الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن سعيد عن أبي هريرة فيما يراه سفيان يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا رواه مسلم بزيادة في أوله فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي المغانم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون وللشيخين من حديث جابر أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وقال مسلم وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا وله من حديث حذيفة فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء .

                                                            وفي رواية للبيهقي وجعل ترابها لنا طهورا تفرد أبو مالك الأشجعي بذكر التراب فيه ، ولأحمد ، والبيهقي من حديث علي وجعل التراب لي طهورا وإسناده حسن .

                                                            التالي السابق


                                                            (الحديث الثاني) عن سعيد عن أبي هريرة فيما يراه سفيان يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم : جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا رواه مسلم بزيادة في أوله فيه فوائد :

                                                            (الأولى) [ ص: 105 ] أخرج هذا الحديث مسلم ، والترمذي وابن ماجه ، واللفظ له هكذا مختصرا كلهم من رواية إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة .

                                                            وزاد مسلم ، والترمذي في أوله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فضلت على الناس بست أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي المغانم وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون .

                                                            (الثانية) قول أحمد في روايته فيما يراه سفيان هو بضم أوله أي يظنه وليس ذلك قادحا في صحة الحديث فإن باب الرواية مبني على غلبة الظن ويحتمل أن يكون سفيان هو القائل فيما يراه سفيان يريد فيما رأيت فأوقع الظاهر موقع المضمر ، والظاهر أن موضع الظن من الإسناد كونه من رواية سعيد عن أبي هريرة فإن الزهري شيخ سفيان قد حدث ببعض الحديث عن رجلين عن سعيد وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن فكأن سفيان بن عيينة تردد في شيخ الزهري من هو ؟ وغلب على ظنه أنه سعيد بن المسيب لا أبو سلمة ، وقد رواه مسلم ، والنسائي من رواية محمد بن الوليد الزبيدي ومعمر كلاهما عن الزهري عن ابن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة ولم يسق مسلم لفظه وساقه النسائي بلفظ بعثت بجوامع الكلم ونصرت بالرعب وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي ويحتمل أن يكون قوله فيما يراه سفيان أي فيما يتعلق برفع الحديث ومعمول قوله يبلغ به فكأنه يكون قوله يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم فيما يراه سفيان ، والأول أظهر لتقدم قوله فيما يراه فعوده إلى الماضي أقرب والله أعلم .

                                                            (الثالثة) قوله وجعلت لي الأرض مسجدا اختلف في بيان ما خصص به على الأمم قبله في ذلك فقيل : إن الأمم الماضية لم تكن الصلاة تباح لهم إلا في مواضع مخصوصة كالبيع ، والكنائس وقيل كانوا لا يصلون إلا فيما تيقنوا طهارته من الأرض وخصصت هذه الأمة بجواز الصلاة في جميع الأرض إلا ما تيقنت نجاسته حكاهما القاضي عياض .

                                                            (الرابعة) عموم ذكر الأرض في هذا الحديث مخصوص بما نهى الشارع عن الصلاة فيه فروى أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الأرض كلها مسجد إلا المقبرة ، والحمام ورواه الحاكم في المستدرك وقال أسانيده صحيحة [ ص: 106 ] وقال الترمذي هذا حديث فيه اضطراب ، وكذا ضعفه غيره قال النووي والذين ضعفوه أتقن من الحاكم .

                                                            وروى الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في سبعة مواطن في المزبلة ، والمجزرة ، والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي معاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله قال الترمذي إسناده ليس بذاك القوي .

                                                            وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه .

                                                            ولمسلم من حديث جابر بن سمرة النهي عن الصلاة في مبارك الإبل .

                                                            ولأبي داود من حديث البراء لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين .

                                                            وللبيهقي من حديث عبد الله بن مغفل لا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الشيطان .

                                                            ولمسلم من حديث جندب لا تتخذوا القبور مساجد .

                                                            ولأبي داود من حديث علي إن حبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة وبعض هذه الأماكن المنهي عن الصلاة فيه سبب النهي غلبة النجاسة كالمزبلة ، والمجزرة ، والمقبرة ، والحمام ومعاطن الإبل على أحد الأقوال أو خوف التشويش وترك اجتماع الخاطر كقارعة الطريق وأعطان الإبل على قول آخر أو حضور الشياطين كالحمام وأعطان الإبل على قول .

