الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب زكاة الفطر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر وعبد ذكر وأنثى من المسلمين وزاد الشيخان في رواية صغيرا وكبيرا ولهما في رواية قال ابن عمر فجعل الناس عدله مدين من حنطة .

                                                            وفي رواية للبخاري وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة وفي رواية له وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين وفي رواية للحاكم وصححها " صاعا من تمر أو صاعا من بر " .

                                                            ولأبي داود كان الناس يخرجون صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من شعير أو تمر أو سلت أو زبيب قال عبد الله فلما كان عمر وكانت الحنطة جعل عمر نصف صاع حنطة مكان صاع من تلك الأشياء ورواه الحاكم دون فعل عمر وصححه ، وله من حديث أبي هريرة وصححه أو صاعا من قمح وله من حديث علي وزيد بن ثابت صاع من بر وإسنادهما ضعيف ولأبي داود والنسائي من حديث ابن عباس صاعا من تمر أو شعير أو نصف صاع قمح ثم رواه النسائي موقوفا (صدقة الفطر صاع من طعام وقال هذا أثبت)

                                                            وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد " كنا نعطيها في زمان النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب فلما جاء معاوية وجاءت السمراء قال أرى مدا من هذا يعدل مدين وفي رواية لهما أو صاعا من أقط ولأبي داود أو صاعا من دقيق وقال هذه وهم من ابن عيينة .

                                                            قال حامد بن يحيى فأنكروا عليه فتركه سفيان ، وقال الترمذي زاد مالك من المسلمين وروى أيوب السختياني وعبيد الله بن عمرو وغير واحد من الأئمة هذا الحديث عن نافع عن ابن عمر ولم يذكروا فيه " من المسلمين " ، وقد روى بعضهم عن نافع مثل رواية مالك ممن لا يعتمد على حفظه (قلت) لم ينفرد بها مالك بل تابعه عليها عمرو بن نافع عند البخاري والضحاك بن عثمان عند مسلم ويونس بن زيد والمعلى بن إسماعيل وعبد الله بن عمر وكثير بن فرقد واختلف في زيادتهما على عبيد الله بن عمر وأيوب والله أعلم . .

                                                            التالي السابق


                                                            باب زكاة الفطر عن نافع عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر وعبد ذكر وأنثى من [ ص: 44 ] المسلمين (فيه) فوائد .

                                                            (الأولى) أخرجه الأئمة الستة من هذا الوجه من طريق مالك وليس في رواية البخاري من هذا الوجه قوله من رمضان على الناس وفي رواية الأئمة الستة حر أو عبد ذكر أو أنثى بأو بدل الواو ، إلا أن في رواية ابن ماجه حر وعبد ذكر أو أنثى بالواو في الأول وأو في الثاني

                                                            وفي رواية للنسائي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة رمضان على كل صغير وكبير حر وعبد ذكر وأنثى .

                                                            وأخرجه البخاري وأبو داود والنسائي من طريق عمر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر وفيه على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة .

                                                            وأخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجه من طريق الليث عن نافع أن عبد الله قال : أمر النبي صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير قال عبد الله فجعل الناس عدله مدين من حنطة .

                                                            وأخرجه الأئمة الستة خلا ابن ماجه من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى المصلى

                                                            زاد أبو داود وكان ابن عمر يؤديها قبل ذلك باليوم واليومين .

                                                            وأخرجوه أيضا خلا ابن ماجه من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر قال فرض النبي صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر أو قال رمضان على الذكر والأنثى والحر والمملوك صاعا من تمر وصاعا من شعير فعدل الناس به نصف صاع من بر ، فكان ابن عمر يعطي التمر فأعوز أهل المدينة التمر فأعطى شعيرا فكان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير حتى أنه كان يعطي عن بنيه وكان ابن عمر يعطيها الذين يقبلونها وكانوا [ ص: 45 ] يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين . لفظ البخاري

                                                            وفي رواية مسلم الجزم بقوله صدقة رمضان ، ولم يذكر قوله فكان ابن عمر يعطي التمر وما بعده واتفق عليه الشيخان أيضا وغيرهما من طريق عبيد الله بن عمر

                                                            عن نافع عن ابن عمر قال : فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعا من شعير أو صاعا من تمر على الصغير والكبير والحر والمملوك . قال أبو داود في سننه ورواه سعيد الجمحي عن عبيد الله عن نافع قال فيه (من المسلمين) والمشهور عن عبيد الله ليس فيه من المسلمين .

                                                            وروى الحاكم في مستدركه رواية سعيد الجمحي هذه ولفظها فرض زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من بر على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين .

                                                            وصححها وأخرجه مسلم من طريق الضحاك بن عثمان عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على كل نفس من المسلمين حر أو عبد رجل أو امرأة صغير أو كبير صاعا من تمر أو صاعا من شعير . وأخرج أيضا من هذا الوجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة وكلام الشيخ رحمه الله في النسخة الكبرى في الأحكام يوهم انفراد البخاري بهذه الجملة . وقد عرفت أنها عند مسلم من طريق موسى بن عقبة والضحاك بن عثمان وأخرجه أبو داود والنسائي والحاكم في مستدركه وصححه من رواية عبد العزيز بن أبي رواد

                                                            عن نافع عن ابن عمر قال : كان الناس يخرجون صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من شعير أو تمر أو سلت أو زبيب فلما كان عمر رضي الله عنه وكثرت الحنطة جعل عمر نصف صاع حنطة [ ص: 46 ] مكان صاع من تلك الأشياء . ولم يذكر النسائي والحاكم الموقوف على عمر

                                                            وأخرجه الحاكم في مستدركه من طريق كثير بن فرقد عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال زكاة الفطر فرض على كل مسلم حر وعبد ذكر وأنثى من المسلمين صاع من تمر أو صاع من شعير . وقال إنه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .

                                                            (الثانية) فيه وجوب زكاة الفطر وهو مجمع عليه إلا ممن شذ قال ابن المنذر أجمع عوام أهل العلم على ذلك وقال إسحاق يعني ابن راهويه هو كالإجماع من أهل العلم وقال الخطابي قال به عامة أهل العلم وقال ابن عبد البر معنى قوله فرض عند أهل العلم أوجب وما أوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأمر الله أوجبه وما كان لينطق عن الهوى ثم حكي عن بعض أهل العراق وبعض متأخري المالكية وبعض أصحاب داود أنها سنة مؤكدة وأن معنى قوله فرض قدر كقولهم فرض القاضي نفقة اليتيم قال وهو ضعيف مخالف للظاهر وادعاء على النص ما يخرجه عن المعهود فيه ؛ لأنهم لم يختلفوا في قوله فريضة من الله أن معناه إيجاب من الله ، وكذلك قولهم فرض الله طاعة رسوله وفرض الصلاة والزكاة ونحو هذا كل ذلك أوجب وألزم قال ومرض ابن أبي زيد فيها فقال هي سنة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نصنع شيئا ، قال وسائر العلماء على أنها واجبة ، وقال قبل ذلك : أجمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بها ثم اختلفوا في نسخها فقالت فرقة هي منسوخة بالزكاة ورووا عن قيس بن سعد بن عبادة أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بها قبل نزول الزكاة فلما نزلت آية الزكاة لم يأمرنا بها ولم ينهنا عنها ونحن نفعله وقال الجمهور : لم ينسخها شيء ، قلت الحديث المذكور رواه [ ص: 47 ] النسائي وابن ماجه

                                                            قال الخطابي وهو لا يدل على زوال وجوبها وذلك أن الزيادة في جنس العبادة لا توجب نسخ الأصل المزيد عليه غير أن محل سائر الزكوات الأموال ، ومحل زكاة الفطر الرقاب ا هـ .

