايع ابن عمر ولم يصح كما نبه عليه أبو عمر ، وسيأتي أنه بايع قبل أبيه ولم يتخلف أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخا بني مسلمة فكان جابر يقول: لكأني أنظر إليه لاصقا ناقته قد صبا إليها ليستتر بها من الناس.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وقوله في الحديث (فإن يأتونا) إلى آخره : (كان الله قد قطع عنقا من المشركين).

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي: كذا لكافة الرواة من الإتيان ولابن السكن: باتونا بباء موحدة ومثناة فوق مشددة من البتات بمعنى: قاطعونا بإظهار المحاربة، والأول أظهر هنا .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 322 ] قوله: (عنقا) قال الخليل: جاء القوم عنقا عنقا أي: طوائف ، والأعناق الرؤساء وفي نسخة: (عينا).

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن دريد: الأحابيش حلفاء قريش، تحالفوا تحت جبل يسمى حبشي فسموا الأحابيش ، وقال الخليل: هم أحياء من القارة انضموا إلى بني ليث في الحرب التي وقعت بينهم وبين قريش قبل الإسلام، فلما سميت تلك الأحياء بالأحابيش من قبل سمعها، صار التحبيش في الكلام كالتجميع .

                                                                                                                                                                                                                              وقال يعقوب: الحباشة: الجماعة، يقال: تحبش بنو فلان على بني فلان، أي: تجمعوا، وقال الزبير: بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة وحلفاؤهم عضل وديش ابنا ينبع بن الهون بن خزيمة والجنا والمصطلق وهما بطنان من خزاعة، فسمت هذه البطون الأحابيش. وقال الداودي: الأحابيش: قبائل الحبش. وقال ابن فارس: هم جماعات تجتمع من قبائل شتى ، واحده أحبوش وهو الوجه.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (محروبين) أي: مسلوبين. والحرب بفتح الراء مصدر حرب ماله. أي: سلبه، وكأنهم سلبوا أموالهم وأهليهم.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (وامتعضوا) أصله انمعضوا أدغمت النون في الميم وهو في الأصل بالظاء وهو عند أهل اللغة بالضاد المعجمة، يقال: امعض الرجل

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 323 ] من الأمر إذا شق عليه، وكذلك معض مثله. وامتعض، وقد سلف في الشروط وغيره أوضح من هذا.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وكانت أم كلثوم بنت حفصة فيمن هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي عاتق، أي: أدركت فخدرت وهي بين البالغة والعانس، وقال الأصمعي: فوق المعصر، وقيل: التي لم تزوج، وقال الخليل: الشابة . وقيل: من أشرفت على البلوغ، وقد سلف واضحا في أبواب العيد ومختصرا في أول الشروط.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قول عائشة رضي الله عنها كان - صلى الله عليه وسلم - يمتحن من هاجر من المؤمنات بهذه الآية: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات [الممتحنة: 10]، قد سلف في الشروط .

                                                                                                                                                                                                                              وادعى ابن التين أن الآية: يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك [الممتحنة: 12] تجوز رد أبي جندل إلى أبيه; لأنه كان يأمن عليه القتل قاله الخطابي .

                                                                                                                                                                                                                              فصل: في فوائده:

                                                                                                                                                                                                                              في الحديث دلالة على أن للإمام أن يعقد الصلح على ما يراه صلاحا للمسلمين، وإن كان يظهر في بادئ الرأي أن فيه ما ظاهره انهضام الحق; لأنه - صلى الله عليه وسلم - محا اسمه وعاقدهم على رد من جاء منهم إلينا ومنا إليهم، ومذهب مالك -كما قال المازري: أن الإمام إذا