                                                            وكذا الصلاة في بطن الوادي كما جاء في حديث آخر وعدم القبلة المستقبلة كظهر بيت الله حيث لا شاخص هناك ثابت يستقبل وبعضها محمول على التحريم وبعضها على الكراهة على ما هو معروف في مواضعه من الفقه والكلام على هذه الأحاديث .



                                                            (الخامسة) استدل به على أنه لا تجب الصلاة في المساجد وإن قدر على ذلك ولم يشق عليه وإن كان جار المسجد ، وهو قول الجمهور ، وأما الحديث الذي رواه الدارقطني من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد فهو حديث ضعيف وكذلك روي من حديث أبي هريرة وعلي وكلها ضعيفة ولو ثبت كان المراد لا صلاة كاملة .



                                                            (السادسة) استدل به لأبي حنيفة ومالك على أنه يجوز التيمم بجميع أجزاء الأرض من التراب ، والرمل ، والحجارة ، والحصباء قالوا وكما تجوز الصلاة عليها يجوز التيمم بها ؛ لأنه لم يفرق في الصلاة عليها بين التراب وغيره فكذلك حكم التيمم .

                                                            وذهب الشافعي وأحمد إلى تخصيص ذلك بالتراب واستدلوا بما رواه [ ص: 107 ] مسلم من حديث حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء .

                                                            وذكر خصلة أخرى فحمل الشافعي وأحمد رواية الإطلاق على رواية التقييد واعترض القرطبي في المفهم بأن ذلك ذهول من قائله فإن التخصيص إخراج ما تناوله العموم عن الحكم ولم يخرج هذا الخبر شيئا وإنما عين هذا الحديث واحدا مما تناوله الاسم الأول مع موافقته في الحكم وصار بمثابة قوله تعالى فيهما فاكهة ونخل ورمان وقوله من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فعين بعض ما تناوله اللفظ الأول مع الموافقة في المعنى وكذلك ذكر التراب وإنما عينه لكونه أمكن وأغلب قال وأيضا فإنا نقول بموجبه فإن تراب كل شيء بحسبه فيقال تراب الزرنيخ وتراب النورة انتهى وذكر ابن دقيق العيد أيضا أنه اعترض على الذين خصصوا عموم الأرض بتربة الأرض بوجوه منها منع كون التربة مرادفة للتراب وادعى أن تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره مما يقاربه .

                                                            ومنها أنه مفهوم لقب أعني تعليق الحكم بالتربة ومفهوم اللقب ضعيف عند أرباب الأصول وقالوا لم يقل به إلا الدقاق ومنها أن الحديث الذي خصت به التربة بالطهورية لو سلم أن مفهومه معمول به لكان الحديث الآخر بمنطوقه يدل على طهورية بقية أجزاء الأرض أعني قوله عليه السلام مسجدا وطهورا ، وإذا تعارض في غير التراب دلالة المفهوم الذي يقتضي عدم طهوريته ودلالة المنطوق الذي يقتضي طهوريته فالمنطوق مقدم على المفهوم انتهى .

                                                            والجواب عن اعتراض القرطبي الأول من جعله ذلك ذكرا لبعض أفراد العموم وأنه لم يخرج شيئا .

                                                            فهذا هو عين المسألة المتنازع فيها وقوله لم يخرج شيئا دعوى وإنما هذا كقوله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة فهلا جعل هذه الآية ذكرا لبعض أفراد الآية التي أطلق فيها ذكر الرقبة بل اشترط في الكفارة إيمان الرقبة حملا لإحدى الآيتين على الأخرى .

                                                            وأما تمثيله بذكر الخاص بعد العام فهو ذهول منه وإنما صورة هذا أن يذكر معا العام قبل الخاص وليس كذلك هذا الحديث بل أطلق في أحد الحديثين الأرض وقيد في [ ص: 108 ] الآخر ذلك بتربة الأرض وبتراب الأرض .

                                                            وأما جعله ذلك مما خرج مخرج الغالب فهو أيضا خلاف الأصل خصوصا ما إذا ذكر ذلك في معرض إظهار التشريف ، والتخصيص بذلك ، فلو خصص بأمر زائد على تراب الأرض لما اقتصر عليه في حديث حذيفة .

                                                            وأما قوله إن تراب كل شيء بحسبه كتراب الزرنيخ فليس في حديث حذيفة إلا ذكر التراب المطلق ؛ لأن التراب مقيد كالماء المطهر سواء فهلا قال يصح التطهر بماء الورد وماء الباقلا ؛ لأنه ماء بل اقتصر على الماء المطلق فكذلك الحكم في التيمم يجب تخصيصه بالتراب المطلق ، وهو تراب الأرض المذكور في الحديث .