                                                            وممن ذهب إلى أنها غير واجبة ابن اللبان من أصحابنا الشافعية وقال النووي إنه شاذ منكر بل غلط صريح وقال القاضي أبو بكر بن العربي عن مالك في وجوبها روايتان إحداهما محتملة والأخرى قال زكاة الفطر فرض ، وبذلك قال فقهاء الأمصار قال وتأول قوم قوله فرض بمعنى قدر وهو بمعنى الوجوب أظهر ؛ لأنه قال زكاة الفطر فدخلت تحت قوله وآتوا الزكاة فإن كان قوله " فرض " أوجب فبها ونعمت ، وإن كان بمعنى قدر فيكون المعنى قدر الزكاة المفروضة بالقرآن بالفطر كما قدر زكاة المال .

                                                            (الثالثة) فيه أن زكاة الفطر فرض وهو مقتضى قاعدة الجمهور في ترادف الفرض والواجب واقتصر الحنفية في كتبهم على القول بالوجوب وهو مقتضى قاعدتهم في أن الواجب ما ثبت بدليل ظني واختلف الحنابلة في ذلك قال ابن قدامة : قال بعض أصحابنا وهل تسمى فرضا مع القول بوجوبها على روايتين قال والصحيح أنها فرض لقول ابن عمر فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر ولاجتماع العلماء على أنها فرض ولأن الفرض إن كان الواجب فهي واجبة وإن كان الواجب المتأكد فهي متأكدة مجمع عليها ا هـ .



                                                            (الرابعة) استدل به على أن وقت وجوبها غروب الشمس ليلة العيد لكونه أضافها إلى الفطر وذلك هو وقت الفطر وإضافتها إلى الفطر ؛ لأنه وقت الوجوب وبهذا قال الشافعي في قوله الجديد وأحمد بن حنبل وهو إحدى الروايتين عن مالك وحكاه ابن المنذر عن إسحاق بن راهويه

                                                            [ ص: 48 ] وحكاه ابن قدامة عن سفيان الثوري وقال أبو حنيفة : وقت وجوبها طلوع الفجر يوم العيد وهو إحدى الروايتين عن مالك وبه قال من أصحابنا مطرف وابن القاسم وابن الماجشون قال القاضي أبو بكر بن العربي وهو الصحيح ا هـ وبه قال الشافعي في قوله القديم وحكاه ابن المنذر عن أصحاب الرأي وأبي ثور وحكاه ابن قدامة عن الليث بن سعد وزعم هؤلاء أن طلوع الفجر هو وقت الفطر فإنه الذي تجدد فيه الفطر أما الليل فلم يكن قط محلا للصوم لا في رمضان ولا في غيره قال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة : وكلا الاستدلالين ضعيف ؛ لأن إضافتها إلى الفطر من رمضان لا يستلزم أنه وقت الوجوب بل يقتضي إضافة هذه الزكاة إلى الفطر من رمضان فيقال حينئذ بالوجوب بظاهر لفظة فرض ويؤخذ وقت الوجوب من أمر آخر ا هـ .

                                                            قلت لا معنى لإضافتها للفطر إلا أنه وقت الوجوب وقال ابن العربي إضافتها للتعريف وقال قوم إلى سبب وجوبها وأنا أقول إلى وقت وجوبها ، وسبب وجوبها ما يجري في الصوم من اللغو ثم استدل على ذلك بما في سنن أبي داود عن ابن عباس قال : فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم أو الصيام من اللغو والرفث وطعمة للمساكين من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات وفي مذهب الشافعي قول ثالث أنها تجب بمجموع الوقتين قاله الصيدلاني خرجه صاحب التلخيص واستنكره الأصحاب وعبارة التلخيص تقتضي أنه منصوص ، وقال بعض المالكية : تجب بطلوع الشمس يوم العيد ، وقال آخرون منهم : تجب بغروب الشمس ليلة الفطر [ ص: 49 ] وجوبا موسعا ، آخره غروب الشمس من يوم الفطر وفي المسألة قول (ثالث) أنها تجب على من أدرك طلوع الفجر إلى أن يعلو النهار حكاه ابن المنذر عن بعض أهل العلم وقال ابن حزم الظاهري : وقتها إثر طلوع الفجر إلى أن تبيض الشمس وتحل الصلاة ، فإن كان صاحب القول المتقدم أراد بعلو النهار بياض الشمس اتحد مع قول ابن حزم ، وإن أراد شيئا غير ذلك فهي حينئذ سبعة أقوال ، وتظهر ثمرة الخلاف في صور كثيرة : (منها) لو مات بعد الغروب وقبل الفجر وجبت الزكاة على القول الأول دون الثاني ، ثم اعلم أن عبارة إمام الحرمين والغزالي والرافعي تقتضي على القول الأول أن الاعتبار بإدراك وقت الغروب خاصة لكن المشهور في مذهب الشافعي اعتبار إدراك آخر جزء من رمضان وأول جزء من شوال ، صرح به غير واحد ونص عليه الشافعي ، ويظهر أثر ذلك فيما لو قال لعبده أنت حر مع أول جزء من شوال فمقتضى الأول أن العبد المذكور يجب عليه إخراج الفطرة عن نفسه ولا يجب عليه على الثاني المرجح ، وقد يستدل له بإضافة الزكاة إلى الفطر من رمضان ، فإنه يقتضي اعتبار جزء من رمضان وجزء من زمن الفطر ، والله أعلم .



                                                            (الخامسة) فيه التخيير في زكاة الفطر بين التمر والشعير ، فيخرج من أيهما شاء صاعا ولا يجزئ إخراج غيرهما وبهذا قال ابن حزم الظاهري : فهو أسعد الناس بالعمل بهذه الرواية المشهورة لكن ورد في روايات أخر ذكر أجناس أخر ، فتقدم من المستدرك للحاكم صاعا من تمر أو صاعا من بر وصححه ومن سنن أبي داود والنسائي ومستدرك الحاكم كان الناس يخرجون صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من شعير أو تمر أو سلت أو زبيب .

                                                            وروى الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم حض على صدقة رمضان على كل إنسان صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من قمح وقال هذا حديث صحيح .

                                                            وعن أبي إسحاق عن الحارث عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في صدقة الفطر عن كل صغير وكبير حر أو عبد صاع من بر أو صاع من تمر ثم قال : هكذا أسنده عن علي ووقفه غيره ، وعن زيد بن ثابت قال : خطبنا رسول [ ص: 50 ] الله صلى الله عليه وسلم فقال : من كان عنده طعام فليتصدق بصاع من بر أو صاع من شعير ؛ أو صاع من تمر ، أو صاع من دقيق ، أو صاع من زبيب أو صاع من سلت ، وذكر الحاكم أن إسناده يخرج مثله في الشواهد ، وذكر والدي رحمه الله في النسخة الكبرى من الأحكام أن إسناد حديث علي وزيد بن ثابت ضعيف وروى أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال إن هذه الزكاة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل ذكر وأنثى حر ومملوك صاعا من شعير أو تمر أو نصف صاع من قمح .

                                                            ثم روى النسائي عن ابن عباس قال صدقة الفطر صاع من طعام وقال هذا أثبت .

                                                            وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه كنا نعطيها في زمان النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير ، أو صاعا من زبيب فلما جاء معاوية وجاءت السمراء قال : أرى مدا من هذا يعدل مدين وفي رواية لهما أو صاعا من أقط ولأبي داود أو صاعا من دقيق وقال هذه وهم من ابن عيينة قال حامد بن يحيى فأنكروا عليه فتركه سفيان واعتل ابن حزم في ترك الأخذ بحديث أبي سعيد بأنه مضطرب المتن وبأنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك وأقره وكلامه في ذلك ضعيف مردود ، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة فذهب الشافعية إلى أن جنس الفطرة كل ما يجب فيه العشر وعن الشافعي قول قديم أنه لا يجزئ فيها الحمص والعدس والمذهب المشهور الأول والصحيح عندهم إجزاء الأقط أيضا لصحة الحديث به ، فإن جوزناه فالأصح أن اللبن والجبن الذي ليس منزوع الزبد في معناه والخلاف في إخراج من قوته الأقط واللبن والجبن ، ولا يجزئ الدقيق ولا السويق ولا الخبز كما لا تجزئ القيمة ، وقال الأنماطي يجزئ الدقيق قال ابن عبدان يقتضي قوله إجزاء السويق والخبز وصححه ، وفي الواجب من الأجناس المجزئة ثلاثة أوجه لأصحابنا (أصحها) عند الجمهور غالب قوت البلد .