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 324 ] عاقد على الرد إن جاء مسلما ينفذ عقده في الرجال دون النساء.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه أيضا: مصالحة المشركين على غير مال يؤخذ منهم، وذلك جائز إذا كان بالمسلمين ضعف، واختلف هل يجوز صلحهم إلى أكثر من عشر سنين، فقال بعضهم: إذا رآه الإمام، وقالت طائفة: لا يجاوز ذلك لما في أبي داود أنهم اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين ، وفي غيره سنتين، ذكره ابن عقبة وغيره.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه أيضا: الصلح على رد المسلم إلى دار الكفر، وهو منسوخ عند أبي حنيفة بحديث سرية خالد حين وجهه - صلى الله عليه وسلم - إلى خثعم وفيهم ناس مسلمون واعتصموا بالسجود فقتلهم خالد فوداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصف الدية وقال: "أنا بريء من مسلم أقام بين مشركين" وقال فقهاء الحجاز: هو جائز ولكن للإمام الأعظم لا لمن دونه.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه أيضا: نسخ السنة بالقرآن على أحد القولين: فإن هذا العهد كان يقتضي ألا يأتيه مسلم إلا رده، فنسخ الله ذلك في النساء خاصة حيث قال: فلا ترجعوهن إلى الكفار [الممتحنة: 10] عملا بقوله: لا يأتيك منا أحد. وهو متضمن النساء أيضا، وإن وردت في رواية

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 325 ] أخرى للبخاري سلفت (رجل) مكان (أحد) ، والأحسن أن يقال: إنه تخصيص لا نسخ على أن بعض حذاق الأصوليين قد قال: في العموم إذا عمل بمقتضاه في عصره - صلى الله عليه وسلم - واعتقد فيه العموم ثم خص فهو نسخ، ولا بأس به.

                                                                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: إنما استجاز رد المسلمين إليهم في هذا الصلح; لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تدعوني قريش إلى خطة يعظمون فيها الحرم إلا أجبتهم" وفي رد المسلم إلى مكة عمارة للبيت وزيادة خير له في الصلاة فيه والطواف به، فكان هذا من تعظيم حرمات الله، فعلى هذا يكون الحكم خاصا بمكة والشارع، ويكون غير جائز لمن بعده، قاله العراقيون.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: رده في تلك الحال لا يتأتى بعدما ذكر; لأنه مقهور مأسور. وقد سلف أوضح من هذا في الشروط. وقال أبو زيد بن الحنفية: هو عند أهل العلم مخصوص بنساء أهل العهد والصلح.

                                                                                                                                                                                                                              وكان الامتحان أن يستحلف المرأة المهاجرة أنها ما خرجت ناشزا ولا هاجرت إلا لله ولرسوله، فإذا حلفت لم ترد، ورد صداقها إلى بعلها، وإن كانت من غير أهل العهد لم تستحلف ولم يرد صداقها.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              روي في رواية: "وإن بيننا وبينكم عيبة مكفوفة وأن لا إسلال ولا إغلال" يريد بالعيبة صدورا منطوية على ما فيها لا تبدي عداوة. وضرب العيبة مثلا، ومثله الحديث: "الأنصار كرشي

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 326 ] وعيبتي"
                                                                                                                                                                                                                              أي: موضع سري. والإغلال: الجناية. والإسلال: السرقة والخلسة ونحوها، وهي السلة. وفي المثل: الخلة تدعو إلى السلة.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الخامس بعد العشرين:

                                                                                                                                                                                                                              حديث نافع، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما خرج معتمرا في الفتنة، فقال: إن صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأهل بعمرة من أجل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أهل بعمرة عام الحديبية.

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق عنه: أنه أهل وقال: إن حيل بيني وبينه فعلت كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حالت كفار قريش بينه وبينه. وتلا: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [الأحزاب: 21].

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق عن نافع أن عبيد الله بن عبد الله وسالم بن عبد الله أخبراه أنهما كلما عبد الله بن عمر.

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق عن نافع، أن بعض بني عبد الله قال له: لو أقمت العام، فإني أخاف أن لا تصل إلى البيت. قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم-. ثم ذكر أنه اعتمر ثم أوجب حجة معها.

                                                                                                                                                                                                                              هذا سبق في الحج في باب: إذا أحصر المعتمر .

