الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلبن قد شيب بماء ، وعن يمينه أعرابي، وعن يساره أبو بكر فشرب ثم أعطى الأعرابي وقال الأيمن فالأيمن وزاد مسلم في رواية قال أنس فهي سنة فهي سنة فهي سنة .

                                                            [ ص: 23 ]

                                                            التالي السابق


                                                            [ ص: 23 ] (الحديث السادس)

                                                            وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلبن قد شيب بماء، وعن يمينه أعرابي، وعن يساره أبو بكر فشرب ثم أعطى الأعرابي وقال الأيمن فالأيمن .

                                                            (فيه) فوائد:

                                                            (الأول) أخرجه الأئمة الستة خلا النسائي من هذا الوجه من طريق مالك والبخاري أيضا من رواية يونس بن يزيد ، ومسلم من رواية ابن عيينة كلهم عن الزهري عن أنس وفي رواية مسلم من طريق ابن عيينة " فقال له عمر : وأبو بكر عن شماله يا رسول الله أعط أبا بكر فأعطاه أعرابيا عن يمينه " وأخرجه الشيخان أيضا من رواية أبي طوالة واسمه عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر عن أنس وفيه " وأبو بكر عن يساره ، وعمر تجاهه وأعرابي عن يمينه فلما فرغ قال عمر هذا أبو بكر " زاد مسلم يريه إياه ثم اتفقا فأعطى الأعرابي وقال الأيمنون الأيمنون الأيمنون قال أنس فهي سنة فهي سنة في سنة ولفظ البخاري بدل قوله (الأيمنون) الثالثة، ألا فيمنوا، وفي عزو الشيخ رحمه الله في النسخة الكبرى من الأحكام هذا اللفظ وهو قول أنس فهي سنة ثلاثا لمسلم فقط نظر فهو عند البخاري أيضا في الهبة من صحيحه والله أعلم.

                                                            (الثانية) فيه جواز شوب اللبن أي خلطه بالماء إذا كان القصد استعماله لنفسه أو لأهل بيته أو لأضيافه وإنما يمتنع شوبه بالماء فيما إذا أراد بيعه ؛ لأنه غش قال النووي قال العلماء والحكمة في شوبه أن يبرد أو يكثر أو للمجموع.

                                                            (قلت): وقد يكون له سبب آخر، وهو إزالة حمضه أو تخفيفه.

                                                            (الثالثة) لم أقف على تسمية هذا الأعرابي وفي مسند أحمد ، ومعجم الطبراني واللفظ له عن عبد الله بن أبي حبيبة أنه قيل له ما تذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال جاءنا في مسجدنا بقباء فجئت وأنا غلام حدث حتى جلست عن يمينه وجلس أبو بكر عن يساره [ ص: 24 ] قال ثم دعا بشراب فشربه وناولني عن يمينه ولا يصح أن يكون هو المبهم في حديث أنس وغيره ؛ لكونه أنصاريا من بني عبد الأشهل فلا يقال له أعرابي ؛ لأن الأعراب سكان البوادي فهي قصة أخرى، وكان أبو بكر رضي الله عنه فيها عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم .



                                                            (الرابعة) فيه أن من سبق إلى مجلس العالم أو الكبير وجلس في مكان عال لا ينحى عنه لمجيء من هو أعلى منه فيجلس ذلك الجائي حيث انتهى به المجلس ولو كان دون مجلس من هو دونه .



                                                            (الخامسة) فيه أن السنة البداءة في الشرب ونحوه بمن هو على يمين الكبير وإن كان مفضولا بالنسبة لمن هو على يساره، وهذا متفق عليه لكنه استحباب عند الجمهور وذهب ابن حزم الظاهري إلى وجوبه فقال لا يجوز مناولة غير الأيمن إلا بإذن الأيمن قال: ومن لم يرد أن يناول أحدا فله ذلك.

                                                            (السادسة) قوله الأيمن فالأيمن روي بالرفع والنصب فالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره الأحق الأيمن أو نحو ذلك ويدل له قوله في الرواية الأخرى الأيمنون الأيمنون ووجه النصب وهو أشهر إضمار فعل تقديره أعط الأيمن ونحو ذلك .



                                                            (السابعة) بين النبي صلى الله عليه وسلم بقوله الأيمن فالأيمن أن هذا سنة الشرب العامة في كل موطن وأن تقديم الذي على يمينه ليس لمعنى فيه بل لمعنى في تلك الجهة وهو فضلها على جهة اليسار وفي ذلك تطييب لخاطر من هو على اليسار بإعلامه أن ذلك ليس ترجيحا لمن هو على اليمين بل هو ترجيح لجهته والله أعلم .