                                                            وأما ما ذكره ابن دقيق العيد من أنه اعترض بكون التربة ليست مرادفة للتراب فهو ممنوع فقد ذكر الهروي في العرنيين وابن الأثير في النهاية وغيرهما أن التراب والتربة واحد وأيضا ففي حديث حذيفة عند البيهقي وجعل ترابها لنا طهورا وهي من رواية أبي مالك الأشجعي عن ربعي عن حذيفة كما هو عند مسلم وذكر أبو عمرو بن الصلاح في علوم الحديث أن هذه الزيادة تفرد بها أبو مالك سعد بن طارق الأشجعي وسائر الروايات لفظها وجعلت لنا الأرض مسجدا وطهورا قلت ولم ينفرد بها أبو مالك مطلقا وإنما تفرد بها في حديث حذيفة .

                                                            وقد رواها غيره من حديث علي من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء فقلت : ما هو يا رسول الله فذكر الحديث وفيه وجعل لي التراب طهورا رواه أحمد في مسنده ، والبيهقي أيضا في سننه وإسناده حسن فتبين أن المراد التراب وأنه مرادف للتربة .

                                                            وأما قول من اعترض بأنه مفهوم لقب فإن القرينة ، والسياق في حديث حذيفة يدلان على أن حكم التيمم بها مخالف للصلاة عليها فإنه فرق بين اللفظين فقال وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا فلو اشترك الأمران في جميع الأرض لما فرق بين اللفظين وأكد الصلاة عليها بقوله كلها وأورد الفعل على التربة كما عند مسلم وعلى التراب كما عند البيهقي ولو استويا لقال مسجدا وطهورا كما في حديث أبي هريرة ، وقد أشار ابن دقيق العيد إلى هذا الجواب .

                                                            وأما الاعتراض بكون [ ص: 109 ] دلالة المنطوق مقدمة على المفهوم فقد أجاب عنه ابن دقيق العيد بأنه يمنع هذه الأولوية ما قالوه من أن المفهوم يخصص العموم قال ، وقد أشار بعضهم إلى خلاف في هذه القاعدة أعني تخصيص المفهوم للعموم .



                                                            (السابعة) استدل به القرطبي على أن التيمم يرفع الحدث ؛ لأنه سوى بين الأرض ، والماء في قوله طهورا وهي من بنية المبالغة كقتول وضروب ، وهو أحد القولين لمالك والشافعي أيضا ، والمشهور عن مالك أنه لا يرفع الحدث ، وهو القول الجديد الصحيح عن الشافعي وفي الاستدلال به نظر (الثامنة) قد يحتج أيضا بصيغة طهور من يرى التيمم ثانيا بالتراب المستعمل فيه ، وهو أحد الوجهين لأصحابنا ؛ لأن صيغة فعول دالة على التكرار كما قالوا في الماء والأصح كما قال الرافعي أنه لا يصح التيمم به ثانيا ، والمستعمل هو ما لصق من التراب بالوجه ، واليدين في حال التيمم .

                                                            وأما ما تناثر ففيه وجهان أصحهما أنه مستعمل كالمتقاطر من الماء (التاسعة) قال ابن دقيق العيد أخذ منه بعض المالكية أن لفظة طهور تستعمل لا بالنسبة إلى الحدث ولا الخبث ، وقال : إن الصعيد قد سمي طهورا وليس عن حدث ولا عن خبث ؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث هذا .

                                                            ومعناه جعل ذلك جوابا عن استدلال الشافعية على نجاسة فم الكلب بقولة عليه السلام : طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبعا فقالوا : طهور يستعمل إما عن حدث أو خبث ولا حدث على الإناء بالضرورة فتعين أن يكون عن خبث فمنع هذا المالكي المجيب الحصر وقال : إن لفظة طهور تستعمل في إباحة الاستعمال كما في التراب إذ لا يرفع الحدث كما قلنا فيكون قولة : طهور إناء أحدكم مستعملا في إباحة استعماله أعني الإناء قال ابن دقيق العيد في هذا : عندي نظر فإن التيمم وإن قلنا لا يرفع الحدث لكنه عن حدث أي الموجب لفعله الحدث وفرق بين قولنا : إنه عن حدث وبين قولنا : إنه يرفع الحدث .