                                                                                                                                                                                                                              وإنما فعل عبد الله بن عمر ذلك أولا; لأنه غلب على ظنه أنهم لا يصدوه، ولو قلت: وأحرم على ذلك لم يحله إلا البيت كما قاله عبد الملك من المالكية، وابن عمر كان اعتزلهم، فلذلك كان الغالب أن لا يصدوه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 327 ] وتقصير أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- دال على الحسن في إيجابه الحلق في أول حجة حجها.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث السادس بعد العشرين:

                                                                                                                                                                                                                              حديث صخر -هو ابن جويرية- عن نافع قال: إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر، وليس كذلك، ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار يأتي به ليقاتل عليه، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم- يبايع عند الشجرة، وعمر لا يدري بذلك، فبايعه عبد الله، ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر، وعمر يستلئم للقتال، فأخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يبايع تحت الشجرة قال: فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهي التي يتحدث الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر.

                                                                                                                                                                                                                              وقال هشام بن عمار: ثنا الوليد بن مسلم، ثنا عمر بن محمد العمري، أخبرني نافع، عن ابن عمر أن الناس كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لي: يا عبد الله، انظر ما شأن الناس قد أحدقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فوجدهم يبايعون، فبايع ثم رجع إلى عمر، فخرج فبايع.

                                                                                                                                                                                                                              هذه المتابعة أخرجها البيهقي في "دلائله" من طريق نعيم: حدثني الوليد، فذكره. قال ابن التين لما ذكر الرواية الأولى: وهذه وهذا اختلاف. ولم يسند نافع إلى ابن عمر في شيء من الروايتين، وذكر أن ذلك إنما كان حين قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة مهاجرا فبايع، فمر به ابن عمر وهو يبايع فبايع، ثم رجع إلى أبيه فأخبره، فمضى وبايع، وأسلم عمر وعبد الله ابن خمس سنين.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (وعمر يستلئم للقتال) أي: يلبس اللأمة، وهي الدرع.

                                                                                                                                                                                                                              يقال: استلأم الرجل مهموز إذا لبس لأمته.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 328 ] ومعنى: (محدقون به): محيطون، يقال: حدق القوم بالرجل وأحدقوا.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث السابع بعد العشرين:

                                                                                                                                                                                                                              حديث عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنهما - قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حين اعتمر فطاف فطفنا معه، وصلى وصلينا معه، وسعى بين الصفا والمروة، فكنا نستره من أهل مكة; لا يصيبه أحد بشيء.

                                                                                                                                                                                                                              كان ذلك في عام القضية سنة سبع بعد الحديبية بسنة، كما قاله ابن التين.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث الثامن بعد العشرين:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي حصين -وهو عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي الكوفي- قال: قال أبو وائل- وهو شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي-: لما قدم سهل بن حنيف من صفين أتيناه نستخبره، فقال: اتهموا الرأي، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو استطعت أن أرد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره لرددت، والله ورسوله أعلم، وما وضعنا أسيافنا على عواتقنا لأمر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه قبل هذا الأمر، ما نسد منها خصما إلا انفجر علينا خصم لا ندري كيف نأتي له.

