الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن بريدة أن أمة سوداء أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع من بعض مغازيه فقالت إني كنت نذرت إن ردك الله صالحا أن أضرب عندك بالدف قال إن كنت فعلت فافعلي وإن كنت لم تفعلي فلا تفعلي، فضربت فدخل أبو بكر وهي تضرب ودخل غيره وهي تضرب ودخل عمر فجعلت دفها خلفها وهي مقنعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الشيطان ليفرق منك يا عمر ، أنا جالس ههنا ودخل هؤلاء فلما أن دخلت فعلت ما فعلت رواه الترمذي وقال أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى فقال لها إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا وزاد فيه " ثم دخل علي وهي تضرب ثم دخل عثمان وهي تضرب " وقال حديث حسن صحيح غريب .

                                                            التالي السابق


                                                            (الحديث الرابع)

                                                            وعن بريدة أن أمة سوداء أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع من بعض مغازيه فقالت إني كنت نذرت إن ردك الله صالحا أن أضرب عندك بالدف، قال إن كنت فعلت فافعلي، وإن كنت لم تفعلي فلا تفعلي ؛ فضربت فدخل أبو بكر وهي تضرب، ودخل غيره وهي تضرب ودخل عمر قال فجعلت دفها خلفها وهي مقنعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الشيطان ليفرق منك يا عمر أنا جالس ههنا ودخل هؤلاء فلما أن دخلت فعلت ما فعلت رواه الترمذي وقال حسن صحيح غريب.

                                                            (فيه) فوائد:

                                                            (الأولى) رواه الترمذي في المناقب من جامعه عن الحسين بن حريث عن علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا، فجعلت تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم دخل علي وهي تضرب ثم [ ص: 55 ] دخل عثمان وهي تضرب ثم دخل عمر فألقت الدف تحت استها ثم قعدت عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الشيطان ليخاف منك يا عمر إني كنت جالسا وهي تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم دخل علي وهي تضرب ثم دخل عثمان وهي تضرب فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث بريدة وفي الباب عن عمر ، وعائشة .

                                                            (الثانية) قوله (إن أمة سوداء) يحتمل أنها باقية على الرق ويحتمل أنه سماها أمة باعتبار ما مضى وقوله ورجع من بعض مغازيه، جملة حالية، وقد فيه مقدرة تقديره، وقد رجع، (والدف) بضم الدال المهملة وتشديد الفاء معروف وحكى أبو عبيد عن بعضهم أن الفتح فيه لغة ذكره في الصحاح وقال في النهاية هو بالضم والفتح.

                                                            وقوله: (إن كنت فعلت) أي النذر.

                                                            وقوله (فافعلي) أي فاضربي، وقد أوضح ذلك في رواية الترمذي .

                                                            وقوله (فجعلت دفها خلفها) لا ينافي قوله في رواية الترمذي (تحتها) فيكون تحتها من جهة ظهرها.

                                                            وقوله: وهي (مقنعة) بتشديد النون وفتحها أي مستترة بقناعها.

                                                            وقوله (ليفرق منك) بفتح الراء أي يخاف.

                                                            (الثالثة) قسم أصحابنا الفقهاء النذور إلى معصية وطاعة، ومباح فمنعوا نذر المعصية ثم قسموا الطاعة إلى (واجب) فأبطلوا نذره و " مندوب مقصود " وهو ما شرع للتقرب به، وعلم من الشارع الاهتمام بتكليف الخلق بإيقاعه كالصوم والصلاة ونحوهما فجزموا بصحة نذره (ومندوب) لم يشرع [ ص: 56 ] لكونه عبادة، وإنما هو أعمال وأخلاق مستحسنة رغب الشرع فيها لعظم فائدتها، وقد يبتغي بها وجه الله - تعالى - فينال الثواب فيها كعيادة المرضى وزيارة القادمين وإفشاء السلام واختلفوا في لزوم ذلك بالنذر على وجهين والأصح اللزوم. وأما المباح الذي لم يرد فيه ترغيب كالأكل والنوم والقيام والقعود فلو نذر فعلها أو تركها لم ينعقد نذره. قال الأئمة: وقد يقصد بالأكل التقوي على العبادة وبالنوم النشاط عند التهجد فينال الثواب لكن الفعل غير مقصود والثواب يحصل بالقصد الجميل والضرب بالدف هو من الأمور المباحة فإنه إن كان في عرس أو ختان فهو مجزوم عند أصحابنا بإباحته، وإن كان في غيرهما فأطلق صاحب المهذب والبغوي وغيرهما تحريمه.

                                                            وقال الإمام الغزالي : حلال ورجحه الرافعي في المحرر والشرح الصغير والنووي في المنهاج، وقد يقترن بالضرب بالدف قصد جميل كجبر يتيمة في عرسها وإظهار السرور بسلامة من يعود نفعه على المسلمين، ومن ذلك ضرب هذه المرأة بالدف فهو مباح بلا شك ولما قصدت به إظهار السرور بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم سالما حصل لها الثواب بالقصد الجميل، وقد جزم أصحابنا في مثل ذلك بأنه لا يصح نذره فلا بد لهم من تخريج جواب عن هذا الحديث، وقد بوب عليه البيهقي في سننه (باب ما يوفى به من نذر ما يكون مباحا وإن لم يكن طاعة ) ثم قال بعد ذكر الحديث يشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أذن لها في الضرب ؛ لأنه أمر مباح وفيه إظهار للفرح بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجوعه سالما لا أنه يجب بالنذر فتبويبه يدل على أن المفعول وفاء للنذر وأن بعض المباحات يصح نذره ويوفى به. وكلامه على الحديث يدل على أنه باق على إباحته ولم يفعل وفاء بالنذر ويدل على أنه وفاء بالنذر قوله عليه الصلاة والسلام إن كنت نذرت فاضربي .

                                                            ويمكن أن يقال في تأويل الحديث شيء آخر وهو أنه أريد بالنذر هنا اليمين، ومعنى قولها نذرت: حلفت. وقوله عليه الصلاة والسلام إن كنت نذرت أي حلفت وإذنه في الضرب إذن في البر وفعل المحلوف عليه، وصح استعمال النذر في اليمين لما بينهما من الاشتراك وهو إلزام الشخص نفسه بما لا يلزمه وذلك يكون تارة بالنذر وتارة باليمين، وقد ورد في الأثر استعمال [ ص: 57 ] النذر في الأرش في قول سعيد بن المسيب إن عمر وعثمان قضيا في الملطاة بنصف نذر الموضحة فإذا سمى الأرش نذرا فتسمية اليمين بذلك أولى ؛ لأنها أقرب إلى مدلوله من الأرش والله أعلم .



                                                            (الرابعة) استدل به على أن صوت المرأة ليس بعورة إذ لو كان عورة ما سمعه النبي صلى الله عليه وسلم وأقر أصحابه على سماعه، وهذا هو الأصح عند أصحابنا الشافعية لكن قالوا: يحرم الإصغاء إليه عند خوف الفتنة ولا شك أن الفتنة في حقه عليه الصلاة والسلام مأمونة ولو خشي أصحابه رضي الله عنهم فتنة ما سمعوا ؛ هذا إن كان حصل منها صوت بدليل قوله في رواية الترمذي (وأتغنى) وليست هذه اللفظة في مسند أحمد ولا في رواية واحد منهما أنها تغنت بصوتها وحينئذ فليس في الحديث دليل على ما ذكرناه.

                                                            (الخامسة) إن قلت إذا كان هذا مباحا، وقد فعل بحضور النبي صلى الله عليه وسلم وإذنه فكيف ينسب إلى الشيطان ويوفي بما يدل على أن فعله كان بتسويله فلما حضر عمر رضي الله عنه هرب الشيطان لخوفه منه فانقطع ذلك التسويل، وما ترتب عليه من الضرب بالدف (قلت) يحتمل وجهين:

                                                            (أحدهما) أن الأصل في الضرب بالدف والغناء أنه من باب اللهو وأنه يجر إلى ما لا يرضى فعله كما يقال الغناء بريد الزنا إلا أن تقترن به نية صالحة تصرفه عن ذلك كما في هذه الحالة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عالما بهذه القرينة فلما حضر عمر رضي الله عنه، وكان من شأنه المبادرة إلى إنكار مثل هذا، والصورة أنه غير عالم بهذه القرينة فخشيت من مبادرته أن يوقع بها محذورا فقطعت ما هي عليه فأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بأن الشيطان يخاف منه وإن لم يكن للشيطان نصيب فيما كانت فيه هذه المرأة لكن الشيء بالشيء يذكر فشبه النبي صلى الله عليه وسلم حالتها في انكفافها عما كانت فيه بحالة الشيطان الذي يخاف من عمر ويهرب عند حضوره.

                                                            (الثاني) أن الشيطان لم يكن عنده هذه الدقيقة وهي أن مثل هذا اللهو يصير حسنا بالقصد الجميل أو لم يعرف حصول هذا القصد فلما حضر عمر هرب هو لظنه أن هذا اللهو وإن كان الأمر بخلافه، وكم يفوت العارفين من الدقائق فضلا عن الشياطين، والله أعلم.

                                                            (السادسة) ذكر ابن طاهر في المبهمات أن هذه المرأة اسمها سديسة مولاة حفصة وذكر ابن عبد البر [ ص: 58 ] في الاستيعاب ( سديسة الأنصارية ) وذكر أنها روت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى الشيطان عمر إلا خر لوجهه وقال روى عنها سالم تعد في أهل المدينة وقال أبو بكر بن فتحون في نقده على الاستيعاب ضبطه بفتح السين ورأيته بخط ابن مفرج بضم السين على التصغير ثم ذكر ابن فتحون أنه اختلف في حديثها فروي عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعنها عن حفصة عنه والله أعلم .




                                                            الخدمات العلمية