الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            عن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تبل في الماء الدائم الذي لا يجري ، ثم تغتسل منه .

                                                            التالي السابق


                                                            (باب ما يفسد الماء ، وما لا يفسده) (الحديث الأول) عن همام عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تبل في الماء الدائم الذي لا يجري ، ثم تغتسل منه فيه فوائد :

                                                            (الأولى) حديث أبي هريرة هذا [ ص: 30 ] أخرجه الأئمة الستة من طرق البخاري من رواية الأعرج ومسلم من رواية همام وابن سيرين وأبو داود من رواية ابن سيرين وعجلان ، والترمذي من رواية همام ، والنسائي من رواية همام وابن سيرين وأبي السائب مولى هشام وابن ماجه من رواية عجلان خمستهم عن أبي هريرة .

                                                            (الثانية) في اختلاف ألفاظه ففي بعضها ، ثم يتوضأ منه أو يغتسل منه وفي رواية الترمذي لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ، ثم يتوضأ منه ، وهي مخالفة لرواية أحمد ومسلم من طريق همام وفي رواية ولا يغتسل فيه من الجنابة وفي رواية للبيهقي ، ثم يتوضأ منه أو يشرب منه ، وفي رواية : الدائم أو الراكد ولمسلم من حديث جابر الراكد ولابن ماجه من حديث ابن عمر الناقع ولا تعارض في هذا الاختلاف ، وإن اختلف معنى الوضوء ، والغسل ، والشرب فقد صح الكل ومحمله أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الثلاثة فأدى بعضهم واحدا وأدى بعضهم اثنين على ما حفظ كل واحد من الرواة .

                                                            وقال الحافظ عبد الكريم : هذا الاختلاف يدل على أنها أحاديث متعددة لأن الاغتسال ، والوضوء مما يمكن السؤال عنه ، وهي مختلفة المعنى ، وأنها لو كانت حديثا واحدا لكان مختلف اللفظ ، والمعنى واحد انتهى ، وما ذكرناه من الجمع ممكن من غير تعارض .



                                                            (الثالثة) الدائم بالدال المهملة من قولهم دام بالمكان أي أقام به ، وهو الراكد ، والناقع كما تقدم وقوله بعده (الذي لا يجري) هل هو على سبيل الإيضاح ، والبيان أم له معنى آخر ؟ وبالأول جزم ابن دقيق العيد وبه صدر النووي كلامه ، ثم قال : ويحتمل أنه احترز به عن راكد لا يجري بعضه كالبرك ونحوها هكذا في النسخ الصحيحة من شرح مسلم ولعله عن راكد يجري بعضه أي فليس بمحل النهي ، فأما الراكد الذي لا يجري بعضه ، فإنه لا يحترز عنه ؛ لأنه في حكم الراكد والله أعلم .



                                                            (الرابعة) وقوله : (ثم يغتسل منه) الرواية المشهورة فيه ضم اللام أي ، ثم هو يغتسل منه كقوله في الحديث الصحيح : لا يضرب أحدكم امرأته ضرب الأمة ، ثم يضاجعها ، فإنه يرفع العين .

                                                            قال صاحب المفهم : ولم يروه أحد بالجزم ولا تخيله فيه أي قوله ، ثم يضاجعها .

                                                            وأما يغتسل فحكى النووي عن العلامة أبي عبد الله بن مالك أنه يجوز أيضا جزمه عطفا [ ص: 31 ] على موضع يبولن ونصبه بإضمار " أن " وإعطاء " ثم " حكم واو الجمع قال النووي : فأما الجزم فظاهر ، وأما النصب فلا يجوز ؛ لأنه يقتضي أن المنهي عنه الجمع بينهما دون إفراد أحدهما .