                                                            (والثاني) قوت نفسه وصححه ابن عبدان و (الثالث) يتخير بين الأجناس وهو الأصح عند القاضي أبي الطيب ثم إذا أوجبنا قوت نفسه أو البلد فعدل إلى ما هو دونه لم يجز وإن عدل إلى أعلى منه جاز وفيما يعتبر به الأعلى والأدنى وجهان أصحهما الاعتبار بزيادة صلاحية الاقتيات والثاني بالقيمة هذا تفصيل مذهبنا في ذلك على سبيل الاختصار [ ص: 51 ] وقال الحنابلة هو مخير بين الخمسة المنصوص عليها وهي التمر والشعير والبر والزبيب والأقط . قالوا والسلت نوع من الشعير فيجوز إخراجه لدخوله في المنصوص عليه ، وهو في بعض طرق حديث ابن عمر كما تقدم ونص أحمد على جواز إخراج الدقيق ، وكذلك السويق ولا يجزئ عندهم الخبز ، قالوا فيتخير بين هذه فيخرج ما شاء منها وإن لم يكن قوتا له ، إلا الأقط فإنما يخرجه من هو قوته أو لم يجد من المنصوص عليه سواه ، فإن وجد سواه ففي إجزائه عندهم روايتان منشؤهما ورود النص به ، وكونه غير زكوي ، قالوا وأفضلها التمر وبعده البر ، وقال بعضهم الزبيب قالوا ولا يجوز العدول عن هذه الأجناس مع القدرة على أحدها ، ولو كان المعدول إليه قوت بلده فإن عجز عنها أجزأه كل مقتات من كل حبة وثمرة ، قاله الخرقي قال ابن قدامة وظاهره أنه لا يجزئه المقتات من غيرها كاللحم واللبن ، وقال أبو بكر يعطى ما قام مقام الأجناس المنصوص عليها عند عدمها ، وقال ابن حامد يجزئه عند عدمها الإخراج مما يقتاته كالذرة والدخن ولحوم الحيتان والأنعام ، ولا يردون إلى أقرب قوت الأمصار .

                                                            وأما المالكية فإن المشهور عندهم أنه جنسية المقتات في زمنه عليه الصلاة والسلام من القمح والشعير والسلت والزبيب والتمر والأقط والذرة والأرز والدخن وزاد ابن حبيب العلس . وقال أشهب : من الست الأول خاصة فلو اقتيت غيره كالقطاني والتين والسويق واللحم واللبن ، فالمشهور الإجزاء وفي الدقيق قولان ويخرج من غالب قوت البلد ، فإن كان قوته دونه لا لشح فقولان . وقال الحنفية يتخير بين البر والدقيق والسويق والزبيب والتمر والشعير والدقيق أولى من البر والدراهم أولى من الدقيق فيما يروى عن أبي يوسف وهو اختيار الفقيه أبي جعفر ؛ لأنه أدفع للحاجة ، وعن أبي بكر الأعمش تفضيل القمح ؛ لأنه أبعد من الخلاف ؛ واعلم أن من قال بالتخيير فقد أخذ بظاهر الحديث وأما من قال بتعيين غالب قوت البلد أو قوت نفسه فإنه حمل الحديث على ذلك ولم يجعله على ظاهره من التخيير ، واقتصر في المشهور من روايات ابن عمر على التمر والشعير ؛ لأنهما غالب ما يقتات بالمدينة في ذلك الوقت . فإما أن يكون محمولا على إيجاب التمر على من يقتاته والشعير على من يقتاته ، وإما أن يكون مخيرا بينهما لاستوائهما في الغلبة فلا ترجح لأحدهما على الآخر ، فالمخرج [ ص: 52 ] مخير بينهما والله أعلم .



                                                            (السادسة) فيه أن الواجب إخراجه في زكاة الفطر صاع من أي جنس أخرج وبه قال مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء من السلف والخلف وحكاه ابن المنذر عن الحسن البصري وأبي العالية وجابر بن زيد ، وإسحاق بن راهويه قال ابن قدامة وروي عن أبي سعيد الخدري ا هـ ، وقال أبو حنيفة إنما يخرج صاعا إذا أخرج تمرا أو شعيرا ، فأما إذا أخرج قمحا أو دقيقه أو سويقه فالواجب نصف صاع وعنه في الزبيب روايتان (أشهرهما) عنه أنه مثل القمح فيخرج منه نصف صاع (والثانية) أنه كالشعير فيخرج منه صاعا وبه قال أبو يوسف ومحمد وحكاه ابن المنذر عن سفيان الثوري وأكثر أهل الكوفة غير أبي حنيفة قال وروينا عن جماعة من الصحابة والتابعين أنه يجزئ نصف صاع من البر ، روينا ذلك عن أبي بكر وعثمان وليس يثبت ذلك عنهما ، وعن علي وابن مسعود وجابر بن عبد الله وأبي هريرة وابن الزبير ومعاوية وأسماء وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء وطاوس ومجاهد وعمر بن عبد العزيز ، وروي ذلك عن سعيد بن جبير وعروة بن الزبير وأبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي قلابة وعبد الله بن شداد ومصعب بن سعد واختلف فيه عن علي وابن عباس والشعبي ، فروي عن كل منهم القولان جميعا ا هـ وهو قول في مذهب مالك أنه يجزئ من القمح نصف صاع واحتج هؤلاء بما في سنن أبي داود عن ثعلبة بن أبي صغير عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : صاع من قمح على كل اثنين . وعن ابن عباس فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصدقة صاعا من تمر أو شعير أو نصف صاع قمح .

                                                            وروى الترمذي عن عمر وابن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مناديا في فجاج مكة : ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ذكر أو أنثى حر أو عبد صغير أو كبير مدان من قمح أو سواه ، صاع من طعام قال الترمذي حسن غريب واحتج الأولون بأن في بعض طرق حديث ابن عمر صاعا من بر وهذه زيادة يجب الأخذ بها ، وقد تقدم ذكرها وروي أيضا من حديث علي وزيد بن ثابت ، وقد تقدم ذكرهما ، وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري كنا نعطيها في زمان النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب ، فلما جاء معاوية وجاءت السمراء ، قال [ ص: 53 ] أرى مدا من هذا يعدل مدين قال ابن عبد البر ولم يختلف من ذكر الطعام في هذا الحديث أنه أراد به الحنطة وتقدم من الصحيحين في حديث ابن عمر أمر النبي صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير فجعل الناس عدله مدين من حنطة ، وهذا صريح في أن إخراج نصف صاع من القمح لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما حدث بعده ، وأجابوا عن أحاديث نصف الصاع من القمح بأنها لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ابن المنذر قال ابن قدامة وحديث ثعلبة ينفرد به النعمان بن راشد .

                                                            قال البخاري : وهو يهم كثيرا ، وهو صدوق في الأصل ، وقال مهنا ذكرت لأحمد حديث ثعلبة بن أبي صغير في صدقة الفطر نصف صاع من بر فقال ليس بصحيح إنما هو مرسل يرويه معمر وابن جريج عن الزهري مرسلا (قلت) من قبل من هذا قال من قبل النعمان بن راشد ليس بقوي في الحديث وضعف حديث ابن أبي صغير وسألته عن ابن أبي صغير أمعروف هو ، قال من يعرف ابن أبي صغير ليس هو بمعروف ، وذكر أحمد وعلي بن المديني ابن أبي صغير فضعفاه جميعا وقال ابن عبد البر ليس دون الزهري من تقوم به حجة ، ورواه أبو إسحاق الجوزجاني قال حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن النعمان عن الزهري عن ثعلبة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أدوا صدقة الفطر صاعا من قمح أو قال بر عن كل إنسان صغير أو كبير ، وهذا حجة لنا وإسناده حسن .