                                                            (العاشرة) فيه أن التيمم لم يرخص فيه لأحد من الأمم السالفة وكذلك الصلاة في جميع الأرض وإنما هو خصوصية خص الله به هذه الأمة تخفيفا عنها ورحمة بها ، وهو كذلك فله الفضل ، والمن ، وقد تقدم وجه التخصيص في الفائدة الثالثة [ ص: 110 ] الحادية عشر) في حديث أبي هريرة عند مسلم فضلت على الناس بست . الحديث .

                                                            وقد تقدم في الفائدة الأولى وفي حديث جابر المتفق عليه أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة لفظ البخاري .

                                                            وقال مسلم في روايته وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا وقدم بعض الخصائص على بعض .

                                                            وفي حديث حذيفة عند مسلم فضلنا على الناس بثلاث الحديث ، وقد تقدم في الفائدة السادسة ولأحمد ، والبيهقي من حديث علي بن أبي طالب أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء فقلنا ما هو يا رسول الله فقال : نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض وسميت أحمد وجعل لي التراب طهورا وجعلت [ ص: 111 ] أمتي خير الأمم فجعلها في حديث ستا وفي آخر خمسا وفي آخر ثلاثا وأطلق في آخر وسمى فيه ما ليس مسمى فيما ذكر أعداده .

                                                            وأجاب عن ذلك القرطبي بأن ذكر الأعداد لا يدل على الحصر قال : ويجوز أن يكون أعلم في وقت بالثلاث وفي وقت بالخمس وفي وقت بالست والله أعلم انتهى .

                                                            فحصل من مجموع الأحاديث إحدى عشرة خصلة تقدم منها عشرة وهي إعطاؤه جوامع الكلم ونصره بالرعب وإحلال الغنائم وجعل الأرض مسجدا وطهورا وإرساله إلى الخلق كافة وختم الأنبياء به وجعل صفوف أمته كصفوف الملائكة وإعطاؤه الشفاعة وتسميته بأحمد وجعل أمته خير الأمم ، والحادية عشر إيتاؤه خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش رواه النسائي وسياتي في الفائدة التي تليها .



                                                            (الثانية عشر) دل حديث أبي هريرة عند مسلم أن جعل الأرض له مسجدا وجعلها طهورا خصلة واحدة ودل حديث حذيفة المتقدم أنهما خصلتان ، والجمع بينهما أنهما خصلة واحدة ، وأما حديث حذيفة فإنه وإن فضلها وسماها واقتضى كون هاتين خصلتين فإن مسلما قال في حديث آخر حديث حذيفة وذكر خصلة أخرى فاقتضى ذلك أنه لم يذكر إلا خصلتين ولم يسم الثالثة .

                                                            وقد سماها النسائي في روايته لحديث حذيفة في سننه الكبرى فقال وأوتيت هذه الآيات من خواتم سورة البقرة من كنز تحت العرش ولم يعطهن أحد قبلي ولا يعطاهن أحد بعدي ، وكذا سماها البيهقي في رواية له فقال : وأعطيت هذه الآية من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعط أحد منه قبلي ولا يعطى منه أحد بعدي .

                                                            (الثالثة عشر) في بيان الخصائص المذكورة في مجموع هذه الأحاديث أما جوامع الكلم فهو جمع المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة واختلف في المراد به فقيل المراد به القرآن قاله الهروي وقيل المراد به كلامه صلى الله عليه وسلم فإنه كذلك كان .

                                                            وأما النصر بالرعب فهو أن الله تعالى كان يقذف الرعب في قلوب أعدائه لتخذيلهم وورد في بعض طرقه أنه كان يسير الرعب بين يديه شهرا معناه أنه كان إذا توجه إلى وجه من الأرض ألقى الله الرعب على من أمامه إلى مسيرة شهر .

                                                            وأما إحلال الغنائم فسيأتي في الجهاد إن شاء الله تعالى وتقدم جعل الأرض طهورا ومسجدا [ ص: 112 ] وأما إرساله إلى الخلق كافة فيشهد له قوله تعالى وما أرسلناك إلا كافة للناس قال ابن دقيق العيد : ولا يعترض على هذا بأن نوحا عليه السلام بعد خروجه من الفلك كان مبعوثا إلى كل أهل الأرض ؛ لأنه لم يبق إلا من كان مؤمنا معه ، وقد كان مرسلا إليهم ؛ لأن هذا العموم في الرسالة لم يكن في أصل البعثة وإنما وقع لأجل الحادث الذي حدث ، وهو انحصار الخلق في الموجودين بهلاك سائر الناس .