                                                            (الثامنة) الحديث في الشرب ولا يختص الحكم به بل الأكل ونحوه كذلك يبدأ فيه بالأيمن إذا لم يجتمعوا عليه في حالة واحدة وحكي عن مالك تخصيص ذلك بالشراب قال ابن عبد البر وغيره ولا يصح هذا عن مالك ، وحكى ابن بطال عن بعضهم أنه قال لا أعلم أحدا قاله غيره وقال القاضي عياض يشبه أن يكون قول مالك إن السنة وردت في الشرب خاصة وإنما يقدم الأيمن فالأيمن في غيره بالقياس لا بسنة منصوصة فيه ؛ قال النووي ، وكيف كان فالعلماء متفقون على استحباب التيامن في الشراب وأشباهه.

                                                            (التاسعة) إن قلت هل قدم النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأعرابي أبا بكر أو عمر ؟ (قلت) لم أقف في شيء من طرقه على التصريح [ ص: 25 ] بذلك والظاهر تقديم عمر ؛ لأنه كان جالسا تجاه النبي صلى الله عليه وسلم فكان على يمين الأعرابي، وكان أبو بكر على يمينه ففعل ذلك عملا بقوله الأيمن فالأيمن إلا أن يكون عمر آثر أبا بكر بنصيبه من التقديم رضي الله عنهما .



                                                            (العاشرة) (إن قلت): كيف الجمع بين هذا وبين ما رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده من حديث ابن عباس بإسناد صحيح قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سقى قال ابدءوا بالكبراء أو قال بالأكابر (قلت) هذا محمول على ما إذا لم يكن على يمينه أحد بل كان القوم جالسين متفرقين إما بين يديه أو وراءه، وقد صرح بذلك ابن حزم فقال وإن كان بحضرته جماعة فإن كانوا كلهم أمامه أو خلف ظهره أو على يساره فليناول الأكبر فالأكبر ولا بد: لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حويصة ، ومحيصة كبر الكبر قال فهذا عموم لا يجوز أن يخرج منه إلا ما استثناه نص صريح كالذي ذكرنا من مناولة الشراب قال والدي رحمه الله في شرح الترمذي : والاستدلال بحديث ابن عباس المتقدم أولى من الاستدلال بعموم قصة حويصة ، ومحيصة لكونه واردا في السقي وذاك في أن الأكبر يتولى البداءة في الكلام انتهى.

                                                            وقال النووي : وأما تقديم الأفاضل والكبار فهو عند التساوي في باقي الأوصاف ولهذا يقدم الأعلم والأقرأ على الأسن النسيب في الإمامة في الصلاة .

                                                            (الحادية عشرة) (إن قلت كيف تقدم عمر بالكلام وقال للنبي صلى الله عليه وسلم أعط أبا بكر ؟ ) (قلت) لم يفعل ذلك على سبيل الإلزام والجزم وإنما قاله تذكيرا للنبي صلى الله عليه وسلم لجواز اشتغاله عنه، وعدم رؤيته له ولهذا جاء في رواية لمسلم يريه إياه أو قصد بذلك إعلام الأعرابي الذي على اليمين بجلالة أبي بكر رضي الله عنه.

                                                            (الثانية عشرة) (إن قلت): قد تقرر أن الأيمن أحق وله أن يؤثر بأحقيته فلم لم يستأذنه النبي صلى الله عليه وسلم كما فعل في قضية ابن عباس حيث كان على يمينه، وكان على يساره أشياخ منهم خالد بن الوليد فاستأذن ابن عباس وقال أتأذن لي أن أعطي هؤلاء فامتنع من الإيثار فهلا استأذن الأعرابي كما استأذن ابن عباس ؟ (قلت) الجواب عنه من أوجه:

                                                            (أحدها) قال النووي قيل إنما استأذن الغلام دون الأعرابي إدلالا على الغلام، وهو ابن عباس وثقة بطيب نفسه بأصل الاستئذان لا سيما [ ص: 26 ] والأشياخ أقاربه قال القاضي عياض وفي بعض الروايات " عمك وابن عمك أتأذن لي أن أعطيه " .

                                                            (ثانيها) أن يكون فعل ذلك تطييبا لخاطر الأشياخ فإن منهم خالد بن الوليد ، وكان حديث العهد بالإسلام مع رياسته في قومه وشرف نسبه فأراد تأليفه بذلك بخلاف أبي بكر الصديق فإنه مطمئن الخاطر راض بكل ما يفعله النبي صلى الله عليه وسلم لا يتغير لشيء من ذلك، وقد أشار إلى بعض هذا النووي فقال بعد ما تقدم وفعل ذلك أيضا تألفا لقلوب الأشياخ وإعلاما بودهم وإيثار كرامتهم إذا لم يمنع منها سنة.

                                                            (ثالثها) أن الأعرابي قد يكون في خلقه جفاء ونفرة كما يغلب ذلك على الأعراب فخشي النبي صلى الله عليه وسلم من استئذانه أن يتوهم إرادة صرفه إلى أصحابه وربما سبق إلى قلبه شيء هلك به لقرب عهده بالجاهلية، وعدم تمكنه في معرفة أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد تظاهرت النصوص على تألفه عليه الصلاة والسلام قلب من يخاف عليه ولعله كان من كبراء قومه ولهذا جلس على يمين النبي صلى الله عليه وسلم .




                                                            الخدمات العلمية