                                                            قال الجوزجاني والنصف صاع ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم وروايته ليس يثبت ا هـ كلام ابن قدامة .



                                                            (السابعة) اختلف العلماء في مقدار الصاع فذهب مالك والشافعي وأحمد وعلماء الحجاز إلى أنه خمسة أرطال وثلث بالرطل البغدادي وذهب أبو حنيفة وصاحبه محمد إلى أنه ثمانية أرطال بالرطل المذكور ، وكان أبو يوسف يقول كقولهما ثم رجع إلى قول مالك والجمهور لما تناظر مع مالك بالمدينة فأراه الصيعان التي توارثها أهل المدينة عن أسلافهم إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإطلاق الصاع في الحديث يدل على أنه مكيال معروف عندهم وقال ابن الصباغ وغيره من أصحابنا : الأصل فيه الكيل وإنما قدره العلماء بالوزن استظهارا وقال النووي قد يستشكل ضبط الصاع بالأرطال فإن الصاع المخرج به في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مكيال معروف ويختلف [ ص: 54 ] قدره وزنا باختلاف جنس ما يخرج كالذرة والحمص وغيرهما والصواب ما قاله أبو الفرج الدارمي من أصحابنا أن الاعتماد في ذلك على الكيل دون الوزن وأن الواجب أن تخرج بصاع معاير بالصاع الذي كان يخرج به في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك الصاع موجود ومن لم يجده وجب عليه إخراج قدر يتيقن أنه لا ينقص عنه ، وعلى هذا فالتقدير بخمسة أرطال وثلث تقريب ، وقال جماعة من العلماء : الصاع أربع حفنات بكفي رجل معتدل الكفين ا هـ كلام النووي ، وذكر بعضهم أنه قدحان بكيل القاهرة وقال ابن الرفعة في تصنيف له سماه (الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان) أحضر إلي من يوثق به من الفقهاء الورعين مدا من خشب مخروط لم يتشقق ولم يسقط منه شيء وأخبرني أنه عايره على مد الشيخ محب الدين الطبري شيخ الحرم الشريف بمكة وأن الشيخ محب الدين المذكور ذكر أنه عايره على مد صح عنده بالسند أنه معاير على ما عوير على مد رسول الله صلى الله عليه وسلم فامتحنته بما قال بعض أصحابنا وغيرهم أنه يقع به المعيار وهو الماش والعدس فوجدت كيله بها يزيد على المائتين زيادة كثيرة فاستحضرت أن الغالب على الظن أن المعيار إنما وقع بالشعير ؛ لأنه الغالب من أقوات أهل المدينة في الصدر الأول كما دلت على ذلك الأخبار فاعتبرت بالشعير الصعيدي المغربل المنقى من الطين وإن كان فيه حبات من القمح يسيرة فصح الوزن المذكور بكيل المد المذكور ثم وزن فجاء زنته مائة وثلاثة وسبعين درهما وثلث درهم بالمصري ، ثم وزن من الشعير المقدار المذكور ووضع في المد المذكور فكان بقدره من غير زيادة عليه ومنه يظهر صحة أن الرطل البغدادي مائة وثلاثون درهما وبه يظهر أيضا صحة صنج الدراهم الموجودة حينئذ بمصر انتهى وقال ابن قدامة في المغني الأصل فيه الكيل وإنما قدره العلماء بالوزن ليحفظ وينقل ، وقد روى جماعة عن أحمد أنه قال الصاع وزنته فوجدته خمسة أرطال وثلثا حنطة وقال حنبل قال أحمد أخذت الصاع من ابن أبي النضر وقال أبو النضر أخذته من ابن أبي ذئب وقال هذا صاع النبي صلى الله عليه وسلم الذي يعرف بالمدينة قال أحمد فأخذنا العدس فعبرنا به وهو [ ص: 55 ] أصلح ما يكال به ؛ لأنه لا يتجافى عن مواضعه فكلنا به ثم وزناه فإذا هو خمسة أرطال وثلث وقال هذا أصلح ما وقفنا عليه وما يبين لنا من صاع النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا كان خمسة أرطال وثلثا من الحنطة والعدس وهما من أثقل الحبوب فما عداهما من أجناس الفطرة أخف منهما فإذا أخرج منها خمسة أرطال وثلثا فهي أكثر من صاع ، وقال محمد بن الحسن إن أخرج خمسة أرطال وثلثا برا لم يجزئه ؛ لأن البر يختلف فيكون ثخينا وخفيفا ، وقال الطحاوي : يخرج ثمانية أرطال مما يستوي كيله ووزنه وهو الزبيب والماش ، ومقتضى كلامه أنه إذا أخرج ثمانية أرطال مما هو أثقل منهما لم يجزئه حتى يزيد شيئا يعلم به أنه قد بلغ صاعا والأولى لمن أخرج من الثقيل بالوزن أن يحتاط فيزيد شيئا يعلم به أنه قد بلغ صاعا ا هـ كلام ابن قدامة .



                                                            (الثامنة) فيه وجوب زكاة الفطر على العبد وظاهره إخراج العبد عن نفسه وبه قال داود الظاهري : لا نعلم أحدا قال به سواه ولم يتابعه على ذلك ابن حزم ولا أحد من أصحابه ويبطله قوله عليه الصلاة والسلام ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة إلا صدقة الفطر في الرقيق والاستثناء في صحيح مسلم بلفظ ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر وذلك يقتضي أن زكاة الفطر ليست على العبد نفسه وإنما هي على سيده قال ابن المنذر : أجمع عوام أهل العلم على أن على المرء أداء زكاة الفطر عن مملوكه الحاضر غير المكاتب والعبد المغصوب والآبق والعبد المشترى للتجارة ، وقال ابن قدامة : لا نعلم فيه خلافا انتهى .

                                                            وقد اختلفوا في مسائل أشار ابن المنذر في عبارته التي حكيتها إلى بعضها فنذكرها ثم نذكر باقيها فأما الغائب فمذهب الشافعي وجوب فطرته وإن لم تعلم حياته بل انقطع خبره ولم يكن في طاعته بل كان آبقا ولم يكن في يده بل كان مغصوبا ولم يعرف موضعه بل كان ضالا ويجب إخراجها عن هؤلاء في الحال ، وفي هذه الصور خلاف ضعيف عندهم وكذلك مذهب أحمد إلا في منقطع الخبر فإنه لم يوجب فطرته لكنه قال لو علم بذلك حياته لزمه الإخراج لما مضى ولم يوجب أبو حنيفة زكاة الآبق والأسير والمغصوب المجحود ، وعنه رواية بوجوب زكاة الآبق ، وفصل مالك فأوجب في كل من [ ص: 56 ] المغصوب والآبق الزكاة إذا كانت غيبته قريبة وهو يرجى حياته ورجعته ، فإن بعدت غيبته وأيس منه سقطت الزكاة عن سيده وقال ابن المنذر أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم يرون أن تؤدى زكاة الفطر عن الرقيق غائبهم وحاضرهم وهو مذهب مالك والشافعي والكوفي ، وكان ابن عمر يخرج عن غلمانه الذين بوادي القرى وخيبر ، ثم حكى الخلاف في إخراجها عن الآبق فحكى عن الشافعي وأبي ثور وجوبها وإن لم يعلم مكانه ، وعن الزهري وأحمد وإسحاق وجوبها إذا علم مكانه ، وعن الأوزاعي وجوبها إذا كان في دار الإسلام ، وعن عطاء والثوري وأصحاب الرأي عدم وجوبها ، وعن مالك وجوبها إذا كانت غيبته قريبة ترجى رجعته ، فهذه خمسة أقوال قدمت ذكر أربعة منها والذي استفدناه من كلامه مذهب الأوزاعي .

