الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب السهو في الصلاة عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ركعتين فقام رجل من بني سليم فقال يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تقصر الصلاة ولم أنسه قال يا رسول الله إنما صليت ركعتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أحق ما يقول ذو اليدين ؟ قالوا نعم فصلي بهم ركعتين أخريين قال يحيى يعني ابن أبي كثير : حدثني ضمضم بن جوس أنه سمع أبا هريرة يقول ثم سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتين وفي رواية لهما إحدى صلاتي العشي قال مسلم إما الظهر وإما العصر وقال البخاري قال محمد وأكثر ظني العصر ركعتين ثم سلم ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها وقال مسلم ثم أتى جذعا في قبلة المسجد فاستند إليها مغضبا الحديث وفيه فصلى ركعتين وسلم ثم كبر ثم سجد ثم كبر فرفع ثم كبر فسجد ثم كبر فرفع وفي رواية له العصر من غير شك وفيها فأتم ما بقي من الصلاة ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم ولأبي داود بإسناد صحيح فقال أصدق ذو اليدين ؟ فأومئوا أي نعم .

                                                            ولمسلم من حديث عمران بن حصين صلى العصر فسلم في ثلاث ركعات ثم دخل منزله فقام إليه رجل يقال له الخرباق الحديث وفيه فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم .

                                                            ولأبي داود والنسائي والحاكم من حديث معاوية بن خديج فسلم وقد بقيت من الصلاة ركعة فأدركه رجل فقال نسيت من الصلاة ركعة فخرج فدخل المسجد وأمر بلالا فأقام الصلاة فصلى بالناس ركعة وذكر أن الرجل طلحة بن عبيد الله والجمع بين هذا الاختلاف أن لأبي هريرة قصتين ولعمران قصة أخرى ولمعاوية بن خديج قصة أخرى قاله المحققون وعن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد سجدتي السهو بعد الكلام رواه مسلم وقال بعد السلام والكلام وللترمذي بعد السلام وللنسائي سلم ثم تكلم ثم سجد سجدتي السهو وللبخاري صلى الظهر خمسا فسجد سجدتين بعد ما سلم

                                                            التالي السابق


                                                            [ ص: 2 ] باب السهو في الصلاة) عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ركعتين فقام رجل من بني سليم فقال يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تقصر الصلاة ولم أنسه قال يا رسول الله إنما صليت ركعتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق ما يقول ذو اليدين ؟ قالوا نعم فصلى بهم ركعتين أخريين .

                                                            قال يحيى يعني ابن أبي كثير حدثني ضمضم بن جوس أنه سمع أبا هريرة يقول ثم سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتين (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) فيه أن أبا هريرة شهد مع رسول صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة خلافا لمن قال إنه رواها مرسلة ولم يشهدها لأن ذا اليدين المذكور قتل ببدر وأبو هريرة إنما أسلم بعد خيبر سنة سبع قاله الطحاوي وغير واحد من الحنفية واحتجوا بما رواه ابن وهب [ ص: 3 ] عن العمري عن نافع عن ابن عمر أن إسلام أبي هريرة كان بعد موت ذي اليدين وأنه لا خلاف بين أهل السير أن ذا اليدين قتل ببدر قالوا وهذا الزهري مع علمه بالسير والأثر وهو الذي لا نظير له في ذلك يقول : إن قصة ذي اليدين كانت قبل بدر حكاه معمر وغيره عن الزهري قال الزهري ثم استحكمت الأمور بعد وهو قول أبي معشر إن ذا اليدين قتل ببدر قال ابن عبد البر وقولهم إن ذا اليدين قتل ببدر غير صحيح .

                                                            وإنما المقتول ببدر ذو الشمالين ولسنا ندافعهم أن ذا الشمالين مقتول ببدر لأن ابن إسحاق وغيره من أهل السير ذكروه فيمن قتل يوم بدر وذو الشمالين المقتول ببدر خزاعي وذو اليدين الذي شهد سهو النبي صلى الله عليه وسلم سلمي قال ابن إسحاق ذو الشمالين هو عمير بن عمرو بن غيشان بن سليم بن مالك بن أقصى بن حارثة بن عمرو بن عامر بن خزاعة حليف بني زهرة .

                                                            وروى عن ابن المسيب قال قتل يوم بدر خمسة رجال من قريش فعد منهم ذا الشمالين وإنما عده من قريش لكونه حليف بني زهرة وذو اليدين [ ص: 4 ] اسمه الخرباق كما ثبت في حديث عمران بن حصين قال ابن عبد البر ويمكن أن يكون رجلان وثلاثة يقال لكل واحد منهم ذو اليدين وذو الشمالين ولكن المقتول يوم بدر غير الذي تكلم في حديث أبي هريرة قال وهذا قول أهل الحذق والفهم من أهل الحديث والفقه ثم روى بإسناده إلى مسدد قال الذي قتل يوم بدر إنما هو ذو الشمالين بن عبد عمر وحليف لبني زهرة وهذا ذو اليدين رجل من العرب كان يكون بالبادية فيجيء فيصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                            قال أبو عمرو وأما قول الزهري إنه ذو الشمالين فلم يتابع عليه قال وقد اضطرب الزهري في حديث ذي اليدين اضطرابا أوجب عند أهل العلم بالنقل تركه من روايته خاصة ثم ذكر اضطرابه فيه ثم قال لا أعلم أحدا من أهل العلم بالحديث المصنفين فيه عول على حديث ابن شهاب في قصة ذي اليدين لاضطرابه فيه وإنه لم يقم له إسنادا ولا متنا وإن كان إماما عظيما في هذا الشأن فالغلط لا يسلم منه أحد والكمال ليس لمخلوق وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم فليس قول ابن شهاب إنه المقتول ببدر حجة لأنه قد تبين غلطه في ذلك [ ص: 5 ] ثم ذكر من روى عن ذي اليدين ولقبه من التابعين وأنه بقي إلى خلافة معاوية وأنه توفي بذي خشب فالله أعلم انتهى كلام ابن عبد البر .

                                                            ودعواهم اتفاق أهل السير على ذلك خطأ صريح وإنما يعرف ذلك عن الزهري وهو خطأ وعن أبي معشر وهو ضعيف عند الجمهور وقد خالفهما جمهور أهل السير ففرقوا بين ذي اليدين وذي الشمالين قاله الشافعي في كتاب اختلاف الحديث وأبو عبد الله الحاكم والبيهقي وغيرهم قال الحاكم كل من قال في حديث أبي هريرة .

                                                            فقال ذو الشمالين فقد أخطأ فإن ذا الشمالين قد تقدم موته ولم يعقب وليس له راو وقال النووي في الخلاصة المقتول ببدر ذو الشمالين وهو غير المتكلم في حديث السهو هذا قول الحفاظ كلهم وسائر العلماء إلا الزهري فقال هو هو واتفقوا على تغليط الزهري في هذا ومما يدل على شهود أبي هريرة لقصة ذي اليدين أن جماعة من أصحابه الثقات صرحوا عنه بحضوره للواقعة فعند البخاري من رواية سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر أو العصر الحديث وعند مسلم من رواية محمد بن سيرين عنه صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي الحديث وعنده من رواية أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد سمعت أبا هريرة يقول صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر ورواه ابن عبد البر من رواية ضمضم بن جوس عن أبي هريرة قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن عبد البر : وكذلك رواه العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة وابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة ا هـ وحملوا قول أبي هريرة صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه عنى صلى بالمسلمين قالوا وهذا جائز في اللغة ويرد عليه قوله في حديث الباب بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أنكر من أنكر من الحنفية شهود أبي هريرة للقصة ليجعلوا حديث ابن مسعود وحديث زيد بن أرقم في تحريم الكلام في الصلاة ناسخا لقصة ذي اليدين كما سيأتي في ذكر المذاهب .

                                                            (الثانية) في رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة الجزم بأن الصلاة التي وقع فيها ذلك الظهر وهي عند مسلم هكذا عند البخاري في لفظ له من رواية سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة وعند مسلم من رواية سفيان مولى ابن أبي أحمد عن [ ص: 6 ] أبي هريرة الجزم بأنها العصر وهي في الصحيحين من رواية ابن سيرين عن أبي هريرة على الشك إحدى الصلاتين زاد البخاري قال محمد أي ابن سيرين وأكبر ظني العصر .

                                                            وقد أجاب النووي عن هذا الاختلاف بما حكاه عن المحققين أنهما قضيتان وقد تبعته على ذلك في الأحكام ثم تبين أن الصواب أن قصة أبي هريرة واحدة وأن الشك من أبي هريرة ويوضح ذلك ما رواه النسائي من رواية ابن عون عن محمد بن سيرين قال قال أبو هريرة صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي قال أبو هريرة ولكني نسيت قال فصلى بنا ركعتين فبين أبو هريرة في روايته هذه وإسنادها صحيح

                                                            أن الشك منه وإذا كان كذلك فلا يقال هما واقعتان كما نقله النووي عن المحققين وإنما الجمع أن أبا هريرة رواه كثيرا على الشك ومرة غلب على ظنه أنها الظهر فجزم بها ومرة أخرى غلب على ظنه أنها العصر فجزم بها وأما قول ابن سيرين وأكبر ظني فهو شك آخر من ابن سيرين وذلك أن أبا هريرة حدثه بها معينة كما عينها لغيره ويدلك على أنه عينها له قول البخاري في بعض طرقه قال ابن سيرين سماها أبو هريرة ولكني نسيت أنا .