                                                            قال : وهذا لم يقله أحد بل البول فيه منهي عنه قال ابن دقيق العيد في شرح الإلمام : إن هذا التعليل الذي علل به امتناع النصب ضعيف ؛ لأنه ليس فيه أكثر من أن هذا الحديث لا يتناول النهي عن البول في الماء الراكد بمفرده وليس يلزم أن يدل على الأحكام المتعددة بلفظ واحد فيؤخذ النهي عن الجمع من هذا الحديث ويؤخذ النهي عن الإفراد من حديث آخر انتهى وقال أبو العباس القرطبي : لا يجوز النصب إذ لا ينصب بإضمار أن بعد ثم ، وقال أيضا : إن الجزم ليس بشيء إذ لو أراد ذلك لقال : ثم لا يغتسلن ؛ لأنه إذ ذاك يكون عطف فعل على فعل لا عطف جملة على جملة .

                                                            وحينئذ يكون الأصل مساواة الفعلين في النهي عنهما وتأكيدهما بالنون الشديدة ، فإن المحل الذي توارد عليه هو شيء واحد ، وهو الماء فعدوله عن ، ثم لا يغتسلن إلى ، ثم يغتسل دليل على أنه لم يرد للعطف ، وإنما جاء ثم يغتسل على التنبيه على مآل الحال ومعناه أنه إذا بال فيه قد يحتاج إليه فيمتنع عليه استعماله لما أوقع فيه من البول .

                                                            وقال ابن دقيق العيد في شرح الإلمام نحو ذلك في تضعيف الجزم أيضا (قلت) لا يلزم في عطف النهي على النهي ورود التأكيد فيهما معا كما هو معروف في العربية وفي رواية أبي داود ولا يغتسل فيه من الجنابة فأتى بأداة النهي ولم يؤكده والله أعلم .

                                                            (الخامسة) وقع في رواية همام ، ثم يغتسل منه بالميم ، والنون وهكذا هو عند مسلم وقال البخاري في رواية الأعرج ، ثم يغتسل فيه بالفاء ، والمثناة من تحت قال ابن دقيق العيد : ومعناهما مختلف يفيد كل واحد منهما حكما بطريق النص وآخر بطريق الاستنباط ، ولو لم يرد لاستويا لما ذكرناه .

                                                            (السادسة) إذا جعلنا قوله : ثم يغتسل منه نهيا على أحد القولين فيكون فيه النهي عن شيئين ، والنهي عن الشيئين قد يكون نهيا عن الجمع ، وقد يكون نهيا عن الجميع فالأول لا يقتضي النهي عن كل فرد وحده ، والثاني يقتضي النهي عن كل فرد ويدل على الثاني رواية أبي داود لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة .

                                                            ويدل أيضا على [ ص: 32 ] النهي عن الاغتسال فيه بمفرده رواية مسلم من رواية أبي السائب مولى هشام عن أبي هريرة لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم ، وهو جنب فقال كيف يفعل يا أبا هريرة ؟ قال يتناوله تناولا .



                                                            (السابعة) احتج به الحنفية في تنجيس الماء الراكد بحلول النجاسة فيه ، وإن كان أكثر من قلتين ، فإن الصيغة صيغة عموم وأجاب أصحاب الشافعي عنه بأن هذا الحديث يتعذر العمل بعمومه إجماعا ؛ لأن الماء الدائم الكثير المستبحر لا تؤثر فيه النجاسة اتفاقا منا ومنكم ، وإذا بطل عمومه وتطرق إليه التخصيص خصصناه بحديث القلتين فيحمل عمومه على ما دون القلتين جمعا بين الحديثين ، فإن حديث القلتين يقتضي عدم تنجيس القلتين فما فوقهما ، وذلك أخص من مقتضى الحديث العام الذي ذكرناه ، والخاص مقدم على العام .



                                                            (الثامنة) فيه حجة للقول القديم للشافعي أن الماء الجاري ، وإن كان قليلا لا تؤثر فيه النجاسة إلا إذا غيرته ، فإنه ينجس إجماعا ، فأما إذا لم يتغير فمفهوم الحديث إخراجه عن الماء الدائم في أنه ليس منهيا عن البول فيه ولا عن الاغتسال منه ، وهو مفهوم صفة ، وهو حجة على الصحيح في الأصول وحكى الرافعي عن طائفة من الأصحاب اختيار القول القديم وأشار إلى أنه اختيار الغزالي وخصص جمهور أصحاب الشافعي مفهوم هذا الحديث بمفهوم حديث القلتين ، فإن مفهومه تأثير النجاسة فيما دونها جاريا كان أو راكدا والله أعلم .