                                                            وأما المكاتب ففيه ثلاثة أقوال في مذهب الشافعي (أصحها) عند أصحابه أنها لا تجب عليه ولا على سيده عنه ، وبه قال أبو حنيفة (والثاني) تجب على سيده وهو المشهور من مذهب مالك كما قاله ابن الحاجب وبه قال عطاء وأبو ثور وابن المنذر و (الثالث) تجب عليه في كسبه وكنفقته ، وبه قال أحمد بن حنبل ، وفي المسألة (قول رابع) أنه يعطى عنه إن كان في عياله وإلا فلا ، حكاه ابن المنذر عن إسحاق بن راهويه و (قول خامس) أن السيد يخرجها عنه إن لم يؤد شيئا من كتابته ، فإن أدى شيئا من كتابته وإن قل فهي عليه ؛ قاله ابن حزم الظاهري وأما العبد المشترى للتجارة فالجمهور على أنه يجب على السيد فطرته كغيره لعموم الحديث وبه قال مالك والشافعي وأحمد والليث بن سعد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وابن المنذر وأهل الظاهر ، وقال أبو حنيفة : لا تجب فطرته لوجوب زكاة التجارة فيه وحكي عن عطاء والنخعي والثوري .



                                                            (ومن مسائل العبد) التي اختلف فيها أيضا العبد المشترك بين اثنين ، وفطرته واجبة على سيده عند الجمهور وبه قال مالك والشافعي وأحمد في الجملة إلا أنهم اختلفوا في تفصيل ذلك فقال أصحابنا إن لم يكن بينهما مهايأة فالوجوب عليهما بقدر ملكيهما ، وإن كانت بينهما مهايأة فالأصح اختصاص الوجوب بمن وقع زمن الوجوب في نوبته ، وعن [ ص: 57 ] أحمد روايتان الظاهر عنه كما قال ابن قدامة كمذهبنا قال وهو قول سائر من أوجب فطرته على سادته ، والرواية الثانية عنه أنه يجب على كل واحد من المالكين صاع ، ولا فرق عند الحنابلة بين أن يكون بينهما مهايأة أم لا ، وفي مذهب مالك ثلاثة أقوال ، هذان .

                                                            (والثالث) أن على كل من السيدين نصف صاع ، وإن تفاوت ملكاهما ، والإيجاب عليهما بقسط ملكيهما هو رواية ابن القاسم كما ذكره ابن شاس ، وهو المشهور كما ذكره ابن الحاجب ، وقال أبو حنيفة لا فطرة فيه على واحد منهما وحكاه ابن المنذر عن الحسن البصري وعكرمة والثوري وأبي يوسف وحكي عن محمد بن الحسن موافقة الجمهور وليس في كتب الحنفية ذكر الخلاف عندهم في هذه الصورة إنما حكى صاحب الهداية منهم الخلاف في عبيد بين اثنين فقال أبو حنيفة لا زكاة عليهما فيهم أيضا ، وقال صاحباه أبو يوسف ومحمد على كل واحد ما يخصه من الرءوس دون الأشخاص ، وذكر أن مثار الخلاف أنه لا يرى قسمة الرقيق ، وهما يريانها ، وقال ابن حزم : ما نعلم لمن أسقط صدقة الفطر عنه وعن سيده حجة أصلا إلا أنهم قالوا ليس أحد من سيديه يملك عبدا ثم استدل ابن حزم على الوجوب في هذه الصورة بقوله عليه الصلاة والسلام : ليس على المسلم في عبده وفرسه صدقة إلا صدقة الفطر في الرقيق قال والعبد المشترك رقيق .

                                                            وأما المبعض ، فقال الشافعي : يخرج هو من الصاع بقدر حريته ، وسيده بقدر رقه وهو إحدى الروايتين عن أحمد وعنه رواية أخرى أن على كل منهما صاعا كما تقدم في المشترك قال أصحابنا : فإن كان بينهما مهايأة فالأصح اختصاصها بمن وقعت في نوبته ، ولم يفرق أحمد بين المهايأة وعدمها كما تقدم في المشترك والمشهور عند المالكية أن على المالك بقدر نصيبه ، ولا شيء على العبد وقيل يجب الجميع على المالك ، وقيل على المالك بقدر نصيبه ، وعليه في ذمته بقدر حريته ، فإن لم يكن له مال أخرج السيد الجميع ، وقيل لا يجب عليه ولا على سيده شيء ، حكاه ابن المنذر عن أبي حنيفة ، وقيل يجب الجميع على العبد حكاه ابن المنذر عن أبي يوسف ومحمد وقال " به داود وابن حزم فهذه سبعة أقوال في هذه المسألة .



                                                            (ومن المسائل أيضا) العبد المرهون وزكاته واجبة على مولاه عند مالك [ ص: 58 ] والشافعي والجمهور وهو ظاهر الحديث والمشهور عند الحنفية عدم الوجوب إلا إذا كان عند مولاه مقدار ما يوفي دينه وفضل مائتي درهم ، وعن أبي يوسف عدم الوجوب مطلقا .



                                                            (ومنها) العبد الموصى برقبته لشخص وبمنفعته لآخر فطرته على الموصى له بالرقبة عند الشافعي والأكثرين وحكاه ابن المنذر عن أصحاب الرأي وأبي ثور وفي مذهب مالك ثلاثة أقوال ، قال ابن القاسم في المدونة هي على الموصى له بالرقبة ، وقال في رواية ابن المواز عنه هي على الموصى له بالمنفعة وقيل إن قصر زمن الخدمة فهي على الموصى له بالرقبة ، وإن طال فهي على الموصى له .



                                                            (ومنها) عبد بيت المال والموقوف على مسجد لا فطرة فيهما على الصحيح عند أصحابنا وكذا الموقوف على رجل بعينه على الأصح عند النووي وغيره بناء على أن الملك في رقبته لله تعالى .



                                                            (ومنها) العبد العامل في ماشية أو حائط قال عبد الملك بن مروان ليس عليه زكاة الفطر حكاه عنه ابن المنذر ، وهو قول شاذ والجمهور على الوجوب كغيره ، وبه قال الأئمة الأربعة ، ولنقتصر على ما ذكرناه من مسائل هذا الفصل .



                                                            (التاسعة) فيه وجوب زكاة الفطر على الأنثى وظاهره إخراجها عن نفسها من غير فرق بين أن يكون لها زوج أم لا ، وبهذا قال أبو حنيفة وسفيان الثوري وابن المنذر وداود وابن حزم وابن أشرس من المالكية ، وذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والليث بن سعد إلى أن المتزوجة تجب فطرتها على زوجها وفي معناها الرجعية والبائن إن كانت حاملا دون ما إذا كانت حائلا ، فلو نشزت وقت الوجوب سقطت فطرتها عن الزوج ، وقال أبو الخطاب الحنبلي : لا تسقط ، فلو كان الزوج معسرا فالأصح في مذهبنا أنه إن كانت الزوجة أمة وجبت فطرتها على سيدها وإن كانت حرة لم يجب عليها شيء وهو الذي نص عليه الشافعي ، وفرقوا بينهما بكمال تسليم الحرة نفسها بخلاف الأمة ، وأوجب الحنابلة على الحرة فطرة نفسها في هذه الصورة ، وتمسك هؤلاء الذين أوجبوها على الزوج بالقياس على النفقة ؛ واستأنسوا بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونون رواه الدارقطني والبيهقي وقال إسناده غير قوي ورواه البيهقي أيضا من [ ص: 59 ] رواية جعفر بن محمد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وفي رواية عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا أيضا ؛ قال النووي في شرح المهذب : الحاصل أن هذه اللفظة ممن تمونون ليست بثابتة ا هـ ، وعبر ابن حزم هنا بعبارة بشعة فقال : وفي هذا المكان عجب عجيب ؛ وهو أن الشافعي رحمه الله لا يقول بالمرسل ثم أخذها هنا (بأنتن) مرسل في العالم من رواية ابن أبي يحيى ا هـ ، ولم ينفرد به ابن أبي يحيى فقد رواه غيره ، وقد روي من حديث ابن عمر أيضا كما تقدم ؛ ثم إن المعتمد القياس على النفقة مع ما انضم إلى ذلك من فعل ابن عمر راوي الحديث ففي الصحيحين عنه أنه كان يعطي عن الصغير والكبير . قال نافع حتى إن كان ليعطي عن بنيه . قال أصحابنا : فلو أخرجت المرأة فطرة نفسها مع يسار الزوج ، فإن كان بإذنه أجزأ بلا خلاف ، وإن كان بغير إذنه ففيه وجهان أصحهما الإجزاء أيضا بناء على أن الوجوب يلاقي المؤدى عنه ثم يتحمله المؤدي وهو الأصح عند الحنابلة أيضا .