                                                            وأما نبينا صلوات الله عليه وسلامه فعموم رسالته في أصل البعثة ثم ذكر احتمالين في أنه يجوز أن تكون البعثة في حق بعض الأنبياء عامة بالنسبة إلى التوحيد لا إلى الفروع . وأما كونه ختم به النبيون فمعناه أن الله تعالى لا يبعث بعده نبيا .

                                                            وأما نزول عيسى ابن مريم في آخر الزمان فإنه ينزل بتقرير شريعته ملتزما لأحكامها ، وكذلك من يقول من العلماء بنبوة الخضر وأنه باق إلى اليوم فهو تابع لأحكام هذه الملة وكذلك إلياس أيضا على ما صححه أبو عبد الله القرطبي أنه حي أيضا ولم يصح في حياتهما ولا في التنصيص على وفاتهما حديث إلا قوله أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة لا يبقى أحد ممن هو على وجه الأرض فاستدل به البخاري على موت الخضر والله أعلم .

                                                            وأما ما ذهب إليه بعض من ينتسب إلى الصوفية من أن النبوة مكتسبة وأنه يجوز أن يتخذ الله بعد نبينا نبيا آخر فهذا قول منابذ للشريعة ومخالف لإجماع الأمة ، والأحاديث الصحيحة المشتهرة ، وقائل هذا يبعد أن يعد من هذه الأمة وإنما هم زنادقة يتسترن بزي بعض أهل الطوائف .

                                                            وأما جعل صفوف أمته كصفوف الملائكة فالمراد به إتمام الصفوف الأول في الصلاة كما ثبت في الحديث الصحيح عند مسلم من حديث جابر بن سمرة قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها ؟ فقلنا : يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربها قال يتمون الصف الأول ويتراصون في الصف وهذا أيضا من خصائص هذه الأمة ، وكانت الأمم المتقدمة يصلون منفردين كل واحد على حدة ولما أراد الله تعالى حصول هذه الفضيلة للأنبياء المتقدمين جمعهم فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ليلة الإسراء كما رواه النسائي من حديث أنس في قصة الإسراء وفيه ثم دخلت بيت المقدس فجمع لي الأنبياء [ ص: 113 ] عليهم السلام فقدمني جبريل حتى أممتهم الحديث ورويناه في معجم أبي يعلى الموصلي من حديث أم هانئ في قصة الإسراء وفيه فيسر لي رهط من الأنبياء فيهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام فصليت بهم وكلمتهم الحديث وفي حديث آخر لأبي هريرة ، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فحانت الصلاة فأممتهم الحديث .

                                                            وأما تخصيصه بالشفاعة فالمراد الشفاعة العامة التي تكون في الحشر عندما يفزع الناس للأنبياء فكلهم يقول لست لها حتى يأتوا نبينا صلى الله عليه وسلم فيقول : أنا لها كما ثبت في الصحيحين فأما الشفاعة الخاصة فقد ثبتت لغيره من الأنبياء ، والملائكة ، والمؤمنين قال القاضي عياض : وقيل المراد بتخصيصه بالشفاعة الشفاعة التي لا ترد ، وقد تكون شفاعته بإخراج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان من النار ؛ لأن الشفاعة لغيره إنما جاءت قبل هذا وهذه مختصة به كشفاعة المحشر وذكر قبل هذا أن الشفاعة خمسة أقسام : شفاعة الحشر وهي الأولى لتعجيل الحساب وهي مختصة بنبينا ، والثانية الشفاعة لإدخال قوم الجنة بغير حساب وهي أيضا مختصة به ، والثالثة الشفاعة لقوم استوجبوا النار فيشفع فيها هو ومن شاء الله .

                                                            والرابعة الشفاعة فيمن دخل النار من الموحدين المذنبين فيشفع لهم هو وغيره من الملائكة ، والمؤمنين .

                                                            والخامسة الشفاعة لزيادة الدرجات في الجنة لأهلها ، وقد أنكر بعض الخوارج وبعض المعتزلة الشفاعة لرأيهم في خلود الموحدين في النار ولكنهم لا ينكرون الشفاعة الأولى ولا الخامسة أيضا وهم محجوجون بكتاب الله وسنة رسوله التي يبلغ مجموعها مبلغ التواتر ، وإجماع من يعتد بإجماعه من أهل السنة ، والجماعة ، وأما تسميته بأحمد فلم يسم به أحد قبله قال القاضي عياض في الشفا : فمنع الله بحكمته أن يسمى به أحد غيره ولا يدعى به مدعو قبله لئلا يدخل لبس على ضعيف القلب أو شك ، وهو اسمه الذي بشرت به الأنبياء وأتى في الكتب قال وكذلك محمد أيضا لم يسم به أحد من العرب وغيرهم إلى أن شاع قبيل وجوده عليه السلام وميلاده أن نبيا يبعث اسمه محمد فسمى قوم من العرب قليل أبناءهم بذلك رجاء أن يكون أحدهم هو والله أعلم [ ص: 114 ] حيث يجعل رسالته وهم محمد بن أحيحة بن الجلاح الأوسي ومحمد بن مسلمة الأنصاري ومحمد بن براء البكري ومحمد بن سفيان بن مجاشع ومحمد بن حمران الجعفي ومحمد بن خزاعي السلمي لا سابع لهم قال ثم حمى الله كل من تسمى به أن يدعي النبوة أو يدعيها له أحد حتى حققت السمتان له ولم ينازع فيهما .

                                                            قلت : وتسميته محمد بن مسلمة الأنصاري فيهم ليس بجيد فإنه ولد بعد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث عشرة سنة .

                                                            وأما جعل أمته خير الأمم هو كما قاله الله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس ومن فضلها أنها أول الأمم دخولا الجنة وأول من يقضى لهم يوم القيامة وكل ما ذكر من شرف أمته فهو من شرفه صلى الله عليه وسلم .

                                                            وأما إعطاؤه خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش فمعناه أنها ذخرت له وكنزت له فلم يؤتها أحد قبله ، وذلك أن كثيرا من آي القرآن منزل في الكتب السابقة ما هو باللفظ وما هو بالمعنى وهذه الآيات لم يؤتها أحد وإن كان فيه أيضا ما لم يؤته غيره إلا أن في هذه الآيات خصوصية لهذه الأمة ، وهو وضع الإصر الذي كان على الأمم المتقدمة فقال تعالى : ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا فناسب ذكرها من الخصائص .

                                                            ولهذه الأمة خصائص أخرى متفرقة في الأحاديث لم تجمع ، منها الغرة ، والتحجيل من أثر الوضوء كما ثبت في الصحيح بقوله لكم سيما ليست لأحد غيركم ومنها طيب رائحة خلوف فم الصائم كما رواه أحمد في مسنده وغير ذلك مما يطول به هذا الموضع وهذه من خصائصه وخصائص أمته بالنسبة إلى الأمم المتقدمة ، وأما خصائصه بالنسبة إلى أمته فكثيرة أفردها العلماء بالتأليف والله أعلم .



                                                            (الرابعة عشر) وقوله في حديث جابر عند مسلم وجعلت لنا الأرض طيبة طهورا ومسجدا المراد بالطيبة الطاهرة وبه فسر قوله تعالى صعيدا طيبا أي طاهرا وفي الحديث : إن الأصل في الأشياء الطهارة حتى تتحقق النجاسة ، وإن غلبت النجاسة كالشوارع ونحوها ، وهو القول الصحيح فيما تعارض فيه الأصل ، والظاهر ، وقد تقدم أن الأمم المتقدمة كانوا لا يصلون إلا على أرض يتحققون طهارتها وخفف عن هذه الأمة فأبيح لهم أن يصلوا على ما لا يتحققون نجاسته والله أعلم .

                                                            (الخامسة عشر) ، وقد يستدل بقوله في حديث حذيفة عند مسلم وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء من لا يرى التيمم عند شدة [ ص: 115 ] البرد وإن خاف التلف ، وهو قول عطاء بن أبي رباح فقال : يغتسل وإن مات ولذا قال الحسن نحوا من قول عطاء حكاه الخطابي عنهما وخالفهما في ذلك عامة العلماء بحديث عمرو بن العاص في خوفه من البرد وتيممه في غزوة ذات السلاسل واستدلاله بقوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم ولم يقل له رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا .

                                                            رواه أبو داود ، وهو قول سفيان وأبي حنيفة ومالك والشافعي إلا أبا يوسف ومحمد بن الحسن لم يجيزا ذلك في الحضر وأوجب الشافعي القضاء على المتيمم لخوف البرد لكونه ليس عذرا عاما سواء كان في الحضر أو السفر وقيل لا يقضى في السفر والله أعلم .




                                                            الخدمات العلمية