                                                            (التاسعة) احتج به أحمد على أن بول الآدمي ، وما في معناه من العذرة ينجس الماء الراكد ، وإن كان أكثر من قلتين ، وإن غير ذلك من النجاسات يعتبر فيه القلتين فلم نعد حكم البول ، والعذرة إلى غيرهما من النجاسات ، وفي كلام بعض الشراح عن أحمد تقييد العذرة بالمائعة ، وكأنها هي التي عنده في معنى البول دون الجامدة إذ لا امتناع في الماء .

                                                            قال ابن دقيق العيد : وكأنه رأى الخبث المذكور في حديث القلتين عاما بالنسبة إلى الأنجاس ، وهذا الحديث خاص بالنسبة إلى بول الآدمي فقدم الخاص على العام بالنسبة إلى النجاسات الواقعة في الماء الكثير وأخرج بول الآدمي ، وما في معناه من جملة النجاسات الواقعة في القلتين بخصوصه فتنجس الماء دون غيره من النجاسات ، ثم قال : ولمخالفهم أن يقول قد علمنا جزما أن هذا النهي جزما إنما هو لمعنى النجاسة [ ص: 33 ] وعدم التقرب إلى الله تعالى بما خالطها .

                                                            وهذا المعنى يستوي فيه سائر الأنجاس فلا يتجه تخصيص بول الآدمي منها بالنسبة إلى هذا المعنى إلى أن قال : فيحمل الحديث على أن ذكر البول ورد تنبيها على غيره مما يشاركه في معناه من الاستقذار ، والوقوف على مجرد الظاهر ههنا مع وضوح المعنى وشموله لسائر الأنجاس ظاهرية محضة .



                                                            (العاشرة) حمل مالك رحمه الله تعالى النهي في هذا الحديث على البول في الماء الراكد على الكراهية لا على التحريم ؛ لأن الماء لا يتنجس عنده بوصول النجاسة إليه إلا بالتغير كثيرا كان أو قليلا جاريا كان أو راكدا وحجته قوله : خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء الحديث . ولكن ربما تغير الراكد بالبول فيه فيكون الاغتسال به محرما بالإجماع .

                                                            قال ابن دقيق العيد : وهذا يلتفت على حمل اللفظ الواحد على معنيين مختلفين ، وهي مسألة أصولية قال ، وقد يقال على هذا : إن حالة التغير مأخوذة من غير هذا اللفظ فلا يلزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين قال ، وهذا متجه إلا أنه يلزم منه التخصيص في هذا الحديث ، فإن جعلنا النهي للتحريم كان استعماله في الكراهة ، والتحريم استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه ، والأكثرون على منعه انتهى وأجاب صاحب المفهم عن مالك بأنه وإن كان مشهور مذهبه أنه طهور ، فإنه يصح أن يحمل هذا الحديث على سد الذريعة ؛ لأنه ربما أدى إلى تغيره فنهى عن ذلك .



                                                            (الحادية عشر) استدل به بعض الحنفية على أن الماء المستعمل نجس ، وهو قول أبي حنيفة أو رواية عنه ، فإنه قرن فيه بين البول فيه ، والاغتسال منه ، والبول ينجسه فكذلك الاغتسال ، ورده الجمهور بوجهين أحدهما أن دلالة الاقتران ضعيفة قال بها أبو يوسف والمزني وخالفهما غيرهما من الفقهاء ، والأصوليين ومما يرد عليهما قوله تعالى كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده فلا يلزم من اقتران الأكل بإيتاء الزكاة وجوب الأكل والله أعلم .