                                                            (العاشرة) قد عرفت أن في الصحيحين وغيرهما زيادة وهي على الصغير والكبير وذلك يقتضي إخراج زكاة الفطر عن الصغير الذي لم يبلغ أيضا وهو كذلك لكن هل هي في ماله إن كان له مال أو على أبيه ؟ قال مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة وأبو يوسف والجمهور هي في ماله إن كان له مال ، فإن لم يكن له مال فعلى من عليه نفقته من أب وغيره ، وقال محمد بن الحسن هي على الأب مطلقا ، ولو كان للصغير مال لم يخرج منه ، وقال ابن حزم الظاهري : هي في مال الصغير إن كان له مال ، فإن لم يكن له شيء سقطت عنه ولا تجب على أبيه ، وقد حكى ابن المنذر الإجماع على خلافه ، وقال ابن العربي . لا خلاف بين الناس أن الابن الصغير إذا كان له مال أن زكاة الفطر تخرج عنه من ماله ا هـ . قال أصحابنا ولا يختص ذلك بالصغير بل متى وجبت نفقة الكبير بزمانة ونحوها وجبت فطرته ، فلو كان الابن الكبير في نفقة أبيه فوجد قوته ليلة العيد ويومه لم تجب فطرته على الأب لسقوط نفقته عنه في وقت الوجوب ، ولا على الابن لإعساره ، وكذا الابن الصغير ، إذا كان كذلك في الأصح ، وحكى أصحابنا عن سعيد بن المسيب والحسن البصري أنها لا تجب إلا على من صلى وصام وعن علي بن أبي طالب [ ص: 60 ] رضي الله عنه أنها لا تجب إلا على من أطاق الصوم والصلاة قال الماوردي وبمذهبنا قال سائر الصحابة والتابعين وجميع الفقهاء ا هـ .



                                                            (الحادية عشرة) استدل ابن حزم بالرواية التي فيها ذكر الصغير على وجوب زكاة الفطر على الجنين في بطن أمه فقال والجنين يقع عليه اسم صغير ، فإذا أكمل مائة وعشرين يوما في بطن أمه قبل انصداع الفجر من ليلة الفطر وجب أن تؤدى عنه صدقة الفطر ثم استدل بحديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكا ، وفيه ثم ينفخ فيه الروح ثم قال : هو قبل ما ذكرنا موات فلا حكم على ميت وأما إذا كان حيا فكل حكم وجب على الصغير فهو واجب عليه ثم ذكر من رواية بكر بن عبد الله المزني وقتادة أن عثمان رضي الله عنه كان يعطي صدقة الفطر عن الصغير والكبير حتى عن الحمل في بطن أمه ، وعن أبي قلابة قال كان يعجبهم أن يعطوا زكاة الفطر عن الصغير والكبير حتى عن الحمل في بطن أمه .

                                                            قال وأبو قلابة أدرك الصحابة وصحبهم وروى عنهم ، وعن سليمان بن يسار أنه سئل عن الحمل أيزكى عنه ؟ قال نعم . قال ولا يعرف لعثمان في هذا مخالف من الصحابة ا هـ . قال والدي رحمه الله في شرح الترمذي واستدلاله بما استدل به على وجوب زكاة الفطر على الجنين في بطن أمه في غاية العجب أما قوله على الصغير والكبير فلا يفهم عاقل منه إلا الموجودين في الدنيا ، أما المعدوم فلا نعلم أحدا أوجب عليه وأما حديث ابن مسعود فلا يطلع على ما في الرحم إلا الله كما قال ويعلم ما في الأرحام وربما يظن حملها وليس بحمل ، وقد قال إمام الحرمين لا خلاف في أن الحمل لا يعلم وإنما الخلاف في أنه يعامل معاملة المعلوم بمعنى أنه يؤخر له ميراث لاحتمال وجوده ولم يختلف العلماء في أن الحمل لا يملك شيئا في بطن أمه ولا يحكم على المعدوم حتى يظهر وجوده ، قال وأما استدلاله بما ذكر عن عثمان وغيره فلا حجة فيه ؛ لأن أثر عثمان منقطع فإن بكرا وقتادة روايتهما عن عثمان مرسلة والعجب أنه لا يحتج بالموقوفات ، ولو كانت صحيحة متصلة وأما أثر أبي قلابة فمن الذين كان يعجبهم ذلك وهو لو سمى جمعا من الصحابة لما كان ذلك حجة وأما سليمان بن يسار فلم يثبت عنه فإنه من رواية رجل لم يسم عنه فلم يثبت فيه خلاف [ ص: 61 ] لأحد من أهل العلم بل قول أبي قلابة : " كان يعجبهم " ظاهر في عدم وجوبه ، ومن تبرع بصدقة عن حمل رجاء حفظه وسلامته فليس عليه فيه بأس ، وقد نقل الاتفاق على عدم الوجوب قبل مخالفة ابن حزم فقال ابن المنذر ذكر كل من يحفظ عنه العلم من علماء الأمصار أنه لا يجب على الرجل إخراج زكاة الفطر عن الجنين في بطن أمه وممن حفظ ذلك عنه عطاء بن أبي رباح ومالك وأبو ثور وأصحاب الرأي وكان أحمد بن حنبل يستحب ذلك ولا يوجبه ولا يصح عن عثمان خلاف ما قلناه ا هـ . وعن أحمد بن حنبل رواية أخرى بوجوب إخراجها عن الجنين وقال ابن عبد البر في التمهيد فيمن ولد له مولود بعد يوم الفطر لم يختلف قول مالك أنه لا يلزم فيه شيء قال ، وهذا إجماع منه ومن سائر العلماء ثم أشار إلى أن ما ذكر عن مالك وغيره من الإخراج عمن ولد في بقية يوم الفطر محمول على الاستحباب وكذا ما حكاه عن الليث فيمن ولد له مولود بعد صلاة الفطر أن على أبيه زكاة الفطر عنه قال وأحب ذلك للنصراني يسلم ذلك الوقت ولا أراه واجبا عليه قال والدي فقد صرح الليث فيه بعدم الوجوب ، ولو قيل بوجوبه لم يكن بعيدا ؛ لأنه يمتد وقت إخراجها إلى آخر يوم الفطر قياسا على الصلاة يدرك وقت أدائها ، ثم قال والدي رحمه الله ومع كون ابن حزم قد خالف الإجماع في وجوبها على الجنين فقد تناقض كلامه فقال إن الصغير لا يجب على أبيه زكاة الفطر عنه إلا أن يكون له مال فيخرج عنه من ماله ، فإن لم يكن له مال لم يجب عليه حينئذ ولا بعد ذلك فكيف لا يوجب زكاته على أبيه والولد حي موجود ويوجبها وهو معدوم لم يوجد ؟ فإن قلت يحمل كلامه على ما إذا كان للحمل مال قلت كيف يمكن أن يكون له مال وهو لا يصح تمليكه ، ولو مات من يرثه الحمل لم نملكه وهو جنين فلا يوصف بالملك إلا بعد أن يولد وكذلك النفقة الصحيح أنها تجب للأم الحامل لا للحمل ، ولو كانت للحمل لسقطت بمضي الزمان كنفقة القريب وهي لا تسقط ا هـ كلام والدي رحمه الله قال أصحابنا فلو خرج بعض الجنين قبل الغروب ليلة الفطر وبعضه بعده لم تجب فطرته ؛ لأنه في حكم الجنين ما لم يكمل خروجه منفصلا والله أعلم .



