الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فأركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا ولك الحمد وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون زاد مسلم في رواية وإذا صلى قائما فصلوا قياما وفي رواية لا تبادروا الإمام وفيها وإذا قال ولا الضالين فقولوا آمين وفي رواية له فلا ترفعوا قبله

                                                            التالي السابق


                                                            [ ص: 327 ] (الحديث الثاني) وعن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون .

                                                            فيه فوائد :

                                                            (الأولى) استدل به على أنه يمتنع اقتداء المفترض بالمتنفل لاختلاف نيتهما ويكون المراد به ليؤتم به في الأفعال والنيات فلا تختلفوا عليه أي في شيء من ذلك وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وآخرون وهو رواية عن أحمد وقال الشافعي وأحمد في المشهور عنه وآخرون معناه في الأفعال الظاهرة دون النيات فإنه لا اطلاع لأحد عليها فيجوز أن يصلي الفرض خلف النفل وعكسه والظهر خلف العصر وعكسه ويدل على ذلك أنه عقبه بذكر الأفعال الظاهرة حيث قال فإذا كبر فكبروا إلى آخره ويدل للشافعي وموافقيه حديث معاذ أنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع فيصلى بقومه وقد ذكره [ ص: 328 ] الشيخ رحمه الله في باب القراءة في الصلاة تكلم على هذه المسألة هناك بما أغنى عن إعادته هنا .



                                                            (الثانية) استدل به أيضا على أنه لا يجوز أن يتقدم المأموم على الإمام في الموقف لأنه إذا تقدم عليه فهو حينئذ غير مؤتم به وبهذا قال الشافعي والثوري والكوفيون وجوزه مالك والليث وطائفة وأجابوا عن الحديث بأن المراد الائتمام به في الأفعال لا في الموقف وهو تقييد لا دليل عليه وقد أنكروا على الشافعية تقييد الائتمام بالأفعال الظاهرة وقيدوه هنا ثم إن إخراج الشافعية النيات عن ذلك ساعده كونه بين في الحديث ما أمر بالائتمام به فيه فلم يذكر من ذلك النيات وأن النيات لا يمكن الأمر بالمتابعة فيها لكونه لا يطلع عليها وأما إخراج المالكية الموقف عن ذلك فهم مطالبون بالدليل عليه .



                                                            (الثالثة) قد يستدل به على أنه لا تتوقف صحة صلاة المأموم على صحة صلاة الإمام إذا بان جنبا أو محدثا أو عليه نجاسة لكونه حضر الإمام في الاقتداء به فدل على أنه لا يعتبر فيه أمر آخر سوى ذلك والاقتداء به في هذه الصور ممكن مع الجهل بحاله وبهذا صرح أصحابنا وقيد الرافعي في المحرر النجاسة بالخفية وفي النجاسة الظاهرة احتمال للإمام وقال بعض أصحابنا إنما يصح الاقتداء إذا لم يعلم هو بحدث نفسه فإن علم ففيه قولان أما إذا علم المأموم بحدث الإمام ثم نسيه فاقتدى به فعليه الإعادة لتفريطه .

                                                            وإذا صححنا الاقتداء بالإمام المحدث حصل للمأموم الجماعة على الأصح لأنه ائتم بإمام يظنه متطهرا فلا يضر كونه في الباطن محدثا أما إذا ظهر الإمام كافرا أو امرأة أو خنثى أو مجنونا فإنه تجب الإعادة خلافا للمزني في الكافر وصحح البغوي وجماعة أنه إن كان يسير الكفر لم تجب الإعادة وهو أقوى دليلا كما قال النووي .



                                                            (الرابعة) استدل البخاري بقوله إذا كبر فكبروا على إيجاب تكبير الإحرام فبوب عليه باب إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة فرد بذلك على من يقول من السلف أنه يجوز الدخول في الصلاة بغير لفظ بل بالنية فقط وعلى أبي حنيفة في قوله أنه يجوز الدخول في الصلاة بكل لفظ يدل على التعظيم ولا يختص ذلك بالتكبير وقد يقال أن في دلالته على ذلك نظر لأن غاية ما دل عليه الأمر بمتابعة الإمام في التكبير فأما كون التكبير واجبا أو غير [ ص: 329 ] واجب فليس في الحديث ما يدل عليه ولا شك أن قوله فإذا كبر فكبروا يتناول تكبيرات الانتقالات أيضا وهي غير واجبة قطعا .

                                                            وقد ذكر في الحديث قول المأموم ربنا لك الحمد عند قول الإمام سمع الله لمن حمده وهما غير واجبين ثم لو كانت جميع الأمور المذكورة فيه واجبة لم يدل ذلك عليه أن التكبير واجب لضعف دلالة الاقتران كما تقرر في الأصول .



                                                            (الخامسة) استدل به على أن أفعال المأموم تكون متأخرة عن أفعال الإمام فيكبر للإحرام بعد فراغ الإمام من التكبير ويركع بعد شروع الإمام في الركوع وقبل رفعه منه وكذا سائر الأفعال وبهذا صرح أصحابنا فقالوا إن قارنه في تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته أو في غيره من الأفعال فهو مكروه وتفوت به فضيلة الجماعة وفي المقارنة في السلام وجهان أصحهما أنه لا يبطل به الصلاة وقال ابن بطال اختلف العلماء هل يكون عمل المأموم والإمام معا أو بعده ؟

                                                            فقال ابن حبيب قال مالك ويفعل المأموم مع الإمام إلا في الإحرام والقيام من اثنتين والسلام فلا يفعله إلا بعده وروى سحنون عن ابن القاسم في العتبية إن أحرم معه أجزأه وبعده أصوب وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة وفي المجموعة عن مالك إن أحرم معه أو سلم يعيد الصلاة قاله أصبغ وقال ابن أبي زيد والعمل بعده في كل شيء أحسن لقوله عليه الصلاة والسلام إذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا .

                                                            وقال أبو حنيفة وزفر ومحمد والثوري يكبر في الإحرام مع الإمام وقال أبو يوسف والشافعي لا يكبر المأموم حتى يفرغ الإمام من التكبير وتوجيه قول من جوز تكبيره معه أن الائتمام معناه الامتثال لفعل الإمام فهو إذا فعل مثل فعله فسواء أوقعه معه أو بعده فقد حصل ممتثلا لفعله انتهى .

                                                            وذكر ابن حزم أنه متى فارق الإمام في شيء من الأفعال بطلت صلاته انتهى .

                                                            ووجه الدليل من الحديث على تأخر أفعال المأموم عن أفعال الإمام أنه رتب فعله على فعل الإمام بالفاء المقتضية للترتيب والتعقيب كذا ذكر ابن بطال والشيخ تقي الدين في شرح العمدة .

                                                            وفيه نظر فإن الفاء المقتضية للتعقيب هي العاطفة أما الواقعة في جواب الشرط فإنما هي للربط والظاهر أنه لا دلالة لها على التعقيب على أن في دلالتها على التعقيب مذهبين حكاهما الشيخ أبو حيان الأندلسي في شرح التسهيل ولعل أصلها أن الشرط [ ص: 330 ] مع الجزاء أو متقدم عليه وهذا يدل على أن التعقيب إن قلنا به فليس من الفاء وإنما هو من ضرورة تقدم الشرط على الجزاء والله أعلم .

                                                            قال والدي رحمه الله في شرح الترمذي فإن قيل قد قلتم في قوله عليه الصلاة والسلام إذا أمن الإمام فأمنوا .

                                                            أن المستحب أن يؤمن مع الإمام مقارنا له مع كونه بالفاء أيضا في جواب الشرط كما في هذا الحديث فالجواب أن الذي صرفنا عن التعقيب هنا قوله صلى الله عليه وسلم إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين فعقب قول الإمام ولا الضالين بتأمين المأموم وهو محل تأمين الإمام وصرفنا من القول بمثل هذا في حديث الباب قوله في حديث أبي هريرة عند أبي داود فإذا كبر فكبروا ولا تكبروا حتى يكبر وكذا قال في الركوع ولا تركعوا حتى يركع وقال في السجود ولا تسجدوا حتى يسجد وفائدة هذه الزيادة عند أبي داود نفي احتمال إرادة المقارنة انتهى .



                                                            (السادسة) استدل به على أنه يستحب للإمام الجهر بقوله سمع الله لمن حمده لأنه رتب عليه قول المأمومين ربنا ولك الحمد فدل على أنه يجهر به بحيث يسمعه المأموم وبهذا صرح أصحابنا وغيرهم (السابعة) واستدل به من ذهب إلى أن الإمام يقتصر على قوله سمع الله لمن حمده وأن المأموم يقتصر على قوله ربنا لك الحمد وهو مذهب مالك وأبي حنيفة .

                                                            وفيه قول ثان أن الإمام يجمع بينهما والمأموم يقتصر على قوله ربنا لك الحمد وهو قول أحمد بن حنبل وأبي يوسف ومحمد كما حكاه عنهما صاحب الهداية وإنهما قالا في قوله سمع الله لمن حمده أن الإمام يقولها في نفسه وهو قول في مذهب مالك أيضا حكاه ابن شاس في الجواهر أعني جمع الإمام بينهما واقتصار المأموم على قوله ربنا لك الحمد وفيه قول ثالث وهو جمع الإمام والمأموم بين اللفظين معا فقوله سمع الله لمن حمده ذكر الانتقال وقوله ربنا لك الحمد ذكر الاعتدال لأنه عليه الصلاة والسلام جمع بينهما وقال صلوا كما رأيتموني أصلي .

                                                            وغاية ما في حديث الباب السكوت عن قول المأموم سمع الله لمن حمده وعن قول الإمام ربنا ولك الحمد فيستفاد ذلك من دليل آخر فأما جمع الإمام بينهما ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة [ ص: 331 ] يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع ثم يقول سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركعة ثم يقول وهو قائم ربنا ولك الحمد وفي الصحيحين عن أبي هريرة أيضا قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال سمع الله لمن حمده قال اللهم ربنا لك الحمد .

                                                            وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن أبي أوفى قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد .

                                                            وفي الباب أحاديث أخر وفي هذه كفاية وقد ورد في جمع المأموم بينهما أحاديث في إسنادها ضعف فنذكرها مع أن الاعتماد على قوله صلى الله عليه وسلم صلوا كما رأيتموني أصلي فروى الدارقطني في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سمع الله لمن حمده قال من وراءه سمع الله لمن حمده قال الدارقطني والمحفوظ بهذا الإسناد إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فليقل من وراءه ربنا لك الحمد وروى الدارقطني والبيهقي في الخلافيات عن بريدة قال قال لي النبي صلى الله عليه وسلم يا بريدة إذا رفعت رأسك من الركوع فقل سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد وهذا عام في جميع أحواله إماما كان أو مأموما أو منفردا قال البيهقي فيه جابر الجعفي لا يحتج به ومن دونه أكثرهم ضعفا وقال ابن المنذر اختلفوا في المأموم إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقالت طائفة يقول سمع الله لمن حمده اللهم ربنا ولك الحمد كذلك قال محمد بن سيرين وأبو بردة والشافعي وإسحاق ويعقوب ومحمد وقال عطاء يجمعهما مع الإمام أحب إلي وقالت طائفة إذا قال سمع الله لمن حمده فليقل من خلفه ربنا ولك الحمد هذا قول عبد الله بن مسعود وابن عمر وأبي هريرة والشعبي وبه قال مالك وقال أحمد إلى هذا انتهى أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن المنذر وبه أقول (قلت) لم يحك صاحب الهداية عن أبي يوسف ومحمد أن الجمع بينهما في حق المأموم وإنما حكى عنهما الجمع بينهما في حق الإمام وهو أعرف بمذهبه .

                                                            وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن علي أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع قال سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد بحولك وقوتك أقوم وأقعد

                                                            وروى [ ص: 332 ] البيهقي عن سعيد بن أبي سعيد أنه سمع أبا هريرة وهو إمام للناس في الصلاة يقول سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد الله أكبر يرفع بذلك صوته ويتابعه معا وعن محمد بن سيرين فإذا قال الإمام سمع الله لمن حمده قال من خلفه سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد قال وروى ابن أبي بردة بن أبي موسى أنه كان يقول خلف الإمام سمع الله لمن حمده وقال عطاء يجمعهما مع الإمام أحب إلي وحكى بعضهم عن القاضي مجلي أنه قال في الذخائر ادعى ابن المنذر أن الشافعي خرق الإجماع في جمع المأموم بين سمع الله لمن حمده وربنا لك الحمد وليس كذلك فقد قال بقوله عطاء بن أبي رباح وابن سيرين وإسحاق وغيرهم قلت

                                                            وفي هذا النقل عن ابن المنذر نظر فقد عرفت أنه في الإشراف حكى ذلك عن غير الشافعي كما تقدم ومعنى حديث الباب على مذهب الشافعي إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده في انتقاله فقولوا ربنا لك الحمد في اعتدالكم بل نزيد على هذا ونقول إن في الحديث دلالة على أن المأموم يقول سمع الله لمن حمده من قوله إنما الإمام ليؤتم به والله أعلم .

                                                            وأما المنفرد فقال الشافعي يجمع بينهما كالإمام والمأموم فكل مصل كذلك وبه قال ابن حزم الظاهري وعزاه لطائفة من السلف الصالح وممن قال يجمع المنفرد بينهما مالك وأحمد بن حنبل وإن ما يقولان ذلك في المأموم وقال صاحب الهداية من الحنفية والمنفرد يجمع بينهما في الأصح وإن كان يروى الاكتفاء بالتسميع ويروى بالتحميد انتهى .

                                                            وقال ابن عبد البر لا أعلم خلافا في جمع المنفرد بينهما .



                                                            (الثامنة) في هذه الرواية ربنا لك الحمد بغير واو وفي حديث أنس المذكور بعده ولك الحمد بإثبات الواو قال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة كأن إثبات الواو دال على معنى زائد لأنه يكون التقدير ربنا استجب أو ما قارب ذلك ولك الحمد فيكون الكلام مشتملا على معنى الدعاء ومعنى الخبر وإذا قيل بإسقاط الواو دل على أحد هذين انتهى وإسقاط الواو قد حكي عن الشافعي حكاه عنه ابن قدامة وقال لأن الواو للعطف وليس هنا شيء هنا يعطف عليه وعن مالك وأحمد في ذلك خلاف روى ابن القاسم عن مالك أن الأفضل إثباتها وروى عن علي بن زياد أن [ ص: 333 ] الأفضل إسقاطها وهي رواية ابن وهب .

                                                            وقال ابن عبد البر قال الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يثبت الواو في ربنا ولك الحمد وقال روى الأزهري فيه ثلاثة أحاديث أحدها عن أنس والثاني عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة والثالث عن سالم عن أبيه يعني حديث رفع اليدين وقال في حديث علي الطويل ربنا ولك الحمد بالواو ونقل فيه ابن قدامة خلافا عن أحمد وقال النووي كلاهما جاءت به روايات كثيرة والمختار أنه على وجه الجواز وإن الأمرين جائزان ولا ترجيح لأحدهما على الآخر .



                                                            (التاسعة) قوله وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون كذا في هذه الرواية وكذا هو في صحيح البخاري وهو تأكيد للضمير في قوله فصلوا ورواه بعضهم أجمعين وهو تأكيد للحال وهو قوله جلوسا (العاشرة) استدل به على أن الإمام إذا صلى قاعدا لعذر صلى المأمومون وراءه قعودا وإن لم يكن بهم مانع يمنعهم من القيام وهو مذهب أحمد بن حنبل وقال كذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم وفعله أربعة من الصحابة وقال الترمذي ذهب إليه بعض الصحابة منهم جابر بن عبد الله وأسيد بن حضير وأبو هريرة وغيرهم ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن هؤلاء الثلاثة .

                                                            وعن قيس بن قهد بالقاف قال كان لنا إمام فمرض فصلينا بصلاته قعودا وهو الصحابي الرابع الذي عناه الإمام أحمد وقال ابن المنذر بعد حكايته هذا المذهب عن الصحابة الثلاثة الأولين وحكايته كلام أحمد الرابع وهو في الخبر الذي رويناه عن قيس بن مهران أن إماما لهم اشتكى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يؤمنا جالسا ونحن جلوس انتهى .

                                                            وكذلك رواه عبد الرزاق في مصنفه إلا أنه قال قيس بن قهد وهذا يدل على أن ابن المنذر فهم أن الصحابي هو الذي كان إماما في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في رواية ابن أبي شيبة أن هذا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون الصحابي قيس بن قهد ويجتمع من مجموع هذا خمسة من الصحابة وذكر ابن بطال أن عبد الرزاق .

                                                            رواه عن أنس بن مالك فهو صحابي سادس وحكاه ابن حبان عن الصحابة المذكورين سوى أنس وعن أبي الشعثاء جابر بن زيد من التابعين وعن مالك بن أنس وسليمان بن داود الهاشمي وأبي خيثمة وابن أبي شيبة ومحمد بن إسماعيل ومن تبعهم من أصحاب الحديث مثل محمد بن نصر المروزي [ ص: 334 ] ومحمد بن إسحاق بن خزيمة .

                                                            (قلت) ولم أر من حكاه عن مالك سواه ثم قال ابن حبان وهو عندي ضرب من الإجماع الذي أجمعوا على إجازته لأن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أفتوا به والإجماع عندنا إجماع الصحابة ولم يرو عن أحد من الصحابة خلاف لهؤلاء الأربعة لا بإسناد متصل ولا منقطع فكأن الصحابة أجمعوا على أن الإمام إذا صلى قاعدا كان على المأمومين أن يصلوا قعودا وقد أفتى به من التابعين جابر بن زيد أبو الشعثاء ولم يرو عن أحد من التابعين أصلا خلافه لا بإسناد صحيح ولا واه فكأن التابعين أجمعوا على إجازته وأول من أبطل صلاة المأموم قاعدا إذا صلى إمامه جالسا المغيرة بن مقسم صاحب النخعي وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان ثم أخذ عن حماد أبو حنيفة وتبعه عليه من تبعه من أصحابه ثم ذكر ابن حبان أن هذا هو مذهب الشافعي لقوله إذا صح الحديث فهو مذهبي وهو مردود لأن الشافعي صرح بأن الناس في قصة مرضه عليه الصلاة والسلام كانوا قياما مع جلوسه وذكر أن ذلك في رواية إبراهيم عن الأسود عن عائشة .

                                                            فكيف يلزمه القول بالجلوس وكيف يجعل مذهبه وهو قد ذكر أنه منسوخ وبهذا المذهب قال إسحاق بن راهويه وابن المنذر وداود وأهل الظاهر قال ابن حزم وبهذا نأخذ إلا فيمن يصلي إلى جنب الإمام يذكر الناس ويعلمهم تكبير الإمام فإنه مخير بين أن يصلي قاعدا وبين أن يصلي قائما ثم قال وبمثل قولنا يقول جمهور السلف ثم حكاه عن الصحابة المتقدم ذكرهم ثم قال فهؤلاء أبو هريرة وجابر وأسيد وكل من معهم من الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير مسجده ولا مخالف لهم يعرف من الصحابة أصلا كلهم يرى إمامة الجالس للأصحاء ولم يرو عن أحد منهم خلاف لأبي هريرة وغيره في أن يصلي الأصحاء وراءه جلوسا .

                                                            قال وروينا عن عطاء أمر الأصحاء بالصلاة خلف القاعد وعند عبد الرزاق ما رأيت الناس إلا على أن الإمام إذا صلى قاعدا صلى من خلفه قعودا قال وهي السنة عن غير واحد وروينا عنعباس بن عبد العظيم العنبري قال سمعت عفان بن مسلم قال أتينا حماد بن زيد يوما وقد صلوا الصبح فقال إنا أحيينا اليوم سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا ما هي يا أبا إسماعيل ؟ قال كان [ ص: 335 ] إمامنا مريضا فصلى بنا جالسا فصلينا وراءه جلوسا انتهى .

                                                            فهذان مذهبان أحدهما جلوس المأموم مطلقا والثاني جلوسه إلا أن يكون مبلغا عن الإمام فيخير بين الجلوس والقيام وبه قال ابن حزم وهو غريب ضعيف كما سأذكره ووراء ذلك مذهبان آخران أحدهما أنه لا يجوز للقادر على القيام أن يصلي خلف القاعد إلا قائما وهو مذهب الحنيفة والشافعية وبه قال الثوري وأبو ثور وعبد الله بن المبارك وهو رواية الوليد بن مسلم عن مالك ولم يحك الترمذي في جامعه عن مالك سواه وحكاه الخطابي عن أكثر الفقهاء وحكاه النووي عن جمهور السلف وحكاه المنذري عن أكثر أهل العلم وأجابوا عن هذا الحديث بأنه منسوخ بصلاته عليه الصلاة والسلام في مرض موته قاعدا وأبو بكر رضي الله عنه والناس وراءه قياما .

                                                            قال الشافعي رضي الله عنه هذا ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منسوخ بسنته وهي ما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرضه الذي مات فيه جالسا والناس خلفه قياما قال وهي آخر صلاة صلاها بالناس بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم حتى لحق الله عز وجل .

                                                            وهذا لا يكون إلا ناسخا انتهى .

                                                            وقال الشافعي أيضا فإن قيل فقد ائتم أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم والناس بأبي بكر قيل الإمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مأموم علم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا ضعيف الصوت وكان أبو بكر قائما يسمع ويرى انتهى .

                                                            وقال البخاري في صحيحه قال الحميدي هذا منسوخ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرضه الذي مات فيه والناس خلفه قيام.

                                                            وقوله إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا هو في مرضه القديم ثم صلى بعد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم جالسا والناس خلفه قياما انتهى .

                                                            وأجاب المخالفون لهذا عنه بأجوبة أحدها أن أبا بكر رضي الله عنه كان هو الإمام والنبي صلى الله عليه وسلم مقتد به وقد ورد ذلك مصرحا به رواه النسائي والبيهقي وغيرهما لكن الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام ورواية مسلم في صحيحه صريحة في ذلك لأن لفظها من حديث عائشة فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر قالت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس جالسا وأبو بكر قائما يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر .

                                                            ولو صح أنه عليه الصلاة والسلام [ ص: 336 ] كان مقتديا بأبي بكر فهي صلاة أخرى غير التي اقتدى أبو بكر به فيها فقد كان مرضه عليه الصلاة والسلام اثني عشر يوما فيه ستون صلاة أو نحوها وقد أشار إلى ذلك الشافعي بقوله لو صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر مرة لم يمنع ذلك أن يكون صلى خلفه أبو بكر أخرى قال البيهقي وقد ذهب موسى بن عقبة في مغازيه إلى أن أبا بكر صلى من صلاة الصبح يوم الاثنين ركعة وهو اليوم الذي توفي فيه النبي صلى الله عليه وسلم فوجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة فخرج فصلى مع أبي بكر ركعة فلما سلم أبو بكر قام فصلى الركعة الأخيرة .

                                                            فيحتمل أن تكون هذه الصلاة مراد من روى أنه صلى خلف أبي بكر فأما الصلاة التي صلاها أبو بكر خلفه في مرضه فهي صلاة الظهر يوم الأحد أو يوم السبت كما روينا عن عائشة وابن عباس في بيان الظهر فلا يكون بينهما منافاة ويصح الاحتجاج بالخبر الأول قلت ويدل لهذا الاحتمال ما رواه النسائي عن أنس قال آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم صلى في ثوب واحد متوشحا خلف أبي بكر .

                                                            فذكر أن صلاته خلف أبي بكر آخر صلواته مع القوم وقال ابن حزم هما صلاتان متغايرتان بلا شك ثانيها قال الإمام أحمد ليس فيه حجة لأن أبا بكر كان ابتدأ الصلاة قائما وإذا ابتدأ الصلاة قائما صلوا قياما قال ابن قدامة فأشار أحمد إلى أنه يمكن الجمع بين الحديثين بحمل الأول على ما إذا ابتدأ الصلاة جالسا والثاني على ما إذا ابتدأ الصلاة قائما ثم اعتل فجلس قال ومتى أمكن الجمع بين الحديثين وجب ولم يحمل على النسخ انتهى .

                                                            وفي هذا تخصيص لما سبق نقله عن أحمد أن المأمومين يقعدون خلف الإمام القاعد بحمله على ما إذا كان ابتدأ الصلاة قاعدا فإن ابتدأها قائما ثم قعد استمروا قياما .

                                                            وفي هذا جمع بين الحديثين لكن إنما يقوى إذا ظهر لهذا الحمل وجه مناسب وإذا كان المقتضي للجلوس وراء الإمام الجالس متابعته في حالته التي هو عليها فلا فرق بين أن يجلس في ابتداء الصلاة أو في أثنائها ثم إنه يرده أن في حديث عائشة وجابر أنه عليه الصلاة والسلام أشار إلى أصحابه بالقعود بعد أن كانوا ابتدءوا الصلاة قياما . إلا أن يقال كانوا قد لزمهم الجلوس لجلوس إمامهم بخلاف قضية اقتدائهم بالصديق فإن إمامهم في ابتداء [ ص: 337 ] صلاته كان قائما فكان القيام لازما لهم فاستمروا عليه .

                                                            (ثالثها) قال ابن حزم الظاهري ليس فيه أن الناس غير أبي بكر كانوا قياما فلعلهم كانوا قعودا بل الظن بهم ذلك امتثالا لأمره المتقدم فلا يحل أن يظن بالصحابة مخالفة أمره هذا معنى كلامه قال وفي نص الحديث دليل بين على أنهم لم يصلوا إلا قعودا لأن فيه أن الناس كانوا يقتدون بصلاة أبي بكر ولو كانوا قياما لما اقتدى بصلاته إلا الصف الأول لأن بقية الصفوف يحجبهم عنه الصف الأول قال ثم لو كان في هذا الحديث نص أنهم صلوا قياما وهذا لا يوجد أبدا لما كان فيه دليل على النسخ بل هو إباحة فقط وبيان أن ذلك الأمر المتقدم ندب انتهى .

                                                            وفيه نظر من أوجه :

                                                            (أحدها) أن جميع الصحابة الذين كانوا مع أبي بكر رضي الله عنهم كانوا في أول صلاتهم قبل خروج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قياما بلا شك فمن زعم تغييرهم عن هذه الحالة فهو محتاج إلى دليل على ذلك بل الظاهر أنه لو وقع انتقالهم من القيام إلى القعود لنقل .

                                                            (الثاني) أنه قد ثبت صلاة القائم خلف الجالس بالتصريح بقيام أبي بكر رضي الله عنه خلف النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس وهذا كاف في الاستدلال بقيام المؤتم خلف الإمام الجالس لعذر ولا وجه لتخصيص أبي بكر بجواز القيام له وحده فالأصل استواء المكلفين في الأحكام إلى أن يرد نص دال على التخصيص .

                                                            (الثالث) أنه ورد التصريح بقيام الجميع خلفه ذكره الشافعي رحمه الله عقب حديثه عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة كما رواه البيهقي في المعرفة قال أخبرنا أبو عبد الله قال أخبرنا أبو العباس قال أخبرنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال وذكر إبراهيم النخعي عن الأسود عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر مثل معنى حديث عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قاعدا وأبو بكر قائما يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم وهم وراءه قيام فذكر الشافعي رواية إبراهيم النخعي هذه بصيغة الجزم وفيها التصريح بقيام المأمومين ولا يستجيز الشافعي ذكره بالجزم إلا مع صحة إسناده عنده والله أعلم .

                                                            (الرابع) استدلاله على قعودهم بأنهم لو كانوا قياما لما اقتدى به إلا الصف الأول ضعيف لأن [ ص: 338 ] الصف الأول مشاهد للنبي صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى الاقتداء بأبي بكر وأما بقية الصفوف فإنما يقتدون بصوت أبي بكر لا بمشاهدته وقد تقدم ذلك في قول الشافعي رحمه الله لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا ضعيف الصوت وكان أبو بكر قائما يرى ويسمع انتهى أي يراه البعض ويسمعه البعض وفي صحيح البخاري عن عائشة وأبو بكر يسمع الناس التكبير وفي صحيح مسلم عن جابر وأبو بكر يسمع الناس تكبيره .

                                                            (الخامس) قوله لا يحل أن يظن بالصحابة مخالفة أمره يقال له أخالف أفضل الصحابة أمره بصلاته قائما خلف الجالس أم لم يخالف ؟ ولا يمكنه أن يقول إنه خالف أمره وإذا كان لم يخالف فكذلك بقيتهم لم يخالفوا أمره بقيامهم بل استدلوا على القيام بقيام أبي بكر وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم له على القيام فإنه لم يأمر بالجلوس بخلاف الصلاة التي وقعت في مرضه القديم فإنه لما رآهم قياما أشار إليهم وهم في الصلاة فجلسوا هذا إن لم يكن عندهم دليل على النسخ قبل ذلك فقضية الصديق كافية في معرفة النسخ .

                                                            (السادس) قوله إنه لو ورد أنهم صلوا قياما لم يدل على النسخ بل هو بيان أن الأمر الأول كان على الندب كلام مردود وكيف يمكن أن يكون الأمر الأول على الندب مع تأكيده له بإشارته به وهو في الصلاة ثم تصريحه بذلك بعد سلامه ثم تشبيه فعلهم بفعل الكفرة المجوس فهذه كلها قرائن على أن النهي للتحريم . والفرض أن ابن حزم ممن يقول إنه على التحريم وإنه يحرم على بقية المأمومين غير المبلغ أن يقوم خلف الإمام الجالس ومتى ورد القيام بعد الأمر بالجلوس لا يكون إلا ناسخا .

                                                            (السابع) هذه المقالة التي ذهب إليها ابن حزم وهي الفرق بين المبلغ وغيره من المأمومين قول مخترع لم يسبق إليه والأكثرون من الأصوليين على امتناع ذلك فهذا الذي ذكرته من الجواب عن حديث الباب بأنه منسوخ هو الجواب المعتمد والاعتراضات عليه مردودة كما ذكرته (وأجاب) بعضهم عنه بحمل قوله عليه الصلاة والسلام وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا .

                                                            على أنه إذا كان في حالة الجلوس كالتشهد ونحوه فاجلسوا ولا تخالفوه بالقيام وكذلك قوله إذا صلى قائما فصلوا قياما أي إذا كان في حالة القيام فقوموا ولا تخالفوه بالقعود وحكاه ابن حبان في صحيحه عن بعض العراقيين ممن كان ينتحل مذهب الكوفيين [ ص: 339 ] فحرف الخبر عن عموم ما ورد فيه بغير دليل يثبت له على تأويله وكذا استبعده القاضي عياض والشيخ تقي الدين في شرح العمدة وقالا إنه ينافيه قوله في حديث عائشة فأشار إليهم أن اجلسوا وتعليله عليه الصلاة والسلام ذلك بموافقة الأعاجم في القيام على ملوكهم .

                                                            وسياق الحديث يرده وأجاب بعضهم عنه بأن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا أيضا ضعيف فالأصل عدم التخصيص فلا يصار إليه إلا بدليل (المذهب) الثاني وهو الرابع أنه لا تجوز صلاة القادر على القيام خلف القاعد لعذر لا قائما ولا قاعدا وهذا هو مذهب مالك المشهور عنه ومحمد بن الحسن وحكاه ابن بطال عن الثوري قال ابن حزم ما نعلم أحدا من التابعين قال ذلك إلا ما روي عن مغيرة بن مقسم أنه قال أكره ذلك قال وليس هذا منعا من جوازها قال ابن عبد البر واختلف أصحاب مالك في إمامة المريض بالمرضى جلوسا قال فأجازها بعضهم .

                                                            وهو قول جمهور الفقهاء وكرهها أكثرهم وهو قول ابن القاسم ومحمد بن الحسن انتهى .

                                                            وأجابوا عن الحديثين معا بأنهما منسوخان بقوله عليه الصلاة والسلام لا يؤمن أحد بعدي جالسا وبفعل الخلفاء بعده وأنه لم يؤم أحد منهم قاعدا وإن كان النسخ لا يمكن بعد النبي صلى الله عليه وسلم فمثابرتهم على ذلك تشهد بصحة نهيه عن إمامة القاعد بعده قال القاضي عياض .

                                                            وهذا أولى الأقاويل لأنه عليه الصلاة والسلام لا يصح التقدم بين يديه في الصلاة ولا غيرها لا لعذر ولا لغير عذر وقد نهى الله تعالى الذين آمنوا عن ذلك ولا يكون أحد شافعا له وقد قال أئمتكم شفعاؤكم .

                                                            ولذلك قال أبو بكر ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره إذا أصابه عذر قدم غيره ولم يكن ليقدمه مع نقص صلاته وهو يجد العوض لكن إمامة عبد الرحمن بن عوف به عليه الصلاة والسلام تعارض هذا وقول النبي صلى الله عليه وسلم لبلال حين أراد تأخيره دعه وصلاته خلفه ما أدركه .

                                                            وقد يقال في قضية عبد الرحمن بن عوف إنها مختصة عن هذا الأصل لبيان حكم القضاء بفعله عليه الصلاة والسلام لمن فاته من الصلاة شيء وإن تقدم النبي صلى الله عليه وسلم هنا من باب الأولى لا من باب الواجب وفي قضية عبد الرحمن من باب الواجب قال القاضي وقد [ ص: 340 ] قيل إن الحكمين منسوخان نسخ آخرهما الأول ثم نسخ الآخر بقوله لا يؤمن أحد بعدي جالسا انتهى .

                                                            وما ذكره القاضي عياض من أن هذه أولى الأقاويل مردود وقد رده صاحبهم القاضي أبو بكر بن العربي فقال بعد حكايته لقول مالك ولا جواب له عن حديث مرض النبي صلى الله عليه وسلم ولا لأحد من أصحابه مخلص عند السبك فالعمل بآخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى واتباع الأمر أصح وأحرى انتهى .

                                                            والحديث الذي استدلوا به ضعيف جدا رواه الدارقطني والبيهقي من حديث جابر بن يزيد الجعفي عن الشعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو مرسل وجابر بن يزيد ضعيف جدا وروي أيضا من رواية عبد الملك بن حبيب عمن أخبره عن مجاهد عن الشعبي ومجاهد ضعيف وفي السند إليه من لم يسم فلا يصح الاحتجاج به لا سيما مع معارضة الأحاديث الصحيحة التي لا مطعن فيها قال الشافعي قد علم الذي احتج بهذا أن ليست فيه حجة وأنه لا يثبت لأنه مرسل ولأنه عن رجل يرغب الناس عن الرواية عنه وقال الدارقطني لم يروه غير جابر الجعفي وهو متروك والحديث مرسل لا تقوم به حجة .

                                                            وقال البيهقي في المعرفة وهو مختلف فيه على جابر الجعفي فروي عنه هكذا ورواه إبراهيم بن طهمان عن جابر عن الحكم قال كتب عمر لا يؤمن أحد جالسا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهذا مرسل موقوف وراويه عن الحكم ضعيف وقال ابن حزم حديث الشعبي باطل لأن راويه جابر الجعفي الكذاب المشهور بالقول برجعة علي رضي الله عنه ومجاهد وهو ضعيف وهو مرسل مع ذلك وقال ابن عبد البر هو حديث لا يصح عند أهل العلم بالحديث إنما يرويه جابر الجعفي عن الشعبي وجابر الجعفي لا يحتج بما يرويه مسندا فكيف بما يرويه مرسلا ولما ذكر ابن العربي أن هذا الحديث لا يصح عقبه بقوله بيد أني سمعت بعض الأشياخ يقول إن الحال أحد وجوه التخصيص وحال النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك به وعدم العوض منه يقتضي الصلاة خلفه قاعدا وليس ذلك كله لغيره قال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة .

                                                            وقد عرف أن الأصل عدم التخصيص حتى يدل عليه دليل (قلت) وفي سنن أبي داود عن أسيد بن حضير أنه كان يؤمهم قال فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده فقالوا يا رسول الله إن إمامنا [ ص: 341 ] مريض فقال إذا صلى قاعدا فصلوا قعودا وتقدم من كلام ابن المنذر أن إماما اشتكى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يؤمهم وهو جالس وهم جلوس ورواه عبد الرزاق كما تقدم فهذان الحديثان يدلان على أن الإمامة جالسا لا تختص بالنبي صلى الله عليه وسلم قال الشيخ تقي الدين .

                                                            وأما الاستدلال بترك الإمامة عن قعود فأضعف فإن ترك الشيء لا يدل على تحريمه ولعلهم اكتفوا بالاستنابة للقادرين وإن كان الاتفاق حصل على أن إمامة القاعد للقائم مرجوحة وأن الأولى تركها فذلك كاف في بيان سبب تركهم الإمامة من قعود . وقولهم إنه يشهد لصحة نهيه عن إمامة القاعد بعده ليس كذلك لما بيناه من أن الترك للفعل لا يدل على تحريمه .



                                                            (الحادية عشرة) قال الحنابلة لا يؤم القاعد من يقدر على القيام إلا بشرطين :

                                                            (أحدهما) أن يكون إمام الحي نص عليه أحمد فقال ذلك لإمام الحي لأنه لا حاجة بهم إلى تقديم عاجز عن القيام إذا لم يكن الإمام الراتب فلا يحتمل إسقاط ركن في الصلاة لغير حاجة والنبي صلى الله عليه وسلم حيث فعل ذلك كان هو الإمام الراتب .

                                                            (الثاني) أن يكون مرضه يرجى زواله لأن اتخاذ الزمن ومن لا ترجى قدرته على القيام راتبا يفضي بهم إلى ترك القيام على الدوام ولا حاجة إليه ولأن الأصل في هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم كان يرجى برؤه وقد ظهر بذلك أن أحمد إنما يقول بجلوس المأمومين خلف الإمام القاعد بشروط :

                                                            (أحدها) أن يكون ابتدأ الصلاة بهم جالسا (والثاني) أن يكون إماما راتبا (والثالث) أن يكون مرضه مرجو الزوال فلا يصح إطلاق القول عنه بجلوس المأمومين خلف الإمام القاعد وقد تلخص في اقتداء القادر على القيام بالعاجز عنه مذاهب :

                                                            (أحدها) أنه لا يقتدى به أصلا وهو مشهور مذهب مالك .

                                                            و (الثاني) أنه يقتدى به قائما وبه قال الشافعي وأبو حنيفة .

                                                            (والثالث) أنه يقتدى به جالسا وهو قول جماعة .

                                                            و (الرابع) أنه يقتدى به جالسا إلا في حق المبلغ عنه فيخير بين القيام والجلوس وبه قال ابن حزم .

                                                            و (الخامس) أنه يقتدى به جالسا بثلاثة شروط وهو مذهب أحمد كما تقدم وهو مركب من مذهب مالك والشافعي [ ص: 342 ] وغيرهما لأنه يقول بمذهب مالك في منع الاقتداء به بالكلية فيما إذا كان غير راتب وفيما إذا كان زمنا ويقول بمذهب الشافعي فيما إذا ابتدأ الصلاة قائما ويقول بالجلوس في غير هذه الأحوال .



                                                            (الثانية عشرة) اختلف الحنابلة فيما إذا صلى الأصحاء وراء القاعد قياما هل تصح صلاتهم أم لا ؟ على وجهين :

                                                            (أحدهما) أنها لا تصح وإليه أومأ أحمد لأنه عليه الصلاة والسلام أمرهم بالجلوس ونهاهم عن القيام والأمر يقتضي الوجوب والنهي يقتضى فساد المنهي عنه و (الثاني) تصح لأنه عليه الصلاة والسلام لما صلى وراءه قوم قياما لم يأمرهم بالإعادة فعلى هذا يحمل الأمر على الاستحباب قال ابن قدامة بعد حكاية المذهبين ويحتمل أن تصح صلاة الجاهل بوجوب القعود دون العالم بذلك كقولنا فيمن ركع دون الصف .



                                                            (الثالثة عشرة) وقد يستدل به على أنه إذا صلى الإمام مضطجعا لعذر يصلي وراءه المأمومون مضطجعين لقوله عليه الصلاة والسلام إنما الإمام ليؤتم به لكن ذكر ابن قدامة أنه لا خلاف في أن المصلي خلف المضطجع لا يضطجع انتهى .

                                                            وفي نفي الخلاف نظر لأن ابن حزم يقول إن المقتدي بالمضطجع لا يصلي إلا مضطجعا موميا إلا أن يقال خلاف الظاهرية غير معتد به أو نرى هذا قولا مخترعا لم يسبق إليه قائله ومذهب الحنابلة منع الاقتداء بالمضطجع بالكلية فلم يستوفوا العمل بقوله عليه الصلاة والسلام إنما الإمام ليؤتم به .

                                                            وأما المالكية فإنهم منعوا الاقتداء بالقاعد مطلقا فالمضطجع أولى بذلك ووافقهم أبو حنيفة في المضطجع فمنع اقتداء القائم بالمضطجع مع تجويزه اقتداء القائم بالقاعد وجوز الشافعي اقتداء القائم بالمضطجع كما جوز اقتداءه بالقاعد وبه قال زفر بن الهذيل فقال يقتدي القائم بالمضطجع قائما وحكاه ابن المنذر عن أصحاب الرأي .

                                                            واستدل ابن قدامة على منع الاقتداء به بأنه أخل بركن لا يسقط في النافلة فلم يجز للقادر عليه الائتمام به كالقارئ بالأمي انتهى .

                                                            وقوله إنه لا يصح النفل مضطجعا مردود فالأصح في مذهبنا صحته مضجعا فبطل قياسه على القراءة لأن هذا يسقط في النافلة قال ابن قدامة فأما إن أم مثله فقياس المذهب صحته .




                                                            الخدمات العلمية