                                                            والوجه الثاني أنا ولو سلمنا دلالة الاقتران فلا يلزم من ذلك القول بنجاسته بل يحصل ذلك باشتراكهما في كون كل منهما لا يتطهر به بعد ذلك أما كون الامتناع في كل منهما للنجاسة فغير لازم بل الأول لتنجسه به ، والثاني لاستعماله وهكذا قال [ ص: 34 ] الخطابي إن نهيه عن الاغتسال فيه يدل على أنه يسلبه حكمه كالبول فيه يسلبه حكمه إلا أن الاغتسال فيه لا ينجسه ، والبول ينجسه لنجاسته في نفسه والله أعلم .



                                                            (الثانية عشر) استدل به الشافعي ، والجمهور على أن الماء المستعمل مسلوب الطهورية فلا يتطهر به مرة أخرى ، ولولا أن الاغتسال فيه يخرجه عن كونه يغتسل به مرة أخرى لما نهى عنه ، وهذا الاستدلال إنما يجعل على القول بأن قوله ، ثم يغتسل مجزوم على النهي ، فإن قيل : ولو جعلناه نهيا ، فإنما النهي بعد تقدم البول فيه فلا يلزم النهي عن الاغتسال فيه من غير تقدم بول قلنا أما على رواية الأصل فنعم .

                                                            وأما على رواية أبي داود ولا يغتسل فيه من الجنابة فهو نهي عن الاغتسال فيه على الانفراد وأصرح من ذلك رواية مسلم المتقدمة لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم ، وهو جنب ولم يذكره بعد النهي عن البول والله أعلم .



                                                            (الثالثة عشر) النهي عن الاغتسال في الماء الراكد ليس على إطلاقه اتفاقا ، فإن الماء المستبحر الكثير كالبحر الملح لا يتناوله النهي اتفاقا ، وكذلك ما هو أكثر من القلتين عند الشافعي ومن وافقه فهو مخصوص بحديث القلتين كما ذكرنا في النجاسة لكنه يكره الاغتسال فيه .

                                                            وإن كان كثيرا فقد نص عليه الشافعي رحمه الله في البويطي فقال فيه وسواء قليل الراكد وكثيره أكره الاغتسال فيه قال النووي ، وكذا صرح أصحابنا وغيرهم بمعناه قال ، وهذا كله على كراهة التنزيه لا التحريم .

                                                            (الرابعة عشر) إذا تقرر أن البول أو الاغتسال في الماء الراكد ليس على عمومه فيفترق الحكم فيه بسبب قلته وكثرته قال المهلب بن أبي صفرة : النهي عن البول في الماء الراكد مردود إلى الأصول ، فإن كان الماء كثيرا فالنهي عن ذلك على وجه التنزه ، وإن كان قليلا فالنهي على الوجوب وقال النووي ، وهذا النهي في بعض المياه للتحريم وفي بعضها للكراهة ويؤخذ ذلك من حكم المسألة ، فإن كان الماء كثيرا جاريا لم يحرم البول فيه لمفهوم الحديث ولكن الأولى اجتنابه .

                                                            وإن كان قليلا جاريا فقد قال جماعة من أصحابنا يكره ، والمختار أنه يحرم ؛ لأنه يقدره وتنجسه على المشهور من مذهب الشافعي وغيره ويغر غيره فيستعمله مع أنه نجس ، وإن كان الماء كثيرا راكدا فقال أصحابنا يكره ولا [ ص: 35 ] يحرم ، ولو قيل يحرم لم يكن بعيدا ، فإن النهي يقتضي التحريم على المختار عند المحققين ، والأكثرين من أهل الأصول .

                                                            وفيه من المعنى أنه يقدره وربما أدى إلى تنجيسه بالإجماع لتغيره أو إلى تنجيسه عند أبي حنيفة ومن وافقه في أن الغدير الذي يتحرك طرفه بتحريك الطرف الآخر ينجس بوقوع نجاسة فيه .