                                                            (الثانية عشرة) هذه الزيادة وهي قوله من المسلمين ذكر غير واحد أن مالكا تفرد بها من بين الثقات فقال الترمذي في العلل التي في آخر الجامع ورب [ ص: 62 ] حديث إنما يستغرب لزيادة تكون في الحديث وإنما يصح إذا كانت الزيادة ممن يعتمد على حفظه مثل ما روى مالك عن نافع عن ابن عمر فذكر هذا الحديث قال وزاد مالك في هذا الحديث من المسلمين قال وقد روى أيوب السختياني وعبيد الله بن عمر وغير واحد من الأئمة هذا الحديث .

                                                            عن نافع عن ابن عمر ولم يذكروا فيه من المسلمين ، وقد روى بعضهم عن نافع مثل رواية مالك ممن لا يعتمد على حفظه وتبعه على ذلك ابن الصلاح في علوم الحديث قال والدي رحمه الله في شرح الترمذي ولم ينفرد مالك بقوله من المسلمين بل قد رواها جماعة ممن يعتمد على حفظهم واختلف على بعضهم في زيادتها وهم عشرة أو أكثر ، منهم عمر بن نافع والضحاك بن عثمان وكثير بن فرقد والمعلى بن إسماعيل ويونس بن يزيد وابن أبي ليلى وعبد الله بن عمر العمري وأخوه عبيد الله بن عمر وأيوب السختياني على اختلاف عنهما في زيادتها ، فأما رواية عمر بن نافع عن أبيه فأخرجها البخاري في صحيحه وأما رواية الضحاك بن عثمان فأخرجها مسلم في صحيحه ، وأما رواية كثير بن فرقد فرواها الدارقطني في سننه والحاكم في المستدرك وقال إنه صحيح على شرطهما .

                                                            وأما رواية المعلى بن إسماعيل فرواها ابن حبان في صحيحه والدارقطني في سننه ، وأما رواية يونس بن يزيد فرواها الطحاوي في بيان المشكل وأما رواية ابن أبي ليلى وعبد الله بن عمر العمري وأخيه عبيد الله بن عمر التي أتى فيها بزيادة قوله من المسلمين فرواها الدارقطني في سننه وأما رواية أيوب السختياني فذكرها الدارقطني في سننه وأنها رويت عن ابن شوذب عن أيوب عن نافع انتهى كلام والدي رحمه الله ، وهذه الزيادة تدل على اشتراط الإسلام في وجوب زكاة الفطر ومقتضاه أنه لا يجب على الكافر إخراج زكاة الفطر لا عن نفسه ولا عن غيره فأما كونه لا يخرجها عن نفسه فمتفق عليه وأما كونه لا يخرجها عن غيره من عبد ومستولدة وقريب مسلمين فأمر مختلف فيه وفي ذلك لأصحابنا وجهان مبنيان على أنها وجبت على المؤدي ابتداء أم على المؤدى عنه ثم يتحمل المؤدي والأصح الوجوب بناء على الأصح وهو وجوبها على المؤدى عنه ثم يتحملها المؤدي وهو المحكي عن أحمد بن حنبل واختاره القاضي من الحنابلة وقال ابن عقيل منهم يحتمل أن لا يجب وهو قول أكثرهم وبه قال الحنفية ، ونقل ابن المنذر الاتفاق [ ص: 63 ] على ذلك فقال : وكل من يحفظ عنه من أهل العلم يقولون لا صدقة على الذمي في عبده المسلم واغتر به صاحب الهداية من الحنفية في نقل هذا الاتفاق لما ذكر هذه المسألة فلا وجوب بالاتفاق انتهى . وفيه نظر فقد عرفت أن الخلاف في ذلك موجود مشهور أما عكسه وهو إخراج المسلم عن قريبه وعبده الكافرين فلا يجب عند الشافعي ومالك وأحمد وقال أبو حنيفة بالوجوب وحكاه ابن المنذر عن عطاء وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وسعيد بن جبير والنخعي والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي ، وحكي قبل ذلك الأول عن علي وجابر بن عبد الله وسعيد بن المسيب والحسن البصري وغيرهم قال وهو أصح لقوله من المسلمين واعترض ابن حزم على الاستدلال لهذا بقوله من المسلمين بأنه ليس فيه إسقاطها عن المسلم في الكفار من رقيقه ولا إيجابها قال فلو لم يكن إلا هذا الخبر لما وجبت علينا زكاة الفطر إلا على المسلمين من رقيقنا فقط ولكن وجدنا حديث أبي هريرة مرفوعا ليس على المسلم في فرسه وعبده صدقة إلا صدقة الفطر في الرقيق قال فأوجب عليه السلام صدقة الفطر عن الرقيق عموما فهي واجبة على السيد عن رقيقه لا على الرقيق (قلت) يخص عموم حديث أبي هريرة بقوله في حديث غيره من المسلمين ، وقد تبين بذكر الصغير أنه عليه الصلاة والسلام أراد المؤدى عنه لا المؤدي .



                                                            (الثالثة عشرة) في قوله وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة أن الأفضل إخراجها قبل الخروج إلى الصلاة ، وقد صرح بذلك الفقهاء من المذاهب الأربعة وزاد الحنابلة على ذلك فجعلوا تأخيرها عن الصلاة مكروها وذلك أعلى درجات الاستحباب هذا هو المشهور عندهم وقال القاضي منهم ليس ذلك بمكروه وزاد ابن حزم الظاهري على ذلك فقال بالوجوب وأنه لا يجوز تأخيرها عن الصلاة وعبارته ووقت زكاة الفطر إثر طلوع الفجر الثاني ممتد إلى أن تبيض الشمس وتحل الصلاة من ذلك اليوم ثم استدل بهذا الحديث ولا حجة فيه ؛ لأن صيغة أمر محتملة للاستحباب كاحتمالها للإيجاب وليست ظاهرة في أحدهما بخلاف صيغة افعل فإنها ظاهرة في الوجوب فلما ورد هذا الحديث بصيغة الأمر اقتصرنا على الاستحباب ؛ لأنه الأمر المتيقن والزيادة [ ص: 64 ] على ذلك مشكوك فيها ثم قال جمهور الفقهاء لا يجوز تأخير إخراجها عن يوم الفطر وبه قال الشافعية والحنفية والمالكية وهو المشهور عند الحنابلة وحكى ابن المنذر عن ابن سيرين والنخعي أنهما كانا يرخصان في تأخيرها عن يوم الفطر قال وقال أحمد أرجو أن لا يكون بذلك بأس ، وذكر ابن قدامة أن محمد بن يحيى الكحال قال قلت لأبي عبد الله : فإن أخرج الزكاة ولم يعطها قال نعم إذا أعدها لقوم . قال ابن قدامة واتباع السنة أولى ا هـ .

                                                            ومما استدل به على أنه لا يجوز تأخير إخراجها عن يوم العيد ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم ، وقد رواه البيهقي في سننه من حديث ابن عمر بإسناد ضعيف وأشار إلى تضعيفه .



                                                            (الرابعة عشرة) في قوله في رواية للبخاري وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين حجة لجواز تقديم إخراجها قبل ليلة الفطر ، وقد منع ابن حزم الظاهري ذلك فقال لا يجوز تقديمها قبل وقتها أصلا ، وهذا الحديث يرد عليه وكذلك حديث أبي هريرة لما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمبيت على صدقة الفطر فأتاه الشيطان ليلة وثانية وثالثة. وهو في الصحيح

                                                            وأجاب عنه ابن حزم بأن تلك الليالي ليست من رمضان وهو مردود فإنه لا يجوز تأخيرها عن أول شوال إلا عند من شذ كما تقدم ، وأجاب ابن حزم عن ذلك بأن تأخيرها في شوال لكون أهلها لم يوجدوا ، وهذا باطل فإن أهل الزكاة في ذلك العصر بتلك البلاد كثيرون فقد كان الغالب عليهم ضيق العيش والاحتياج .