                                                                                                                                                                                                                              معنى (نستخبره) أي: نسأله ما فعل علي ومعاوية.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (اتهموا الرأي) كان أكثر الناس فرقتين، تأول كل فرقة أنها مصيبة تدعو إلى شيء يجب لها أن تقاتل عنه، وتخلف عن الدخول في ذلك سعد وسعيد وابن عمر وأسامة، ولم يتبين لهم أن إحدى الطائفتين باغية، فرجعوا عليها، وإلى ذلك أشار سهل فقال: اتهموا الرأي، فإنه ربما التبس. وذكر شأن المدينة، يريد: سلموا الأمر إلى الله; لأن عواقب الأمور قد تخرج إلى ما لا يبدو في أول الأمر.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 329 ] وقوله: (وما وضعنا أسيافنا على عواتقنا) يريد: البأس والقوة، والعاتقان من المرء ما بين المنكبين إلى العنق.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (لأمر يفظعنا) كذا هو بالظاء، وذكر ابن التين بالضاد، ثم قال: أي هو أمر مهول قال: وضبط في بعض الكتب بضم الياء، وفي بعضها بفتحها، جعله ثلاثيا، إلا أنه في سائر الروايات بالضاد.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن فارس: أفظع الأمر وفظع: اشتد، ذكره في باب الفاء مع الظاء .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (إلا أسهلن بنا) أي: استمر بنا إلى أمر نعرفه قبل هذا الأمر. قال الداودي: يعني: ما كان من قتال أهل الردة، أنهم كانوا على بصيرة حتى بين لهم أبو بكر - رضي الله عنه -، وقيل: معنى أسهل بنا: أفضى بنا إلى سهولة.

                                                                                                                                                                                                                              والخصم -بضم الخاء، وسكون الصاد-: جانب العدل الذي فيه العروة، وقيل: جانب كل شيء خصمه، ويجمع على أخصام. ومنه قيل للخصمين: خصمان; لأن كل واحد منهما يأخذ في ناحية من الدعوى غير ناحية صاحبه، وأصله خصم القربة، ولهذا استعاروه هنا مع ذكر الانفجار كما ينفجر الماء من نواحي القربة. وكان قول سهل هذه المقالة يوم صفين لما حكم الحكمان. وقيل: الخصم: الحبل الذي تشد به الأحمال. أي: ما نلفق منه حبلا إلا انقطع آخر. قال أبو نصر: يقال للمتاع إذا وقع في جانب الوعاء أو من خرج أو جوالق أو عيبة: قد وقع في خصم الوعاء وفي (زاوية الوعاء) وخصم كل

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 330 ] شيء: جانبه وناحيته . شبه ما فيه من انتهام الأمر عليهم بمن جعل متاعا في وعاء انفتق جانب منه فبينا هو يصلحه انفتق جانب آخر.

                                                                                                                                                                                                                              الحديث: التاسع والعشرون:

                                                                                                                                                                                                                              حديث كعب بن عجرة السالف في الباب: أتى علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفيه: "فاحلق وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة". قال أيوب: لا أدري بأي هذا بدأ.

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساقه عنه أيضا: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية ونحن محرمون، وقد حصرنا المشركون وكانت لي وفرة .. الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              ولو ساق الكل مثله هناك كان أولى.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (وقد حصرنا المشركون) يدل على أنه عنده، يقال: حصره العدو بخلاف المرض، فإنه يقال: أحصره وحكي عن بعض أهل اللغة، وبه قال مالك . وقال أشهب: حصره العدو. فائدة الخلاف إيجاب الهدي على المحصر فمالك يقول: لا شيء عليه . وأشهب وأبو حنيفة والشافعي يقولون عليه لقوله تعالى: فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي [البقرة: 196] والإحصار عندهم يقاتلون من العدو ومن المرض حصر .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (وكانت لي وفرة) فيه جواز اتخاذها، والوفرة: من الشعر إلى شحمة الأذن.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 331 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              كان خروجه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الغزوة لزيارة البيت، وساق معه الهدي سبعين بدنة كما سلف، وأحرم بالعمرة كما سلف، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة نفر. وقال ابن عقبة عن جابر: عن كل سبعة بدنة. وقد سلف قدر عددهم واضحا.

                                                                                                                                                                                                                              وحانت صلاة الظهر فصلى بأصحابه صلاة الخوف كما ذكر ابن سعد ، وأقام بها شهرا ونصفا على ما ذكر ابن عائذ. وقال ابن سعد: بضعة عشر يوما. ويقال: عشرين ليلة . قال: ولما حلقوا بالحديبية بعث الله ريحا عاصفا فاحتملت أشعارهم فألقتها في الحرم. قال: وفي هذه نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا صلوا في الرحال" .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية