الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح فإنما لها ما قدر لها وفي رواية البيهقي لا ينبغي لامرأة أن تشترط طلاق أختها .

                                                            [ ص: 35 ]

                                                            التالي السابق


                                                            [ ص: 35 ] الحديث الثالث .

                                                            وعن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح فإنما لها ما قدر لها (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي من هذا الوجه من طريق مالك وأخرجه الشيخان والترمذي والنسائي من طريق سفيان بن عيينة والشيخان والنسائي من طريق معمر ومسلم من طريق يونس بن يزيد ثلاثتهم عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وأخرجه النسائي أيضا من طريق شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة كلاهما عن أبي هريرة وأخرجه مسلم من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة بلفظ فإنما لها ما كتب الله لها وفي لفظ له فإن الله عز وجل رازقها وأخرجه البخاري من طريق سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها لتستفرغ صحفتها فإنما لها ما قدر لها وبوب عليه باب الشروط التي لا تحل في النكاح ، ورواه البيهقي من هذا الوجه بلفظ لا ينبغي لامرأة أن تشترط طلاق أختها لتكفأ إناءها وأخرجه الشيخان من طريق شعبة بن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة في أثناء حديث لفظ البخاري وأن تشترط المرأة طلاق أختها وبوب عليه الشروط في الطلاق ولفظ مسلم (تسأل) .

                                                            (الثانية) قال النووي في شرح مسلم : يجوز في تسأل الرفع والكسر الأول على الخبر الذي يراد به النهي وهو المناسب لقوله عليه الصلاة والسلام قبله ولا يخطب ولا يسوم والثاني على النهي الحقيقي . انتهى .

                                                            ولا يخفى أن الكسر في اللام عارض لالتقاء الساكنين والفعل مجزوم ، وذكر والدي رحمه الله في شرح الترمذي أنه روي بالوجهين وهو قدر زائد على تجويز النووي الوجهين .

                                                            (الثالثة) دل [ ص: 36 ] قوله في رواية البخاري المتقدم ذكرها لا يحل لامرأة على أن النهي في ذلك على سبيل التحريم وكذا في مسند أحمد من حديث ابن عمر لا تنكح امرأة بطلاق أخرى وينبغي حمل التحريم على ما إذا جرى ذلك شرطا في صلب النكاح فلو لم يقع إلا مجرد سؤال لم يحرم ؛ لأنه سؤال في مباح ويدل لذلك تبويب البخاري على تلك الرواية باب الشروط التي لا تحل في النكاح قال : وقال ابن مسعود لا تشترط المرأة طلاق أختها ويوافقه رواية البيهقي المتقدمة لا ينبغي لامرأة أن تشترط طلاق أختها ولفظ رواية أبي حازم عن أبي هريرة عند البخاري وأن تشترط المرأة طلاق أختها وجرى على ذلك المحب الطبري في أحكامه فأورد الحديث في ذكر ما نهى فيه من الشروط بلفظ نهي أن تشترط المرأة طلاق أختها لكنه عزاه للصحيحين وقد عرفت أنه ليس عند مسلم بهذا اللفظ .

                                                            وقال ابن عبد البر في التمهيد فقه هذا الحديث أنه لا يجوز لامرأة ولا لوليها أن تشترط في عقد نكاحها طلاق غيرها ولهذا الحديث وشبهه استدل جماعة من العلماء بأن شرط المرأة على الرجل عند عقد نكاحها أنها إنما تنكحه على أن كل من يتزوجها عليها من النساء فهي طالق شرط باطل وعقد نكاحهما على ذلك فاسد يفسخ قبل الدخول ؛ لأنه شرط فاسد دخل في الصداق المستحل به الفرج ففسد ؛ لأنه طابق النهي ومن أهل العلم من يرى الشرط باطلا والنكاح صحيحا وهو المختار وعليه أكثر علماء الحجاز وهم مع ذلك يكرهون عقد النكاح عليها وحجتهم هذا الحديث وما كان مثله وقصة بريرة تقتضي جواز العقد وبطلان الشرط وهو أولى ما اعتمد عليه في هذا الباب ومن أراد أن يصح له هذا الشرط المكروه عند أصحابنا عقده بيمين فيلزمه الحنث في تلك اليمين بالطلاق أو بما حلف عليه وليس من أفعال الأبرار ولا من مناكح السلف استباحة النكاح بالأيمان المكروهة ، ثم روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : شرط الله قبل شرطها ، قال : ومنهم من يرى أن الشرط صحيح ؛ لحديث عقبة بن عامر مرفوعا إن أحق الشروط أن توفوا ما استحللتم به الفروج وهذا حديث وإن كان صحيحا فإن معناه والله أعلم : أحق الشروط أن يوفى به من الشروط الجائزة . انتهى .

                                                            وكلام ابن حزم أيضا يوافق ما ذكرته من حمل الحديث [ ص: 37 ] على الشرط فإنه بعد أن قرر بطلان النكاح بالشرط استدل برواية البخاري التي لفظها لا يحل ثم قال : فمن اشترط ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو شرط باطل وإن عقد عليه نكاح فالنكاح باطل .

                                                            (الرابعة) يحتمل أن المراد المرأة الأجنبية تسأل الزوج طلاق زوجته وأن ينكحها هي بدلا عنها ويحتمل أن يكون المراد الزوجة التي هي في العصمة تسأل طلاق ضرتها لتنفرد هي بالزوج ويحتمل أن المراد أعم من ذلك وإلى الأول ذهب النووي وإلى الثاني ذهب ابن عبد البر والأول أظهر ؛ لقوله ولتنكح فإنه يدل على أن المراد التي ليست الآن ناكحها ، وإليه ذهب والدي رحمه الله في شرح الترمذي ورد كلام ابن عبد البر بما ذكرته والثالث محتمل ويحمل قوله ولتنكح على أحد القسمين وهو الأول .

                                                            وأما قوله (لتستفرغ صحفتها) فإنه يصدق في الصورة الثانية أيضا ؛ لأنها تريد تحصيل حظ الأخرى من الزوج مضموما إلى حظها .

                                                            (الخامسة) قال النووي : المراد بأختها غيرها سواء كانت أختها من النسب أو أختها في الإسلام أو كافرة . انتهى .

                                                            فأما أختها من النسب فكيف يصح إرادتها في الحديث مع قوله في بقيته : ولتنكح ؛ لأن نكاحها زوجها متعذر مع بقائها في عصمته ، وقد ذكر ذلك الخطابي فقال : يريد ضرتها المسلمة فهي أختها من الدين ولم يرد الأخت من قبل النسب ؛ لأنه لو أراد أن يجمع بينهما في النكاح لم يجز له ذلك . انتهى .

                                                            وقد يراد لتنكح من يحل له نكاحها ولا تسعى في طلاق أختها لمنفعة زائدة تتوقعها من زوجها فلتنكح غيره فإنها لا ينالها إلا ما قدر لها وحينئذ يستقيم ما ذكره النووي وأما الكافرة فقال والدي رحمه الله في شرح الترمذي : ينبغي أن يجري فيها الخلاف في البيع على بيع أخيه فإن الأوزاعي يخصه بالمسلم وقال به من الشافعية أبو عبيد بن حربويه ويختاره الخطابي ويدل له قوله في رواية ابن حبان في صحيحه في بقية الحديث : فإن المسلمة أخت المسلمة ولكن الجمهور هناك على تعميم الحكم وأنه لا فرق بينهما .

                                                            (قلت) ويوافقه كلام الخطابي المتقدم .

                                                            (السادسة) قوله لتستفرغ صحفتها أي لا تفعل ذلك لتستفرغ صحفتها قال الخطابي : وهو يريد بذلك الإيثار عليها فتكون كمن أفرغ صحفة غيره وكفأ ما في إنائه [ ص: 38 ] فيقلبه في إناء نفسه ، وقال ابن عبد البر : هو كلام عربي مجازي ومعناه لتنفرد بزوجها ومثل هذه الاستعارة قول النمر بن تولب

                                                            فــإن ابـن أخـت القـوم مصفـى إنـاؤه إذا لـــم يزاحـــم خالــه بــاب خــلد



                                                            (السابعة) استفراغ صحفتها استعارة لنيل الحظ الذي كان يحصل لها من الزوج من نفقة ومعروف ومعاشرة ونحوها ولا يتقيد ذلك بشيء مخصوص على ذلك مشى النووي في شرح مسلم وكذا قال أبو العباس القرطبي هذا مثل لإمالة الضرة حق صاحبتها من زوجها إلى نفسها ثم قال : وقيل : هو كناية عن الجماع والرغبة في كثرة الولد قال : والأول أولى .

                                                            (الثامنة) فصل القاضي أبو بكر بن العربي في ذلك فقال : من شأن النساء بما ركبن عليه من الغيرة طلب الانفراد بالزوج دون الضرة فإن كان ذلك رغبة في الاستبداد بالصحبة والانفراد بالمعاشرة فذلك مأذون فيه ، وإن كان لأجل المضايقة في الكسوة والنفقة فذلك ممنوع منه وفيه ورد هذا الحديث فمنعها إذا خطبت أن تقول : لا أتزوج إلا بشرط أن يفارق التي عنده رغبة في حظها من المعيشة لتزداد بها في معيشتها فإن الرزق قد فرغ منه فلا تطلب منه ما عند غيرها ويجوز للمرأة الداخلة أن تمنع الخارجة من الدخول وتقول للزوج : لا تنكحها فإنها تضايقنا في معيشتنا وتمنعه منها بهذه النية ؛ لأنها لم تطلب من حظ تلك شيئا وإنما كرهت أن تشاركها في حظها وذلك لا يناقض القدر ، ويجوز لها أن تشترط عليه الاستبداد به في المتعة ألا ترى إلى أم حبيبة بنت أبي سفيان حين عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم نكاح أختها وقالت : لست لك بمخلية وأحب من شركني في خير أختي فتمنت الإخلاء به دون كل زوجة لو اتفق ذلك لها ولا يجوز أن تشترط أن كل من يدخل عليها طالق ؛ لأن بدخولها عليها قد صارت أختا لها فلا تسأل طلاقها وإنما لها أن تشترط أن يتأخر عن ذلك وإذا شرطه لها لزم الوفاء به لقوله عليه الصلاة والسلام إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج . انتهى .

                                                            ولا دليل على ما ذكره من التفرقة بين طلب الانفراد بالمعاشرة وطلب الانفراد بالنفقة والكسوة ولا بين الداخلة والخارجة [ ص: 39 ] والحديث الذي أورده لا يدل على شيء مما ذكره فإن أم حبيبة لم تشترط ذلك ولا طلبته وإنما فهم منها تمنية ولا يلزم من إباحة تمني الشيء إباحة طلبه واشتراطه . والله أعلم .

                                                            (التاسعة) قوله : ولتنكح أمر بذلك وهو على سبيل الإباحة أو الإرشاد والاستحباب ، وذكر والدي رحمه الله في شرح الترمذي أنه روي بوجهين : أحدهما هذا ، والثاني بكسر اللام ونصب الفعل عطفا على قوله لتستفرغ ويتعين مع هذه الرواية الثانية أن يكون الكلام في الأجنبية تسأل طلاق الزوجة .

                                                            (العاشرة) قوله : فإنما لها ما قدر لها أي لا ينالها من الرزق سوى ما قدر لها ولو طلق الزوج من تظن أنها تزاحمها في رزقها قال الله تعالى قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا قال ابن عبد البر وهذا الحديث من أحسن أحاديث القدر عند أهل العلم والسند ، وقال ابن العربي : هذا الحديث من أصول الدين في السلوك على مجاري القدر وذلك لا يناقض العمل في الطاعات ولا يمنع من التحري في الاكتساب وخزن الأقوات والنظر لغد وإن كان لا يتحقق أنه يبلغه لكن بحيث لا يخرج عن سبيل السنة ولا يدخل في المكروه والبدعة ولا يركن إلى أحد على مظنة مضرة ولا يربط عليها نية .




                                                            الخدمات العلمية