                                                            (الثالثة) في حديث أبي هريرة أنه سلم من ركعتين وفي حديث عمران بن حصين عند مسلم أنه سلم في ثلاث ركعات وليس هذا باختلاف بل هما قصتان كما حكاه النووي في الخلاصة عن المحققين .

                                                            (الرابعة) فيه أن اليقين لا يزال بالاحتمال والشك لأن ذا اليدين كان على يقين من أن الصلاة رباعية فلما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين لم يكتف ذو اليدين بالشك هل قصرت أم لا واحتمال ذلك بل سأله عن ذلك ليتحقق الحال ويؤدي ما عليه بيقين .

                                                            (الخامسة) فإن قيل قد سكت الناس أجمعون وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فإذا وسعهم السكوت وترك السؤال فهلا وسع ذلك ذا اليدين ؟ والجواب أن السؤال عن ذلك يحصل بسؤال واحد من الناس وقد وقع وكانت عادتهم أن يتكلم الأكبر كأبي بكر وعمر فلما حضرا ولم يتكلما سكت الناس إلا ذا اليدين وقد بين في حديث أبي هريرة في الصحيح العلة في سكوت أبي بكر وعمر بأنهما هاباه أن يكلماه قال القرطبي مع علمهما بأنه سيبين أمر ما وقع قال ولعله بعد النهي عن السؤال انتهى .

                                                            وربما كان فيهم من يظن أنه لا يجوز عليه النسيان حتى بين لهم جوازه [ ص: 7 ] عليه فقال إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني على أنه قد يقول القائل لا نسلم أنه لم يسأله إلا ذو اليدين فعند أبي داود والنسائي بإسناد صحيح من حديث معاوية بن خديج أنه سأله عن ذلك طلحة بن عبيد الله ولكنه ذكر فيه أنه كان بقيت من الصلاة ركعة فيجوز أن يكون العصر فيكون موافقا لحديث عمران بن حصين فيكون قد سأله طلحة مع الخرباق أيضا وقد يكون في بعض الصحابة جرأة وإقدام فيحصل مقصود الساكت به كما قال أنس في الحديث الصحيح كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية فيسأله.... الحديث .

                                                            (السادسة) وقوله أقصرت الصلاة هو بضم القاف وكسر الصاد على الرواية المشهورة على البناء للمفعول ورواه بعضهم بفتح القاف وضم الصاد على أنه قاصر وقياس هذه الرواية أن يقال في الجواب لم تقصر بفتح التاء وضم الصاد والمشهور الأول وقوله ولم أنسه هو بالهاء الساكنة في آخره للسكت وليست ضميرا .

                                                            (السابعة) اختلفت الرواية في جوابه صلى الله عليه وسلم لذي اليدين فقال في هذه الرواية ما تقدم وكذا قال ابن عون ويزيد بن إبراهيم عن ابن سيرين لم أنس ولم تقصر كما عند البخاري وقال أبو سفيان مولى ابن أبي أحمد عن أبي هريرة كل ذلك لم يكن فقال قد كان بعض ذلك ولم يذكر أيوب في روايته عن ابن سيرين كما في الصحيحين نفي القصر والنسيان رأسا بل سأل من حضر أصدق ذو اليدين وكذا في رواية سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عند البخاري وهذه الرواية لا إشكال فيها وأما رواية نفي الأمرين فقد أجيب عنها بأجوبة : (أحدها) أن المراد لم يكن الأمران معا وكان الأمر كذلك وهو ضعيف لأنه أورد العامل في النفي على كل واحد من الأمرين .

                                                            (والثاني) أنه أخبر عما في ظنه فهو مقدر وإن كان محذوفا .

                                                            (والثالث) أنه أراد لم أنس السلام بل سلمت قصدا على ظن التمام وهو بعيد أيضا .

                                                            (والرابع) أن السهو ليس نسيانا بل بينهما فرق فكان يسهو ولا ينسى لأن النسيان غفلة والسهو قد يقع عن بعض الأفعال الظاهرة اشتغالا بما يتعلق بأحوال الصلاة أشار إليه القاضي عياض واستبعد من حيث عدم الفرق بينهما [ ص: 8 ] لغة ويرده أيضا قوله في حديث ابن مسعود المتفق عليه إنما أنا بشر أنسى كما تنسون .

                                                            (والخامس) واختاره القاضي عياض أنه نفى كونه نسي بالتخفيف قاصرا ولم ينف كونه نسي بالتشديد مبني للمفعول كما قال بئسما لأحدكم أن يقول نسيت أنه كذا بل هو نسي فكأنه قال لم أنس من قبل نفسي غفلة عن الصلاة ولكن الله نساني لأنسى ويرده أيضا حديث ابن مسعود المتقدم فإنه نسب النسيان إلى نفسه وفرق الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد بين إضافة نسيان كلام الله تعالى إلى الإنسان وبين إضافة نسيان غيره إليه ولا يلزم من النهي عن الخاص النهي عن العام والله أعلم .

                                                            (السادس) ما أجاب به عبد الكريم بن عطاء الله السكندري أن العصمة إنما ثبتت في الإخبار عن الله تعالى في الأحكام وغيرها دون الأمور الوجودية هذا حاصل كلامه وقد أبهمه الشيخ تقي الدين بقوله بعض المتأخرين .

                                                            (السابع) أن النسيان يطلق بإزاء معنيين : أحدهما خلاف العمد وهو الأغلب والمعنى الثاني الترك وأراد هنا المعنى الثاني هكذا أجاب به بعض من تعقب كلام القاضي عياض وليس هذا بكاف لأن السؤال باق لأن قصاراه أن يكون أخبر أنه ما ترك وقد ترك ركعتين فإن أراد إخباره على ظنه فقد تقدم أنه أخبر أنه ما نسي على ظنه فلا حاجة لتأويله بالترك والله أعلم ، وأجود هذه الأجوبة الوجه الثاني .



                                                            (الثامنة) قال الخطابي فيه دليل على أن من قال لم أفعل كذا وكان قد فعله ناسيا أنه غير كاذب انتهى والخلاف في هذه المسألة معروف بين أهل السنة والمعتزلة هل الكذب الإخبار بخلاف الواقع أو تعمد الإخبار بخلاف الواقع وهذا الخلاف هو في حقيقته مع إجماعهم على أن غير المتعمد ليس بآثم وإن انطلق عليه الاسم على أحد القولين ولذلك قالت عائشة يرحم الله أبا عبد الرحمن لم يكذب ولكنه ذهل .

                                                            (التاسعة) استدل به على أن الحالف بالله على شيء يعتقده فيظهر أنه بخلاف ما حلف عليه أن تلك اليمين لاغية لا حنث فيها حكاه القرطبي وقال إنه صار إليه أكثر الفقهاء ا هـ وفيه نظر لأنه قد ظهر خلاف ما حلف عليه فعليه الكفارة كما ذهب إليه الشافعي في أحد قوليه وغيره نعم لا إثم عليه لعدم تعمد الكذب [ ص: 9 ] والله أعلم .



                                                            (العاشرة) قول ذي اليدين إنما صليت ركعتين أراد به إثبات كونه صلى الله عليه وسلم نسي كما هو عند البخاري من رواية ابن سيرين عن أبي هريرة قال بلى قد نسيت وكذا قوله في رواية مسلم فقال قد كان بعض ذلك أراد به أيضا إثبات النسيان ولا يجوز أن يراد به النسخ بعد إخباره أنها لم تقصر لأنه لا يجوز الحلف فيه لكونه حكما شرعيا بخلاف ما يتعلق بالإخبار عن الأحوال البشرية التي ليست من طريق البلاغ والله أعلم .

                                                            (الحادية عشرة) فيه جواز السهو في الأفعال على الأنبياء صلى الله وسلم عليهم وهو مذهب أكثر العلماء لهذا الحديث ولقوله تعالى إخبارا عن موسى عليه السلام لا تؤاخذني بما نسيت وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي المتفق على صحته كانت الأولى من موسى نسيانا .

                                                            فبين صلى الله عليه وسلم أن ما ذكره موسى من النسيان كان على حقيقته وأنكرت طائفة جواز السهو وإنما يقع منه صورة النسيان قصدا ليسن قال القاضي عياض وقد مال إلى هذا عظيم من المحققين من أئمتنا وهو أبو المظفر الإسفراييني ولم يرتضه غيره منهم ولا أرتضيه انتهى .

                                                            وهذا باطل لأنه لو وقع عمدا لأبطل الصلاة وتمسكوا بما ذكروه في الحديث إني لا أنسى ولكن أنسى لأسن والجواب أن هذا الحديث لا أصل له وإن كان ذكره مالك في الموطإ من بلاغاته فهو أحد الأحاديث الأربعة التي في الموطإ بلاغا ولم يوجد لها إسناد متصل ولا منقطع قاله ابن عبد البر ثم إن الرواية الصحيحة فيه على الإثبات لا على النفي إني لأنسى أو أنسى لأسن .

                                                            أي إن الراوي شك هل قال أنسى أو أنسى ولو كانت الرواية على النفي لكان مخالفا للحديث الصحيح المتفق عليه من حديث ابن مسعود إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فأثبت له وصف النسيان ولم يكتف بذلك لئلا يقول قائل إن نسيانه ليس كنسياننا فقال كما تنسون .

                                                            وأثبت أولا العلة قبل الحكم بقوله إنما أنا بشر وكما قال في الحديث الآخر فنسي آدم فنسيت ذريته أخرجه الترمذي وصححه من حديث أبي هريرة .

                                                            وقسم القاضي عياض الأفعال إلى نوعين ما طريقه البلاغ وتقرير الشرع وتعلق الأحكام وما ليس طريقه البلاغ ولا بيان الأحكام من أفعاله وما يختص به من أمور دينه فأما الأول فذهب إلى منع جواز السهو عليه فيه جماعة من العلماء وإليه مال أبو إسحاق [ ص: 10 ] وذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين إلى جوازه عليه كما وقع في أحاديث السهو في الصلاة .

                                                            وأما الثاني فالأكثر من طبقات علماء الأمة على جواز السهو والغلط فيه قال ابن دقيق العيد وأبى ذلك بعض من تأخر عن زمنه وقالوا إن أقواله وأفعاله وإقراره كله بلاغ من حيث التأسي به ولم يصرح في ذلك بالفرق بين عمد أو سهو قال الشيخ فإن كان يقول بأن السهو والعمد سواء في الأفعال فهذا الحديث يرد عليه ثم إن من أجاز عليهم السهو في الأفعال التي طريقها البلاغ يشترطون أن الرسل لا تقر على السهو والغلط بل ينبهون عليه على الفور كما في هذه الواقعة على أصح القولين .

                                                            وهو قول القاضي أبي بكر وأكثر العلماء كما حكاه صاحب المفهم عنهم والقول الآخر أنه لا يشترط ذلك على الفور بل على التراخي في بقية العمر وإليه مال إمام الحرمين وهذا كله في الأفعال فأما الأقوال فهي أيضا على نوعين ما طريقه البلاغ وهم معصومون فيه من السهو بإجماع المسلمين كما حكاه القاضي عياض وما ليس طريقه البلاغ من الأخبار التي لا مستند لها إلى الأحكام ولا أخبار المعاد ولا تضاف إلى وحي بل في أمور الدنيا وأحوال نفسه .

                                                            قال القاضي فالذي يجب اعتقاده تنزيهه عن الحلف فيها لا عمدا ولا سهوا ولا غلطا وأنه معصوم من ذلك في حال رضاه وفي حال سخطه وجده ومزحه وصحته ومرضه قال ودليل ذلك اتفاق السلف وإجماعهم عليه وأطال الكلام إلى أن قال فليقطع عن يقين بأنه لا يجوز على الأنبياء خلف في القول في وجه من الوجوه .

                                                            لا بقصد ولا بغير قصد ولا يتسامح مع من سامح في تجويز ذلك عليهم حال السهو فيما ليس طريقه البلاغ وما ادعاه القاضي عياض من الإجماع خالفه القرطبي فقال في المفهم والصحيح أن السهو عليه جائز مطلقا إذ هو واحد من نوع البشر فيجوز عليه ما يجوز عليهم إذا لم يقدح في حاله وعليه نبه حيث قال إنما أنا بشر أنسى كما تنسون .

                                                            غير أن ما كان منه فيما طريقه بلاغ الأحكام قولا أو فعلا لا يقر على نسيانه بل ينبه عليه إذا دعت الحاجة إلى ذلك المبلغ فإن أقر على نسيانه لذلك فذلك من باب النسخ كما قال تعالى سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله وقد تقدم الجواب عن قوله لم تقصر ولم أنسه في الفائدة السابعة المتقدمة والله أعلم .

                                                            (الثانية عشرة) [ ص: 11 ] استدل بعضهم بقوله أحق ما يقول ذو اليدين على اشتراط العدد في الرواية إذ لم يكتف في ذلك بخبر ذي اليدين حتى أخبر معه غيره وهذا قول حكاه الحازمي في شروط الأئمة عن بعض متأخري المعتزلة وقد حكاه أبو محمد الجويني في الفصول التي أملاها عن بعض أصحاب الحديث كما ذكره البيهقي في رسالته إلى أبي محمد الجويني وهذا قول مخالف لإجماع أهل السنة لإجماعهم على قبول خبر الواحد والجواب أن احتجاجهم أن المصلي لا يترك اعتقاده وظنه لقول واحد وإن كان عدلا إذ هو يخبر عن خلاف ما يعتقده المخبر والله أعلم .

                                                            (الثالثة عشرة) قال ابن عبد البر فيه أن الواحد إذا ادعى شيئا كان في مجلس جماعة لا يمكن في مثل ما ادعاه أن ينفرد بعلمه دون أهل المجلس لم يقطع بقوله حتى يستخبر الجماعة فإن خالفوه سقط قوله أو نظر فيه بما يجب وإن تابعوه ثبت قلت إنما استخبر الحاضرين لكونه أخبره عما يعتقد أو يظن خلافه وإلا فقد حدث عمر بن الخطاب على المنبر بحديث الأعمال بالنية كما ثبت في الصحيحين ولم يصح أن أحدا من التابعين رواه عنه إلا علقمة بن وقاص مع كونه من قواعد الإسلام ولم يرده أحد لانفراد علقمة به إذ ليس فيه مخالفة لما رواه غيره عن عمر والله أعلم .

                                                            (الرابعة عشرة) قال ابن عبد البر فيه أن المحدث إذا خالفه جماعة في نقله أن القول قول الجماعة وأن القلب إلى روايته أشد سكونا من رواية الواحد .



                                                            (الخامسة عشرة) استدل به بعض الحنفية والمالكية على أنه لا يقبل في رؤية الهلال في غير الغيم إلا الجم الغفير لكونه لم يقبل ذلك من ذي اليدين وحده إذ حضر ذلك جماعة حتى يوافقه غيره ولا يلزم من الحديث ذلك لأنه إنما سأل غيره لكونه أخبره عما يخالف ظنه واعتقاده كما تقدم وأما رؤية الهلال فليس عند الحاضرين ما يخالف ذلك مع خلق الله تعالى الأبصار متفاوتة فيرى الواحد ما لا يراه الجم الغفير وهذا أمر مشاهد فلا وجه لرد قوله مع كونه ثقة إلا حيث انفرد واشترطنا العدد والله أعلم .

                                                            (السادسة عشرة) قال ابن عبد البر فيه أن الشك قد يعود يقينا بخبر أهل الصدق وأن خبر الصادق يوجب [ ص: 12 ] اليقين انتهى .

                                                            قلت وإنما يعود يقينا إذا بلغ حد التواتر ويجوز أن يكون إنما صار يقينا بتذكره أنه لم يتم الصلاة كما رواه أبو داود في بعض طرقه قال ولم يسجد سجدتي السهو حتى يقنه الله ذلك .

                                                            وأما قوله إن خبر الصادق يوجب اليقين فإن أراد خبر الواحد فلا يسلم أنه يوجب اليقين وهو قول ضعيف محكي عن حسين الكرابيسي من أصحاب الشافعي أنه يوجب العلم الظاهر وبه قال أحمد في رواية عنه وحكاه ابن الصباغ في كتاب العدة في أصول الفقه عن قوم من أصحاب الحديث وحكى الخطيب في الكفاية عن القاضي أبي بكر الباقلاني أنه قول من لا يحصل علم هذا الباب .

                                                            (السابعة عشرة) قال ابن عبد البر وصاحب المفهم أيضا فيه حجة لمالك على قوله إن الحاكم إذا نسي حكمه فشهد عنده عدلان بحكمه أمضاه خلافا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما أنه لا يمضيه حتى يذكره وأنه لا يقبل الشهادة على نفسه بل على غيره قال القرطبي وهذا إنما يتم لمالك إذا سلم له أن رجوعه للصلاة إنما كان لأجل الشهادة لا لأجل تيقنه ما كان قد نسيه وقال ابن عبد البر في موضع آخر إنه لا حجة فيه لأنه يحتمل أن يكون تيقن ذلك حين أخبروه فرجع من شكه إلى يقينه وهذا المجتمع عليه في الأصول . .

                                                            (الثامنة عشرة) فيه حجة لمن ذهب إلى أن من تكلم غير عالم بأنه في الصلاة أو تكلم في الصلاة ناسيا لا تفسد صلاته وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي وخالف فيه أهل الكوفة النخعي وحماد والثوري وأبو حنيفة فقالوا تفسد صلاته كالعمل فيها وأجابوا عن قصة ذي اليدين بأنها منسوخة بحديث ابن مسعود وحديث زيد بن أرقم في تحريم الكلام في الصلاة ورد عليهم بأن الناسخ لا يكون متقدما وحديث ابن مسعود كان بمكة في أحد القولين وفي أول الهجرة في القول الآخر .

                                                            وكذلك حديث زيد بن أرقم وأما حديث ذي اليدين فكان إما في السنة السابعة أو بعدها لأن إسلام أبي هريرة وعمران بن حصين كان في السنة السابعة وقد شهد القصة وكان إسلام معاوية بن خديج قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بشهرين كما ذكره البيهقي وغيره .

                                                            وقد تقدم في ترجمته وقد شهد معاوية هذا قصة أخرى في السهو كقصة ذي اليدين وكلامهم كما هو في الأصل وقد تقدم بيان تأخر قصة ذي اليدين في الفائدة الأولى من هذا الحديث وشهود [ ص: 13 ] أبي هريرة لها قال ابن عبد البر ولو صح للمخالفين ما ادعوه من نسخ حديث أبي هريرة بتحريم الكلام في الصلاة لم تكن لهم في ذلك حجة لأن النهي عن الكلام في الصلاة إنما توجه إلى العامد القاصد لا إلى الناسي لأن النسيان متجاوز عنه والناسي والساهي ليسا ممن دخل تحت النهي لاستحالة ذلك في النظر .

                                                            (التاسعة عشرة) فإن قيل فإن كلام كثير من الصحابة كان بعد اطلاعهم على أنهم إلى الآن في الصلاة بإخباره صلى الله عليه وسلم أن الصلاة لم تقصر وقد كانوا على يقين من كونه صلى بهم ركعتين ومع ذلك فقد سألهم بعد ذلك أحق ما يقول ذو اليدين قالوا نعم وفي رواية لمسلم قالوا نعم لم تصل إلا ركعتين فأجابوه بالكلام بعد علمهم أنهم في الصلاة بعد والجواب عنه من أربعة أوجه :

                                                            (أحدها) أنهم لم يتكلموا بقولهم نعم وإنما أومئوا بالجواب كما رواه أبو داود بإسناد صحيح من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال أبو داود ولم يذكر فأومئوا إلا حماد بن زيد قال الخطابي فدل ذلك على أن رواية من روى أنهم قالوا نعم إنما هو على المجاز والتوسعة في الكلام كما يقول الرجل قلت بيدي وقلت برأسي قال ابن دقيق العيد وفيه بعد لأنه خلاف الظاهر قال ويمكن الجمع بأن يكون بعضهم فعل ذلك إيماء وبعضهم كلاما أو اجتمع الأمران في حق بعضهم .

                                                            (والوجه الثاني) أن كلامهم على تقدير وقوعه لفظا كان إجابة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو واجب كما سيأتي في الفائدة التي تلي هذه .

                                                            (والوجه الثالث) أنه كان من مصلحة الصلاة على قاعدة المالكية كما سيأتي في الفائدة الحادية والعشرين .

                                                            (والوجه الرابع) ما قاله الشافعي أنه لما سأل غير ذي اليدين احتمل أن يكون سأل من لم يسمع كلامه فيكون مثله يعني مثل ذي اليدين واحتمل أن يكون سأل من سمع كلامه ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم الرد عليه فلما لم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم كان في معنى ذي اليدين من أنه لم يدر أقصرت الصلاة أم نسي فأجابه ومعناه ذي اليدين مع أن الفرض عليهم جوابه ألا ترى أنه لما أخبروه فقبل قولهم لم يتكلم ولم يتكلموا حتى بنوا على صلاتهم فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم تناهت الفرائض فلا يزاد فيها ولا ينقص .



                                                            (الفائدة العشرون) استدل به على أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعاه أو سأله [ ص: 14 ] وهو في الصلاة أنها لا تفسد الصلاة وبيان ذلك أن كلام ذي اليدين في أول الأمر كان مع احتمال أن تكون الصلاة قد قصرت فلم يكن على يقين من بقائه في الصلاة وكلام النبي صلى الله عليه وسلم في الجواب له كان وهو يظن أن الصلاة انقضت .

                                                            وكلام بقية الصحابة وكذا كلام ذي اليدين في قوله بلى قد نسيت أو قد كان بعض ذلك على ما كان بعد تحقق أن الصلاة لم تقصر بإخباره صلى الله عليه وسلم ولكنه كان جوابا له صلى الله عليه وسلم حين سألهم وجوابه لا يبطل الصلاة لأن إجابته واجبة بدليل ما رواه البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلى قال كنت أصلي فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني فلم آته حتى صليت ثم أتيته فقال ما منعك أن تأتيني ؟ أولم يقل الله يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم وروى الترمذي وصححه والنسائي من حديث أبي هريرة أنه دعا أبي بن كعب بمثل هذه القصة وقال إني لا أعود إن شاء الله وما ذكرناه من وجوب الإجابة وعدم البطلان هو مذهب الشافعي وبه جزم الرافعي والنووي .

                                                            وحكى ابن الرفعة وجها أنه لا تجب وتبطل به الصلاة قال ابن دقيق العيد واعترض عليه بعض المالكية بأن قال إن الإجابة لا تتعين بالقول فيها فيكفي فيها الإيماء وعلى تقدير أن يجب القول لا يلزم منه الحكم بصحة الصلاة لجواز أن تجب الإجابة ويلزمهم الاستئناف انتهى قلت في هذا الحديث أنهم أجابوه باللفظ بعد العلم أنهم في الصلاة وأكمل بهم الصلاة ولم يأمرهم بالاستئناف فترجح ما يقوله الشافعية والله أعلم .

                                                            (الحادية والعشرون) استدل به من ذهب من المالكية على أن تعمد الكلام في الصلاة لإصلاحها لا يبطلها وبه قال ربيعة وهي رواية ابن القاسم عن مالك أن الإمام لو تكلم بما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم من الاستفسار والسؤال عند الشك وأجابه المأمومون أن صلاتهم تامة على مقتضى الحديث قال ابن عبد البر .

                                                            وهو المشهور من مذهب مالك وإياه تقلد إسماعيل بن إسحاق واحتج له في كتاب رده على محمد بن الحسن وخالف في ذلك جمهور الفقهاء فذهبوا إلى أنها تبطل وبه جزم أصحاب الشافعي وأكثر أصحاب مالك قال الحارث بن مسكين أصحاب مالك على خلاف قول مالك في مسألة ذي اليدين إلا ابن القاسم وحده فإنه يقول [ ص: 15 ] فيها بقول مالك وغيرهم يأبونه ويقولون إنما كان هذا في أول الإسلام فأما الآن فقد عرف الناس صلاتهم فمن تكلم فيها أعادها انتهى .

                                                            وقد قيل إن مالكا رجع إلى قول الجمهور فقد روى عنه أبو قرة موسى بن طارق الزبيدي بالإسناد الصحيح إليه قال سمعت مالكا يستحب إذا تكلم الرجل في الصلاة أن يعود لها ولا يبني قال وقال لنا مالك إنما تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلم أصحابه معه يومئذ لأنهم ظنوا أن الصلاة قد قصرت ولا يجوز ذلك لأحد اليوم .

                                                            وروى أشهب عن مالك في سماعه أنه قيل له أبلغك أن ربيعة صلى خلف إمام فأطال التشهد فخاف ربيعة أن يسلم وكان على الإمام السجود قبل السلام فكلمه ربيعة وقال له إنهما قبل السلام فقال ما بلغني ولو بلغني ما تكلمت به أتتكلم في الصلاة قال ابن عبد البر تحتمل رواية أشهب هذه أن يكون مالك رجع فيها عن قوله الذي حكاه عنه ابن القاسم إلى ما حكاه عنه أبو قرة ويحتمل أن يكون أنكر هذا من فعل ربيعة من أجل أنه لم يكن يلزمه عنده الكلام فيما تكلم فيه إلى آخر كلامه وقال ابن كنانة من المالكية لا يجوز لأحد من الناس اليوم ما جاز لمن كان يومئذ مع النبي صلى الله عليه وسلم لأن ذا اليدين ظن أن الصلاة قد قصرت فاستفهم عن ذلك وقد علم الناس اليوم أن قصرها لا يترك فعلى من تكلم الإعادة قال عيسى فقرأته على ابن القاسم فقال ما أرى في هذا حجة .

                                                            وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك لم يكن فقالوا له بلى فقد كلموه عمدا بعد علمهم أنها لم تقصر وبنوا معه وقد قيل إن ابن القاسم أيضا اختلف كلامه فيها كما سيأتي في الوجه الذي يليه .

                                                            (الثانية والعشرون) ذهب أكثر المالكية البغداديين على قول ابن القاسم إلى التفرقة بين المنفرد والجماعة في الكلام في مصلحة الصلاة وأنه لا يجوز ذلك للمنفرد وقد ذكر سحنون عن ابن القاسم في رجل صلى وحده ففرغ عند نفسه من الأربع فقال من حضره إنك لم تصل إلا ثلاثا فالتفت إلى آخر فقال أحق ما يقول هذا ؟ قال نعم قال تفسد صلاته ولم يكن ينبغي له أن يكلمه ولا يلتفت إليه قال ابن عبد البر .

                                                            وكأن غير هؤلاء يحملون جواب ابن القاسم في هذه على خلاف من قوله في استعماله حديث ذي اليدين كما اختلف كلام مالك فيه ويذهبون إلى جواز [ ص: 16 ] الكلام في إصلاح الصلاة للمنفرد والجماعة .

                                                            (الثالثة والعشرون) فيه حجة على أحمد حيث ذهب إلى أنه إنما يتكلم لمصلحة الصلاة الإمام خاصة فأما غير الإمام فمتى تكلم عامدا أو ساهيا بطلت صلاته كذا حكاه الخرقي أنه مذهبه وعنه روايتان أخريان حكاهما الأثرم إحداهما أن الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها كقول مالك والثانية كقول الشافعي فقال إنما تكلم ذو اليدين .

                                                            وهو يرى أن الصلاة قصرت وتكلم النبي صلى الله عليه وسلم وهو دافع لقول ذي اليدين فكلم القوم فأجابوه لأنهم كان عليهم أن يجيبوه .

                                                            (الرابعة والعشرون) فيه أن السهو في الصلاة لا يفسدها بل يجوز البناء عليها خلافا لبعض الصحابة والتابعين قال ابن عبد البر ولا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال به .

                                                            (الخامسة والعشرون) فيه أن نية قطع الصلاة على ظن التمام لا يفسدها إذا تبين أنها لم تتم وله أن يبني عليها ولا يلزمه الاستئناف وهو كذلك .

                                                            (السادسة والعشرون) وفيه أن إيقاع السلام سهوا لا يبطل الصلاة وهو كذلك عند أكثر أهل العلم وقال بعض أصحاب أبي حنيفة يبطلها السلام ساهيا كالكلام فيها قال ابن عبد البر وأجمعوا أن السلام فيها عامدا قبل تمامها يفسدها .



                                                            (السابعة والعشرون) فرق أكثر أصحاب الشافعي في كلام الساهي أو من لا يعلم أنه في الصلاة بين قليل الكلام وكثيره وقالوا إن ما لا يبطل منه هو اليسير فأما الكثير فيفسدها وحد أبو نصر بن الصباغ منهم القليل بالقدر الذي تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليدين كما حكاه الرافعي عنه وحد الشيخ أبو حامد اليسير بثلاث كلمات قال الرافعي وكل واحد منهما للتمثيل أصلح منه للتحديد قال والأظهر فيه وفي نظائره الرجوع إلى العادة .

                                                            (الثامنة والعشرون) استدل به من قال من أصحاب الشافعي ومالك أيضا أن الأفعال الكثيرة في الصلاة التي ليست من جنسها إذا وقعت على وجه السهو لا تبطلها لأنه خرج سرعان الناس وفي بعض طرق الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى منزله ثم رجع وفي بعضها أتى جذعا في قبلة المسجد فاستند إليها وشبك بين أصابعه ثم رجع ورجع الناس وبنى بهم وهذه الأفعال كثيرة وللقائل بأن الكثير يبطل أن يقول هذه غير كثيرة كما قاله ابن الصباغ في [ ص: 17 ] الكلام وقد حكاه القرطبي عن أصحاب مالك أنهم حملوا ما وقع في هذه القصة على أنه عمل قليل والرجوع في الكثرة والقلة إلى العرف على الصحيح والمذهب الذي قطع به جمهور أصحاب الشافعي أن الناسي في ذلك كالعامد فيبطلها الفعل الكثير ساهيا والله أعلم .

                                                            (التاسعة والعشرون) استدل به من ذهب من المتقدمين إلى جواز البناء على الصلاة فيما إذا ترك بعضها سهوا وإن طال الفصل وهو منقول عن ربيعة وعن مالك أيضا وليس بمشهور عنه ولم يوافق الجمهور على جواز البناء مع طول الفصل ولهم أن يقولوا لا نسلم طول الفصل وهو منقول عن ربيعة وعن مالك أيضا وليس بمشهور عنه ولم يوافق الجمهور على جواز البناء مع طول الفصل ولهم أن يقولوا لا نسلم طول الفصل في مثل هذا كما سيأتي في الفائدة التي تليه .

                                                            (الفائدة الثلاثون) اختلف في قدر الزمن الذي يجوز البناء معه فذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أن تقديره بما ثبت في حديث ذي اليدين كما حكاه الرافعي وقال بعضهم هو قدر الصلاة فما زاد فطويل والذي نص عليه الشافعي في الأم أن المرجع فيه إلى العرف ونص البويطي على أن الطويل ما زاد على قدر ركعة وحكى صاحب المفهم أنه روي عن مالك وربيعة أن ذلك ما لم ينتقض وضوءه .



                                                            (الحادية والثلاثون) استدل برجوعه صلى الله عليه وسلم إلى خبر أصحابه حين صدقوا ذا اليدين على ما ذهب إليه مالك ومن قال بقوله أن الإمام يرجع إلى قول المأمومين وعندهم خلاف في اشتراط العدد بناء على أنه يسلك به مسلك الشهادة أو الرواية وكذا عندهم خلاف آخر بين أن يكثروا أو يقلوا فإن كان الإمام على شك فإنه يرجع إلى قولهم بلا خلاف عندهم قاله القرطبي قال وأما إن كان جازما في اعتقاده بحيث يصمم إليه فلا يرجع إليهم إلا أن يفيد خبرهم العلم فيرجع إليهم وإن لم يفد خبرهم العلم فذكر ابن القصار عن مالك في ذلك قولين الرجوع إلى قولهم وعدمه وبالأول قال ابن حبيب ونصه :

                                                            إذا صلى الإمام برجلين فصاعدا فإنه يعمل على يقين من وراءه ويدع يقين نفسه قال المشايخ يريد الاعتقاد وبالثاني قال ابن سلمة ونص ما حكي عنه يرجع إلى قولهم إن كثروا ولا يرجع إن قلوا فينصرف ويتمون لأنفسهم انتهى .

                                                            وذهب الشافعي وآخرون إلى أنه لا يترك اعتقاده لقول من وراءه من المأمومين وغيرهم ويدل له ما رواه أبو داود من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب [ ص: 18 ] وأبي سلمة وعبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة بهذه القصة قال ولم يسجد سجدتي السهو حتى يقنه الله ذلك .

                                                            (الثانية والثلاثون) فإن قيل قد تقدم قول ابن عبد البر وغيره أن الزهري اضطرب في متن هذا الحديث وإسناده اضطرابا أوجب عند أهل العلم تركه من روايته وأيضا على تقدير ثبوته يجوز أن يكون قوله حتى يقنه الله أي يقنه بإخبار من أخبره بذلك ممن يستحيل إجماعهم على الخطأ لبلوغهم حد التواتر لا بتذكره أنه ترك بعض الصلاة .

                                                            والجواب أنه وإن لم يتذكره فاتفاق أصحابه أوجب حصول الشك عنده وحصول الشك يقتضي إعادة ما شك فيه على أحد الوجهين لأصحاب الشافعي ولأصحاب مالك أيضا أن حصول الشك يؤثر وإن كان بعد الفراغ من العبادة فأما على القول المرجح أن الشك لا يؤثر بعد الفراغ من العبادة فلقائل أن يقول فعله احتياطا بالنسبة إلى نفسه إن كان لم يتذكر وفعله معه غيره وجوبا لعلمهم أن الصلاة لم تتم .

                                                            وهذا بعيد لاتفاق أهل الكلام ممن جوز السهو عليه أنه لا يقره عليه بل ينبه عليه ويبين له ولكن إمام الحرمين مال إلى أنه لا يشترط تنبيهه عليه على الفور وإن كان الأكثرون على خلافه فلعله يبين له بعد ذلك والأقرب في هذه المسألة ما اختاره الشيخ عز الدين بن عبد السلام في القواعد أنه إن بلغ المخبر له بأنه لم تتم صلاته عدد التواتر وجب رجوعه إليهم وإلا عمل على اعتقاده وقد تقدم نقله أيضا عن صاحب المفهم عن المالكية وبهذا يجاب عن الحديث .

                                                            (الثالثة والثلاثون) قال ابن عبد البر قد زعم بعض أهل الحديث أن في هذا الحديث دليلا على قبول خبر الواحد وقد ادعى المخالف أن فيه حجة على من قال بخبر الواحد قال أبو عمر والصحيح أنه ليس بحجة في قبول خبر الواحد ولا في رده .

                                                            (الرابعة والثلاثون) لم يذكر يحيى بن أبي كثير في روايته عن أبي سلمة سجدتي السهو بل رواهما عن ضمضم بن جوس عن أبي هريرة وقال أبو داود إنه رواه عمران بن أبي أنس عن أبي سلمة أيضا ولم يذكر أنه سجد السجدتين ورواية ضمضم بن جوس رواها أبو داود أيضا من رواية عكرمة بن عمار عنه وفيها إثبات السجدتين وزيادة كونهما بعد ما سلم وذلك صحيح من رواية أبي سلمة كما رواه البخاري من رواية سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة فقال في آخره ثم سجد سجدتين .

                                                            وقد [ ص: 19 ] ذكر ابن عبد البر في التمهيد أن ابن شهاب كان ينكر أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد يوم ذي اليدين ولا وجه لقوله لأنه قد ثبت في هذا الحديث وغيره ثم رواه من رواية عراك بن مالك عن أبي هريرة سجد يوم ذي اليدين سجدتين بعد السلام انتهى وهو عند النسائي من هذا الوجه وهو في الصحيح من طرق عن أبي هريرة فاتفقا عليه من رواية ابن سيرين عنه وانفرد به البخاري من رواية أبي سلمة عنه كما تقدم وانفرد به مسلم من رواية أبي سفيان مولى أبي أحمد عنه ومن حديث عمران بن حصين وأخرجه أبو داود من حديث ابن عمر فلا وجه لإنكاره وقال مسلم في التمييز قول ابن شهاب أنه لم يسجد يوم ذي اليدين خطأ وغلط وقد ثبت ذلك عنه عليه السلام انتهى .

                                                            على أنه قد اختلفت الرواية على ابن شهاب في إنكاره فقال أبو داود عنه في رواية ولم يسجد السجدتين اللتين تسجدان إذا شك حين تلقاه الناس وفي رواية أخرى ولم يسجد سجدتي السهو حتى يقنه الله ذلك وليس في هذا نفي السجود مطلقا وقد جاء عن غير ابن شهاب أيضا نفي السجدتين وذلك فيما رواه أبو داود أيضا من رواية ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال فيه ثم انصرف ولم يسجد سجدتي السهو ومن أثبت سجدتي السهو أكثر وأولى إذ معهم زيادة علم وقد اضطرب ابن شهاب في حديث ذي اليدين كما تقدم .

                                                            (الخامسة والثلاثون) فيه مشروعية سجدتي السهو وهو كذلك عند عامة العلماء إلا أن الزهري قال إذا عرف الرجل ما نسي من صلاته فأتمها فليس عليه سجدتا السهو لحديث ذي اليدين فإن ابن شهاب كان يقول إنه لم يسجد يوم ذي اليدين كما تقدم في الفائدة قبلها .

                                                            (السادسة والثلاثون) فيه أن السجود للسهو سجدتان من غير زيادة عليهما ولا نقص وهو كذلك .



                                                            (السابعة والثلاثون) ذكر المهلب بن أبي صفرة حكمة سجود السهو فقال إنه في الزيادة لأحد معنيين ليشفع له ما زاد إن كانت زيادة كثيرة وإن كانت زيادة قليلة فالسجدتان ترغيم للشيطان الذي أسهى وشغل حتى زاد في الصلاة فأغيظ الشيطان بالسجود لأن السجود هو الذي استحق إبليس بتركه العذاب في الآخرة والخلود في النار فلا شيء أرغم منه له [ ص: 20 ]

                                                            قلت وما ذكره من الإرغام في الزيادة القليلة مخالف لما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد فإنه قال فيه فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان فجعل الشفع لمطلق الزيادة والترغيم عند عدمها والله أعلم .

                                                            وأما أصحاب الشافعي فاختلفوا في سبب سجود السهو فيما إذا شك صلى ثلاثا أم أربعا فقال القفال وأبو علي السنجي والبغوي وآخرون سببه احتمال أن التي أتى بها خامسة فيسجد للزيادة وصححه النووي وقال أبو محمد الجويني وابنه والغزالي المعتمد فيه النص ولا يظهر معناه .

                                                            (الثامنة والثلاثون) فيه أن السجدتين للسهو محلهما في آخر الصلاة وهو كذلك وذكر بعضهم لذلك حكمة وهو احتمال طروء سهو آخر بعد الأول فيكون السجود جائزا للكل .

                                                            (التاسعة والثلاثون) لو سجد في آخر الصلاة للسهو ثم تبين أن ذلك ليس آخر الصلاة أعاده في آخرها وذلك بأن يسجد في الجمعة لسهو ثم يخرج الوقت وهو في السجود الأخير أو بعد الرفع منه وقبل السلام فيلزمه إتمام الظهر ويعيد السجود وكذلك إذا كان مسافرا فصلى صلاة المسافر وسها فيها فسجد في آخرها للسهو وتصل السفينة به إلى الوطن قبل السلام أو ينوي الإقامة قبل السلام فإنه يتم ويعيد السجود والله أعلم .

                                                            (الفائدة الأربعون) فيه أن السهو يتداخل ويكتفي للجميع سجدتان لأنه صلى الله عليه وسلم سلم وتكلم ومشى وهذه كلها مقتضية للسجود واقتصر على سجدتين وفي المسألة ثلاثة أقوال الصحيح وعليه أكثر العلماء هذا وقيل يسجد لكل سهو سجدتين وهو قول الأوزاعي والقول الثالث التفرقة بين أن يتحد الجنس فيتداخل أو لا يتحد فلا والحديث حجة على هذين القولين لتعدد السهو واختلاف جنسه والله أعلم .



                                                            (الحادية والأربعون) اختلف العلماء في سجدتي السهو هل محلهما قبل السلام من الصلاة أو بعده على حسب اختلاف الأحاديث الواردة في ذلك على أقوال خمسة : (الأول) أنه بعد السلام عملا بحديث أبي هريرة هذا ففي الصحيحين أنه سجد فيه بعد السلام وهكذا عند مسلم في حديث عمران بن حصين وكذا حديث ابن مسعود المتفق عليه الآتي بعد هذا ولأبي داود والترمذي وصححه من حديث المغيرة فلما أتم صلاته وسلم سجد سجدتين [ ص: 21 ] وللحاكم من حديث سعد بن أبي وقاص مثله وصححه وكذلك من حديث عقبة بن عامر .

                                                            ولأبي داود والنسائي من حديث عبد الله بن جعفر من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعد ما يسلم قال البيهقي لا بأس به وقال النووي ضعفوه .

                                                            ولأبي داود من حديث ابن عمر ثم سلم ثم سجد سجدتي السهو وله من حديث ثوبان لكل سهو سجدتان بعد ما يسلم .

                                                            وهو قول أهل الكوفة والثوري وأبي حنيفة وأصحابه وبه قال من التابعين أبو سلمة بن عبد الرحمن وعمر بن عبد العزيز وقالوا من جهة المعنى أن سجود السهو إنما جعل في آخر الصلاة لئلا يطرأ سهو آخر بعده ومن الجائز طروء السهو في السلام فكان السجود بعده أولى .

                                                            (والقول الثاني) : أن محله قبل السلام وهو قول ابن شهاب وربيعة ويحيى بن سعيد وبه قال الأوزاعي والشافعي والليث وحجتهم ما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله ابن بحينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في صلاة الظهر وعليه جلوس فلما أتم صلاته سجد سجدتين يكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس

                                                            وعند مسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر صلى ثلاثا أم أربعا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم .

                                                            ولأبي داود من حديث أبي هريرة في الذي لا يدري كم صلى فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم ليسلم كذا رواه من طريقين في أحدهما ابن أخي ابن شهاب عن عمه وفي الأخرى محمد بن إسحاق وقال فيها حدثني الزهري وقد رواه مالك وابن عيينة والليث ومعمر عن الزهري لم يذكروا موضع السجود .

                                                            وللترمذي وصححه من حديث عبد الرحمن بن عوف إذا سها أحدكم في صلاته فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين فليبن على واحدة فإن لم يدر اثنتين صلى أو ثلاثا فليبن على ثنتين فإن لم يدر ثلاثا صلى أو أربعا فليبن على ثلاث وليسجد سجدتين قبل أن يسلم .

                                                            (والقول الثالث) التفرقة بين أن يكون السهو بزيادة أو نقص فإن كان لزيادة بأن صلى خمسا سجد بعد السلام وإن كان لنقص كترك التشهد الأول سجد قبل السلام وهو قول مالك وأبي ثور وهو قول قديم للشافعي ورجحه أبو حاتم بن حبان من الشافعية وحملوا [ ص: 22 ] اختلاف الأحاديث على ذلك لو سلم لهم قال ابن عبد البر وهو الصحيح في هذا الباب من جهة الآثار لكن في قول مالك ومن تابعه استعمال الخبرين جميعا في الزيادة والنقصان واستعمال الأخبار على وجوهها أولى من ادعاء النسخ فيها ومن جهة المعنى أن السجود للنقص جبران فناسب أن يكون في الصلاة قبل السلام بخلاف الزيادة .

                                                            (والقول الرابع) استعمال كل حديث في موضعه زيادة كان أو نقصا وهو قول أحمد إذا سلم من اثنتين فبعد السلام على حديث ذي اليدين وإذا سلم بعد ثلاث فكذلك على حديث عمران بن حصين وفي التحري بعد السلام على حديث عبد الله بن مسعود وفي القيام من اثنتين قبل السلام على حديث ابن بحينة وفي الشك يبني على اليقين ويسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد وابن عوف رواه أبو بكر الأثرم عنه قال قلت له فما كان سواها من السهو قال يسجد فيه كله قبل السلام لأنه يجبر ما نقص من صلاته وما قال به أحمد من استعمال كل حديث في موضعه قال به داود إلا أنه قال لا يسجد للسهو إلا في هذه المواضع الخمسة التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                            (والقول الخامس) أنه يتخير بين السجود قبل السلام أو بعده سواء كان ذلك لزيادة أو نقص جمعا بين الأحاديث وروي عن علي بن أبي طالب بإسناد منقطع وإليه ذهب محمد بن جرير الطبري وهو قول قديم أيضا للشافعي وهذه المسألة مما اختلف فيها الأئمة الأربعة ولكل واحد منهم أحاديث صحيحة وقد أجاب أصحاب كل إمام منهم عن الأحاديث التي استدل بها غير إمامه بوجوه : (منها) دعوى النسخ لما وقع بعد السلام فقد قال الزهري إن آخر الأمرين من فعله السجود قبل السلام واعترض عليه بأنه مرسل ولو كان مسندا فإنه لم يبين آخر الأمرين كان في ماذا ؟ فلعله كان آخر الأمرين في محل النقص فلا يدفع قول مالك وأجيب بأنه أطلق سجود السهو فلا يحمل على صورة منه .

                                                            (ومنها) أن قوله بعد السلام أي بعد قوله في التشهد السلام عليك أيها النبي وهو بعيد .

                                                            (ومنها) أن المراد بعد السلام على وجه السهو بدليل قوله في حديث عمران بن حصين عند مسلم فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم فحملنا السلام الأول على أنه سها في السلام وهو بعيد أيضا وقد قال جماعة بإعادة السلام بعد سجدتي السهو كما سيأتي وقد يقابله الحنفي بمثله فيقول سجوده قبل السلام [ ص: 23 ] سهو ولا تثبت الحجج بالاحتمالات والله أعلم .

                                                            (ومنها) الترجيح بكثرة الرواة ، والأحاديث الدالة للقائلين به بعد السلام أكثر قال ابن دقيق العيد والاعتراض عليه أن طريقة الجمع أولى من طريقة الترجيح وأيضا فلا بد من النظر في محل التعارض واتخاذ موضع الخلاف من الزيادة والنقصان .

                                                            (ومنها) ما أجاب به الحنفية أن المراد بقوله وسجد سجدتين أي سجود الصلاة وهو بعيد .

                                                            (ومنها) ما اعترض به على المالكية أن حديث أبي سعيد فيمن شك فإنه يبني على أنه لم يفعل فيزيده ويسجد قبل السلام فهذا سهو للزيادة قبل السلام وأجابوا بأن الزيادة ليست محققة فيحتمل أنه لم يرد وإنما المراد الزيادة المحققة وعندهم في هذه الصورة روايتان واعترض أيضا عليهم أن حديث ذي اليدين قد نقص فيه من الصلاة وقد سجد بعد التسليم وأجابوا بأنه أتى بما نقصه وهو الركعتان وزاد السلام بعد الثنتين والكلام والمشي فسجد لهذه الزيادة لا لكونه نقص الركعتين فقد أتى بهما ورجح ابن دقيق العيد قول مالك ومن وافقه بظهور المناسبة قال وإذا ظهرت المناسبة وكان الحكم على وفقها كانت علة وإذا كانت علة عم الحكم جميع محالها فلا يتخصص ذلك بمورد النص انتهى .

                                                            وهذا الخلاف المذكور في محل السجود قيل هو في الأولوية فقد قال ابن عبد البر إنهم أجمعوا على أنه لو سجد بعد السلام فيما قالوا فيه السجود قبل السلام أو سجد قبل السلام فيما قالوا فيه السجود بعد السلام لم يضره لأنه من باب قضاء القاضي باجتهاده لاختلاف الآثار والسلف فيه إلا أن مالكا أشد استثقالا لوضع السجود الذي بعد السلام قبل السلام والله أعلم .

                                                            (قلت) وينبغي أن يحمل كلامه على اتفاق المالكية فإن الخلاف عند أصحابنا مشهور والمذهب أنه في الإجزاء لا في الأولوية والله أعلم .

                                                            (الثانية والأربعون) استدل به على أن سهو الإمام يتعلق بالمأمومين وإن لم يسهوا فيجب عليهم السجود معه بدليل سجود الصحابة معه وفيه نظر إذ لم ينقل أن أحدا منهم تخلف عن السلام معه لأنهم جوزوا قصر الصلاة كما ثبت في الحديث وإنما الحجة في ذلك وجوب متابعة الإمام ويعكر عليه أنه يشرع للمسبوق السجود في آخر صلاة نفسه أيضا إذا كان حضر سهو الإمام ولو سجد مع الإمام في آخر صلاته مع أنه لا متابعة [ ص: 24 ] في آخر صلاة المأموم .



                                                            (الثالثة والأربعون) قوله في رواية الصحيحين إحدى صلاتي العشي وهو بفتح العين وكسر الشين وتشديد الياء هذه الرواية المشهورة الصحيحة ووقع في بعض الروايات العشاء بكسر العين وفتح الشين والمد وهو وهم والعشي هو من الزوال إلى الغروب قاله أهل اللغة .

                                                            (الرابعة والأربعون) وقوله في رواية مسلم ثم أتى جذعا في قبلة المسجد فاستند إليها مغضبا فيه حجة لعامة العلماء أن استدبار القبلة في حق من خرج من الصلاة ساهيا قبل تمامها لا يمنع البناء خلافا لمن شذ فقال : إن استدبارها يمنع البناء ويوجب الاستئناف .

                                                            (الخامسة والأربعون) وقوله فاستند إليها مغضبا يوضح أن غضبه لم يكن لكلام ذي اليدين فإن هذا الغضب كان قبل أن يسأله ذو اليدين كما هو ظاهر الحديث وقال مسلم في حديث عمران بن حصين فذكر له صنيعه وخرج غضبان قال صاحب المفهم يحتمل أن يكون غضبه إنكارا على المتكلم إذ قد نسبه إلى ما كان يعتقد خلافه ويدل عليه قوله في الرواية الأخرى فقال قصرت الصلاة يا رسول الله فخرج مغضبا ويحتمل أن يكون غضبه لأمر آخر لم يذكره الراوي قال وكأن الأول أظهر وليس هذا اختلافا فإن واقعة عمران قصة أخرى غير الواقعة التي رآها أبو هريرة كما سيأتي وقد أشار صاحب المفهم إلى هذا بعد ذكر شرحه لحديث عمران لهذا الاختلاف .



                                                            (السادسة والأربعون) وقوله فصلى ركعتين وسلم ثم كبر المراد به التسليم من الصلاة فهو حجة لمالك ومن تابعه في السجود بعد السلام في الزيادة وأوله من خالف في ذلك بأنه أراد السلام في التشهد وهو قوله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وهو تأويل بعيد .

                                                            (السابعة والأربعون) فيه أنه يكبر لسجدتي السهو وللرفع منهما كسجود الصلاة وهو كذلك .

                                                            (الثامنة والأربعون) قوله في رواية مسلم ثم كبر ثم سجد ثم كبر ثم سجد ثم كبر فرفع إلى آخره استدل به بعض المالكية على أن سجدتي السهو يكبر لها تكبيرة قبل الشروع في السجدتين قالوا لأنه قال ثم كبر ثم سجد فظاهر تقدم التكبير عن السجود أنه ليس للسجود وقال في يقينها ثم كبر فرفع فأتى هنا بالفاء وهناك بثم وفيه نظر لأنه على هذا تخلو السجدة [ ص: 25 ] الأولى عن تكبير لها مع اتفاقهم على أنه يكبر لسجدتي السهو كسائر الصلاة .

                                                            (التاسعة والأربعون) يستدل بقوله فأتم ما بقي من الصلاة أن من نسي بعض الصلاة ثم تذكر وبنى أنه لا يحتاج إلى إحرام جديد لأن الإحرام المتقدم شملها كلها وقطعها سهوا لا يقطعها وهذا قول أكثر أهل العلم وخالف في ذلك ابن القاسم فقال يرجع إليها بإحرام واختلف أصحاب مالك أيضا في وجوب التكبير للإحرام وفرق بعض المالكية أيضا بين أن يقوم من مصلاه فيجب الإحرام وبين أن لا يقوم فلا يجب وقال أبو الوليد الباجي : إن سلم سهوا فلا حاجة إلى الإحرام ؛ وإن سلم قصدا على ظن التمام أحرم لعوده وإلا كان بناؤه عاريا عن الإحرام .

                                                            (الفائدة الخمسون) قد يستدل به على أنه يكبر قبل الشروع في الركعتين لأنه لم يكبر للقيام من الركعتين فقد بقي عليه التكبير فيبدأ به وهو محكي عن أصحاب مالك أو عن بعضهم (قلت) وينبغي تقييده بها إذا كان سلم من الركعتين أما لو سلم من ثلاث فلا لأنه أتى بالتكبير ولكنه كان للقيام فأتى به للجلوس ؛ وبالجملة فقد أتى بتكبير الانتقال والله أعلم .

                                                            وسيأتي في الفائدة التي تليها عن ابن حبيب ما يشبه ذلك في الجلوس وقوله في الرواية المتقدمة فصلى ركعتين ظاهر في أنه لم يكبر للانتقال إذ لو كان لنقل .



                                                            (الحادية والخمسون) اشترط بعض المالكية في عود الساهي إلى بقية صلاته أن يجلس ثم يقوم ولم ينقل هذا في شيء من طرق الحديث ولو كان لنقل وعللوه بأنه كان عليه أن يقوم لما بقي من صلاته فكان قيامه لا لذلك فيجلس ليكون قيامه للصلاة واختلفوا هل يجلس قبل التكبير أو بعده أو يكرر التكبير للجلوس والقيام فحكى أبو الوليد الباجي عن ابن القاسم أنه يكبر ثم يجلس وعن ابن شبلون يجلس ثم يكبر وعن علي بن عيسى الطليطلي إن سلم وهو جالس كبر للرجوع للصلاة ثم كبر أخرى يقوم بها وحكى ابن زرقون عن ابن القاسم أنه قال في المجموعة يجلس ثم يكبر وهو خلاف ما حكاه عنه الباجي وحكى الباجي عن ابن حبيب أنه إن سلم من ركعتين أو ثلاث دخل بإحرام ولم يجلس وقال ابن نافع لا يجلس مطلقا ولا فرق عنده بين أن يسلم من ركعة أو ركعتين لأن الجلوس للركعتين قد انقضى والقيام من ركعتين كالقيام من سجود ركعة .

                                                            (الثانية [ ص: 26 ] والخمسون) في حديث عمران بن حصين حجة على سحنون من المالكية حيث قال إنما يكون البناء فيما إذا سلم سهوا من اثنتين على ما في حديث ذي اليدين دون ما إذا سلم من ثلاث قال ابن دقيق العيد ولعله رأى أن البناء بعد قطع الصلاة ونية الخروج منها على خلاف القياس فيقتصر فيه على مورد النص قال والجواب عنه أنه إذا كان الفرع مساويا للأصل يلحق به وإن خالف القياس عند بعض أهل الأصول (قلت) ولا حاجة إلى هذا الجواب مع وروده نصا في الثلاث كما ثبت في صحيح مسلم وكما في حديث معاوية بن خديج أيضا نعم إن قاله في السلام من ركعة فجوابه ما ذكره والله أعلم .

                                                            (الثالثة والخمسون) فيه أنه يسلم من ركعتي السهو وإن أوقعهما بعد السلام من الصلاة لتصريحه به وهو كذلك على القول بأن محلهما بعد السلام فقد قال إمام الحرمين بناء عليه أن الحكم في السلام منهما كسجدة التلاوة والصحيح في سجدة التلاوة السلام منها وعلى هذا فيحرم لسجدتي السهو بتكبير له غير تكبير الهوي كالتلاوة سواء وحكى الباجي عن مالك في الإحرام لهما بعد السلام روايتين الإحرام ونفيه انتهى . وأما على القول بأن محلهما قبل السلام ولكن أخرهما الساهي سهوا أيضا فلا يحتاج لتحريم وسلام والله أعلم .

                                                            (الرابعة والخمسون) في حديث معاوية بن خديج أن الرجل الذي سأله قال له نسيت من الصلاة ركعة فجزم بنسيانه ولم يردد القول بين أن تكون الصلاة قصرت أو يكون نسي كما وقع في حديث أبي هريرة وغيره والجواب عنه من وجهين :

                                                            (أحدهما) أن هذه القصة غير قصة ذي اليدين لأن السائل في هذه طلحة بن عبيد الله فلا يكون هذا اختلافا في الحديث ولا يلزمه أن يسأل كما سأل غيره وقد كان هذا بعد أن وقع النسيان منه في قصة ذي اليدين لأن هذه القصة متأخرة عن تلك فإن معاوية أسلم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بشهرين كما قاله البيهقي والنووي فلما غلب على ظنه السهو جزم به وهذا مع تقدم حديث عبد الله بن مسعود وقوله لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكموه فلما لم ينبئهم بنقصان الصلاة في هذه المرة الأخيرة جزم طلحة بالنسيان .

                                                            (والوجه الثاني) أن كلام طلحة ليس خبرا وإنما هو استفهام وحذف همزة الاستفهام كثير شائع فليس فيه الجزم بوقوع [ ص: 27 ] النسيان والله أعلم .

                                                            (الخامسة والخمسون) لم ينقل من حديث معاوية بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الصحابة عما قال له الرجل الذي سأله هل هو كما قال له كما فعل في قصة ذي اليدين بل ذكر أنه رجع فأتم الصلاة والجواب عنه من وجوه :

                                                            (أحدها) أنه يجوز أن مراتب الأخبار متفاوتة باختلاف حال من أخبر بها فلما كان السائل هنا طلحة بن عبيد الله أحد العشرة الذي أخبر الصادق عنه أنه من أهل الجنة ترجح عنده خبره فعمل به من غير أن يسأل عنه بخلاف ذي اليدين فإنه أعرابي لا يبلغ مرتبة طلحة وقد تقدم قول مسدد أن ذا اليدين رجل من العرب كان يكون بالبادية فيجيء فيصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فاحتاج في خبره إلى من يتابعه عليه وإن ثبتت صحبته فمراتب الصحابة مختلفة ويكون في هذا حجة لأحد القولين عن مالك أنه يرجع إلى قول الرجل الواحد من المأمومين .

                                                            (والوجه الثاني) أنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم تذكر نسيانه للركعة حين أخبره طلحة فلم يحتج إلى أن يستفهم من أحد من بقية المأمومين .

                                                            (والوجه الثالث) أنه لا يلزم من عدم نقل سؤاله للحاضرين عدم وقوعه فلعله سألهم كما فعل في قصة ذي اليدين واختصره الراوي فذكر منه ما آل إليه الأمر من إعادة الركعة دون تمام بقية القصة والله أعلم .

                                                            (والوجه الرابع) أن خبر طلحة وإن لم يوجب عوده لإتمام الصلاة فإنه يحدث شكا في إكمال الصلاة فأما أن يجب الإتمام على أحد القولين في وجوبه ولو وقع الشك بعد الفراغ أو فعله احتياطا على تقدير كون الشك بعد الفراغ لا يؤثر في العبادة وفيه نظر .

                                                            (السادسة والخمسون) قد يقول القائل إذا كان لم ينقل في حديث معاوية سؤاله للحاضرين واحتمل أن يكون اعتمد خبر طلحة أو تذكر أو شك فأعاد وجوبا أو احتياطا فما وجه مشيه في خروجه ودخوله المسجد وهذا كله ينافي البناء بعد الاطلاع على أن الصلاة لم تتم ؟ والجواب أنا لا نسلم تذكره عقب خبره قبل أن يخرج بنيته ولا القطع بأنه لم يسأل الحاضرين فلعله خرج إلى المسجد فتذكر فيه أنه نسي أو خرج فسأل في المسجد أو اعتمد خبرا يبلغ التواتر كما اختاره ابن عبد السلام وصاحب المفهم كما تقدم .

                                                            (السابعة والخمسون) فإن قيل فأمره بلالا بالإقامة إنما يكون بعد أن عرف أنه لم يتم صلاته فما [ ص: 28 ] وجه أمره إياه بذلك وكذلك إقامة بلال الصلاة وهو في أثناء صلاة لم تتم وفيها ما ليس بذكر وهو قوله قد قامت الصلاة فهذا كلام ليس من جنس الصلاة فما وجهه ؟ والجواب عنه أنه لا يتعين حمل الأمر على النطق فلعله أمره بالإيماء أو الإشارة وعلى تقدير أن يكون أمره بالنطق فهو حجة لمالك ومن ذهب إلى أن الكلام بما يصلح الصلاة لا يفسدها وأما إقامة بلال الصلاة فلا يلزم أن يكون المراد به الإقامة المشروعة في أول الصلاة فلعل المراد به إعلامهم بعوده صلى الله عليه وسلم لإتمام صلاته بإيماء أو إشارة أو نطق على قول مالك ومن تابعه وعلى تقدير أن يكون أقام الصلاة كما يقيم عند ابتداء الصلاة فلا نسلم أن قوله قد قامت الصلاة يبطلها فقد قال أصحابنا إنه لو نذر في الصلاة بأن قال نذرت كذا وكذا وسمى قربة من القرب لم تبطل صلاته وعللوه بكونه قربة فإقامة بلال للصلاة من هذا القبيل لا سيما إن كان لا يجتمع من خرج من المسجد قبل إتمام الصلاة إلا بذلك مع وجوب البيان عند الحاجة والله أعلم .

                                                            (الثامنة والخمسون) قد يستدل المالكية بإقامة بلال الصلاة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن عود الناس إلى الصلاة يحتاج إلى تحرم كابتداء الصلاة لأن الإقامة مشعرة بابتداء وتحرم وفيه نظر إذ الإحرام الأول باق لا يبطله النسيان بخلاف جمع من تفرق من المأمومين فقد لا يجمعهم إلا الإقامة على تقدير وقوع الإقامة المشروعة في الابتداء على أن ذكر الإقامة في حديث معاوية بن خديج مخالف لجميع طرق أحاديث السهو في الصلاة فهي شاذة وحكمه عدم الاحتجاج والله تعالى أعلم .

                                                            (التاسعة والخمسون) قوله في الأحكام وذكر أن الرجل طلحة بن عبيد الله أي وذكر معاوية ذلك بتعريف من عرف معاوية بأنه هو فإنه لم يكن يعرفه كما هو مبين في الحديث عند أبي داود وغيره فقال في آخره فأخبرت به الناس فقالوا لي أتعرف الرجل قلت لا إلا أن أراه فمر بي فقلت هذا هو فقالوا هذا طلحة بن عبيد الله انتهى .

                                                            والذين عرفوه به وإن لم يسمهم فإنهم الصحابة وكلهم عدول والله تعالى أعلم .

                                                            (الفائدة الستون) ما ذكر في الجمع بين اختلاف هذه الأحاديث من أن حديث معاوية بن خديج قصة أخرى غير قصة حديث عمران بن حصين وغير حديث أبي هريرة هو ما نقله النووي في الخلاصة [ ص: 29 ] عن المحققين وسبب اختلاف حديث معاوية بن خديج وعمران وإن كان في كل منهما أنه سلم من ثلاث أن السائل له في حديث معاوية طلحة وفي حديث عمران الخرباق وقد جمع ابن عبد البر بجمع آخر فقال في التمهيد ما ذكر في حديث معاوية من ذكر طلحة فيمكن أن يكون طلحة أيضا كلمه وغيره وليس في أن يكلمه طلحة وغيره ما يدفع أن ذا اليدين كلمه أيضا فأدى كل ما سمع على حسب ما سمع وكلهم اتفقوا في المعنى المراد من الحديث وهو البناء بعد الكلام لمن ظن أنه قد أتم انتهى .

                                                            وما ذكرته في الجمع أن لأبي هريرة قصتين قلدت فيه النووي فقد حكاه في الخلاصة عن المحققين ثم ترجح عندي أنها قصة واحدة كما بينته في الفائدة الثانية والله أعلم .




                                                            الخدمات العلمية