                                                            وهذا الكلام الذي ذكره ابن حزم هنا ضعيف جدا والمشهور من مذاهب العلماء جواز تقديمها قبل الفطر لكن اختلفوا في مقدار التقديم فاقتصر أكثر الحنابلة على المذكور في حديث ابن عمر وقالوا لا يجوز تقديمها بأكثر من يومين وعند المالكية في تقديمها بيوم إلى ثلاثة قولان وقال بعض الحنابلة يجوز تعجيلها من بعد نصف الشهر كما يجوز تعجيل أذان الفجر والدفع من مزدلفة بعد نصف الليل .

                                                            وقال الشافعية يجوز من أول شهر رمضان واشتهر عن الحنفية جواز تعجيلها من أول الحول وعندهم في ذلك خلاف فحكى الطحاوي عن أصحابهم جواز تعجيلها من غير تفصيل ، وذكر أبو الحسن الكرخي جوازها يوما أو يومين .

                                                            وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال يجوز تعجيلها سنة [ ص: 65 ] وسنتين وروى هشام عن الحسن بن زياد أنه لا يجوز تعجيلها وعند الشافعية وجهان آخران :

                                                            (أحدهما) أنه يجوز إخراجها بعد طلوع الفجر الأول من رمضان وبعده إلى آخر الشهر ولا يجوز في الليلة الأولى ؛ لأنه لم يشرع بعد في الصوم .

                                                            (والثاني) أنه يجوز في جميع السنة حكاهما النووي في شرح المهذب وتمسك أكثرهم في جواز إخراجها في جميع الشهر بأنها حق مالي وجب بسببين وهما رمضان والفطر منه فيجوز تقديمها على أحدهما وهو الفطر ولا يجوز عليهما معا كما في زكاة المال يجوز تقديمها بعد ملك النصاب وقبل الحول وإذا ثبت كما ذكره ابن عمر جواز تعجيلها لم يبقى لذلك ضابط شرعي إلا ما ذكرناه .

                                                            (فإن قلت) لا حجة فيما ذكره ابن عمر ؛ لأنه موقوف (قلت) بل هو مرفوع حكما لما تقرر في علمي الحديث والأصول أن قول الصحابي كنا نفعل كذا وكذا حكمه الرفيع وإن لم يقيد ذلك بعصر النبي صلى الله عليه وسلم على المرجح المختار والله أعلم .



                                                            (الخامسة عشرة) لم يقيد في الحديث افتراض زكاة الفطر باليسار لكن لا بد من القدرة على ذلك لما علم من القواعد العامة ، وقد قال ابن المنذر أجمعوا على أن لا شيء على من لا شيء له انتهى .

                                                            واختلف العلماء في ضابط ذلك فذكر الشافعية والحنابلة أن ضابط ذلك أن يملك فاضلا عن قوته وقوت من تلزمه نفقته ليلة العيد ويومه مما يؤدى في زكاة الفطر وحكاه العبدري عن أبي هريرة وعطاء والشعبي وابن سيرين وأبي العالية والزهري ومالك وابن المبارك وأحمد وأبي ثور انتهى وغاير ابن المنذر في ذلك بين مذهب مالك والشافعي فقال كان أبو هريرة يراه على الغني والفقير وبه قال أبو العالية والشعبي وعطاء وابن سيرين ومالك وأبو ثور وقال ابن المبارك والشافعي وأحمد إذا فضل عن قوت المرء وقوت من يجب عليه أن يقوته مقدار زكاة الفطر فعليه أن يؤدي انتهى .

                                                            وما حكاه ابن المنذر أقرب إلى مذهب مالك فإن ابن شاس قال في الجواهر لا زكاة على معسر وهو الذي لا يفضل له عن قوت يومه صاع ولا وجد من يسلفه إياه انتهى .

                                                            فقوله ولا وجد من يسلفه إياه لا يوافق عليه الشافعي وأحمد ثم قال ابن شاس وقيل هو الذي يجحف به في معاشه إخراجها وقيل من يحل له أحدها ثم قيل فيمن يحل له [ ص: 66 ] أخذها إنه الذي يحل له أخذ الزكاة وقيل الفقير الذي لم يأخذ منها في يومه ذلك انتهى وقال أبو حنيفة لا تجب إلا على من ملك نصابا من الذهب أو الفضة أو ما قيمته قيمة نصاب فاضلا عن مسكنه وأثاثه الذي لا بد منه .

                                                            قال العبدري ولا يحفظ هذا عن أحد غير أبي حنيفة ، وحكى ابن حزم عن سفيان الثوري أنه قال : من كان له خمسون درهما فهو غني وإلا فهو فقير قال وقال غيره أربعون درهما انتهى .

                                                            وفي مسند أحمد عن أبي هريرة في زكاة الفطر على كل حر وعبد ذكر وأنثى صغير أو كبير فقير أو غني صاع من تمر أو نصف صاع من قمح قال معمر وبلغني أن الزهري كان يرويه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وروى الدارقطني عن عبد الله بن ثعلبة بن أبي صغير عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أدوا صاعا من قمح أو قال بر عن الصغير والكبير والذكر والأنثى والحر والمملوك والغني والفقير أما غنيكم فيزكيه الله وأما فقيركم فيرد عليه أكثر مما أعطي .

                                                            ومال ابن العربي المالكي إلى مقالة أبي حنيفة في ذلك فقال : والمسألة له قوية فإن الفقير لا زكاة عليه ولا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذها منه وإنما أمر بإعطائها له وحديث ثعلبة لا يعارض الأحاديث الصحاح ولا الأصول القوية ، وقد قال لا صدقة إلا عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول وإذا لم يكن هذا غنيا فلا تلزمه الصدقة انتهى وهو ضعيف وليس التمسك في ذلك بحديث ثعلبة وإنما التمسك بالعموم الذي في قوله فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان على الناس .

                                                            وقد ذكر ذلك هو في أول كلامه إلا أنا اعتبرنا القدرة على الصاع لما علم من القواعد العامة فأخرجنا عن ذلك العاجز عنه والله أعلم .



                                                            (السادسة عشرة) لم يتعرض في هذا الحديث للتصريح بمصرف زكاة الفطر لكن استدل بتسميتها زكاة على أن مصرفها مصرف الزكوات وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد والجمهور وقال بعض المالكية إنما يجوز دفعها إلى الفقير الذي لم يأخذ منها وعن أبي حنيفة أنه يجوز دفعها إلى ذمي ، وعن عمرو بن ميمون وعمرو بن شرحبيل ومرة الهمداني أنهم كانوا يعطون منها الرهبان . اختلف الأولون في أنه هل يجب استيعاب الأصناف الثمانية عند الإمكان وأن يعطي من كل صنف ثلاثة كما في زكاة الأموال أم لا ؟ فقال بالأول الشافعي وداود [ ص: 67 ] وابن حزم قال أصحابنا فإن شقت القسمة جمع جماعة فطرتهم ثم قسموها ، وذهب مالك وأحمد وأبو حنيفة إلى أنه يجوز أن يعطي فطرته لواحد بل يجوز إعطاء فطرة جماعة لواحد وقال ابن المنذر أرجو أن يجزئ . كذا اختار الشيخ أبو إسحاق الشيرازي من أصحابنا جواز الصرف إلى واحد وقال الإصطخري يجوز صرفها إلى ثلاثة من المساكين أو الفقراء قال أكثر أصحابنا وكذلك يجوز عنده الصرف إلى ثلاثة من أي صنف كان وصرح المحاملي والمتولي بأنه لا يجوز عنده الصرف إلى غير المساكين والفقراء .

                                                            (السابعة عشرة) ظاهره أنه لا فرق في وجوب زكاة الفطر بين أهل الحاضرة والبادية وهو مذهب الأئمة الأربعة والجمهور وذهب عطاء بن أبي رباح والزهري وربيعة إلى عدم وجوبها على أهل البادية .




                                                            الخدمات العلمية