                                                            وأما الراكد القليل فقد أطلق جماعة من أصحابنا أنه مكروه ، والصواب المختار أنه يحرم البول فيه ؛ لأنه ينجسه ويتلف مائيته ويغر غيره باستعماله والله أعلم .

                                                            قال : وإذا اغتسل فيه من الجنابة فهل يصير مستعملا ؟ فيه تفصيل معروف عند أصحابنا ، وهو أنه إن كان الماء قلتين فصاعدا لم يصر مستعملا ، وأما إذا كان دون القلتين ، فإن انغمس فيه الجنب بغير نية ، ثم لما صار تحت الماء نوى ارتفعت جنابته وصار الماء مستعملا ، وإن نزل فيه إلى ركبتيه مثلا ، ثم نوى قبل انغماس باقيه صار الماء في الحال مستعملا بالنسبة إلى غيره وارتفعت الجنابة عن ذلك القدر المنغمس بلا خلاف وارتفعت أيضا عن الباقي إذا تمم انغماسه من غير انفصال على المذهب الصحيح المختار المنصوص المشهور فلو انفصل ، ثم عاد إليه لم يجزه ما يغسله به بعد ذلك بلا خلاف انتهى كلامه في شرح مسلم .

                                                            وقوله في الجاري القليل : إن البول ينجسه على المشهور من مذهب الشافعي وغيره فما نقله عن غير الشافعي ليس بجيد بل المشهور عند أكثر أهل العلم أنه لا ينجس إلا بالتغير بل القليل الراكد كذلك عند أكثر أهل العلم كما حكاه الشيخ تقي الدين بن تيمية في بعض مسائله التي سئل عنها .



                                                            (الخامسة عشر) فرق قوم من الشافعية في البول ، والاغتسال في الماء الراكد بين الليل ، والنهار وجعلوا الكراهة في الليل أشد ، وذلك لما قيل أن الماء بالليل للجن فلا ينبغي أن يبال فيه ولا يغتسل خوفا من آفة تصيبه من جهتهم هكذا جزم به الرافعي وجزم ابن الرفعة في الكفاية بكراهة البول في الماء الكثير الجاري في الليل لما قيل : إن الماء بالليل للجن ، وهو يخالف ما ذكره النووي من إطلاق كونه خلاف الأولى فقط والله أعلم .



                                                            (السادسة عشر) مفهوم الحديث أن الاغتسال بالماء الجاري ليس داخلا في النهي سواء حملناه على التحريم أو الكراهة وجزم [ ص: 36 ] النووي في شرح مسلم بالكراهة فقال قال العلماء من أصحابنا وغيرهم يكره الاغتسال في الماء الراكد قليلا كان أو كثيرا ، وكذا يكره الاغتسال في العين الجارية قال الشافعي رحمه الله تعالى في البويطي : أكره للجنب أن يغتسل في البئر معينة كانت أو دائمة وفي الماء الراكد الذي لا يجري انتهى .

                                                            وكأن النووي أخذ كراهة الاغتسال في العين الجارية من نص الشافعي وليس في نصه ما يقتضي ذلك والشافعي لم يذكر الجاري ، وإنما ذكر البئر المعينة ، والدائمة فالمعينة هي التي تمدها عين فيها ، والدائمة هي التي لا تمدها عين وليس في كلامه تعرض للجارية ومقتضى الحديث أن الجاري لا بأس بالاغتسال فيه خصوصا إن كانت عينا كبيرة فلا وجه للكراهة والله أعلم .



                                                            (السابعة عشر) هل يلحق بالنهي عن البول في الماء الراكد الاستنجاء فيه لما فيه من تقديره أو ليس الاستنجاء في حكم البول قال النووي : إن كان قليلا فهو حرام ، وإن كان كثيرا فليس بحرام ولا تظهر كراهته ؛ لأنه ليس في معنى البول ولا يقاربه قال : ولو اجتنب الإنسان هذا كان أحسن انتهى .

                                                            فإن كان أراد الاستنجاء من البول فواضح ، وإن أراد الاستنجاء من الغائط ففي عدم الكراهة نظر خصوصا لمن لم يخففه بالحجر ومع الانتشار ، والكثرة فربما كان أفحش من البول والله أعلم .



                                                            (الثامنة عشر) قال ابن دقيق العيد : اعلم أن هذا الحديث لا بد من إخراجه عن ظاهره بالتخصيص أو التقييد ؛ لأن الاتفاق واقع على أن الماء المستبحر الكثير جدا لا تؤثر فيه النجاسة ، والاتفاق واقع على أن الماء إذا غيرته النجاسة امتنع استعماله فمالك رحمه الله إذا حمل النهي على الكراهة لاعتقاده أن الماء لا ينجس إلا بالتغير لا بد أن يخرج صورة التغير بالنجاسة أعني عن الحكم بالكراهة ، فإن الحكم ثم التحريم .

                                                            فإذا لا بد من الخروج عن الظاهر عند الكل .

                                                            (التاسعة عشر) قال ابن بطال : ولم يأخذ أحد من الفقهاء بظاهر هذا الحديث إلا رجل ينسب إلى العلم وليس من أهله يقال له داود بن علي فقال : من بال في الماء الدائم فقد حرم عليه الوضوء به قليلا كان أو كثيرا قال : فإن بال في إناء وصبه في الماء الدائم كان له الوضوء به ؛ لأنه إنما نهي عن البول فيه فقط بزعمه ، وصبه للبول من الإناء ليس ببول فيه فلم ينه عنه .

                                                            فلو بال خارجا عن الماء الدائم فسال فيه جاز أن [ ص: 37 ] يتوضأ به قال : ويجوز لغيره أي لغير البائل أن يتوضأ فيما بال فيه غيره ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى البائل ولم ينه غيره وقال ما هو أشنع من هذا إنه إذا تغوط في الماء الدائم كان له ولغيره أن يتوضأ به ؛ لأن النهي إنما جاء في البول فقط ولم ينه عن الغائط قال : وهذا غاية في السقوط وإبطال المعقول إلى أن قال ويقال له خبرنا عن البائل في البحر أو الحوض الكبير أو الغدير الواسع هل يجوز له أن يتوضأ منه ؟

                                                            فإن قال لا قال ما نعرف أن الحق في خلافه ، وإن أجاز ذلك قيل له قد تركت ظاهر الحديث وفي ضرورتك إلى ترك ظاهره ما يوجب عليك أن تقول : إن معنى الحديث ما ذكرناه من تحريم الوضوء بالماء النجس وتأديبهم بأن يتنزهوا عن البول في الماء الذي لا يجري فيحتاجون على الوضوء منه إلى آخر كلامه .

                                                            وما ذهب إليه داود قاله أيضا ابن حزم وصرح بأنه لا فرق في ذلك بين أن يقل الماء أو يكثر قال صاحب المفهم : ومن التزم هذه الفضائح وجمد هذا الجمود فحقيق أن لا يعد من العلماء بل ولا في الوجود قال : وقد أحسن القاضي أبو بكر حيث قال : إن أهل الظاهر ليسوا من العلماء ولا من الفقهاء فلا يعتد بخلافهم بل هم من جملة العوام وعلى هذا جل الفقهاء ، والأصوليين ومن اعتد بخلافهم إنما ذلك ؛ لأن من مذهبه أنه يعتبر خلاف العوام فلا ينعقد الإجماع مع وجود خلافهم .

                                                            والحق أنه لا يعتبر إلا خلاف من له أهلية النظر ، والاجتهاد على ما يذكر في الأصول وقال النووي : إن هذا من أقبح ما نقل عن داود في الجمود على الظاهر وقال ابن دقيق العيد : إنه يعلم بطلانه قطعا ، والعلم القطعي حاصل ببطلان قولهم لاستواء الأمرين في الحصول في الماء ، وأن المقصود اجتناب ما وقعت فيه النجاسة من الماء .

                                                            قال : وليس هذا من محال الظنون بل هو مقطوع به .




                                                            الخدمات العلمية