الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب صلاة الخوف عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال يتقدم الإمام وطائفة من الناس فيصلي لهم الإمام ركعة وتكون طائفة منهم بينه وبين العدو لم يصلوا فإذا صلى الذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلوا ولا يسلمون ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون معه ركعة ثم ينصرف الإمام وقد صلى ركعتين فيقوم كل واحدة من الطائفتين وقد صلوا ركعتين كذا في أصل سماعنا والصواب من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعة بعد أن ينصرف الإمام فيكون كل واحد من الطائفتين قد صلى ركعتين هكذا في النسخ الصحيحة فإن كان الخوف هو أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها قال نافع لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البخاري على الصواب وقال في الصلاة وزاد ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانوا أكثر من ذلك فليصلوا قياما وركبانا لم يشك في رفعه وفي رواية لهما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة مواجهة العدو ثم انصرفوا وقاموا الأخرى في مقام أصحابهم مقبلين على العدو وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة لفظ مسلم وفي رواية للبخاري غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فوازينا العدو فصافنا لهم

                                                            التالي السابق


                                                            [ ص: 130 ] باب صلاة الخوف عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال : يتقدم الإمام وطائفة من الناس فيصلي لهم الإمام ركعة وتكون طائفة منهم بينه وبين العدو لم يصلوا فإذا صلى الذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلوا ولا يسلمون ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون معه ركعة ثم ينصرف الإمام وقد صلى ركعتين فتقوم كل واحدة من الطائفتين قد صلوا ركعتين كذا في أصل سماعنا والصواب من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعة بعد أن ينصرف الإمام فتكون كل واحدة من الطائفتين قد صلوا ركعتين هكذا في النسخ الصحيحة فإن كان خوف هو أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها [ ص: 131 ] قال نافع لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (فيه) فوائد : (الأولى) رواه البخاري في التفسير من صحيحه عن عبد الله بن يوسف عن مالك على الصواب الذي أورده المصنف رحمه الله وحكاه عن النسخ الصحيحة وأما السقط الذي وقع في أصل سماعنا فلعله من الناسخ لكن لما لم يكن في الرواية لم يمكن للمصنف رحمه الله ذكره إلا مع البيان مع أنه في رواية يحيى بن يحيى وغيره عن مالك واتفق عليه الشيخان والنسائي من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر نحوا من قول مجاهد إذا اختلطوا قياما وزاد ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانوا أكثر من ذلك فليصلوا قياما وركبانا لفظ البخاري ولفظ مسلم والنسائي صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف في بعض أيامه فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو فصلى بالذين معه ركعة ثم ذهبوا وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة ثم قضت الطائفتان ركعة ركعة زاد مسلم قال وقال ابن عمر فإذا كان خوف أكثر من ذلك فصلى راكبا أو قائما يومئ إيماء وما أشار إليه في رواية البخاري هو قول مجاهد إذا اختلطوا فإنما هو الإشارة بالرأس والتكبير وأخرجه ابن ماجه [ ص: 132 ] من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف أن يكون الإمام يصلي بطائفة معه فيسجدون سجدة واحدة وتكون طائفة منهم بينهم وبين العدو ثم ينصرف الذين سجدوا السجدة مع أميرهم ثم يكونوا مكان الذين لم يصلوا ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون مع أميرهم سجدة واحدة ثم ينصرف أميرهم وقد صلى صلاته ويصلي كل واحدة من الطائفتين بصلاته سجدة لنفسه فإن كان خوفا أشد من ذلك فرجالا أو ركبانا قال يعني بالسجدة الركعة وأخرجه الأئمة الخمسة من طريق معمر والبخاري والنسائي من طريق شعيب بن أبي حمزة ومسلم من طريق مليح بن سليمان ثلاثتهم عن الزهري عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة

                                                            لفظ مسلم من طريق معمر ولفظ الآخرين بمعناه ولفظ البخاري من طريق شعيب بن أبي حمزة غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل نجد فوازينا العدو فصافنا لهم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي لنا فقامت طائفة معه تصلي وأقبلت طائفة على العدو وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه وسجد سجدتين ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل فجاءوا فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلم فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين ولفظ النسائي بمعناه ورواه النسائي أيضا من رواية الزهري عن ابن عمر من غير ذكر سالم وقد اختلف في سماع الزهري من ابن عمر وقال ابن السني الزهري سمع من ابن عمر حديثين ولم يسمع هذا منه .

                                                            (الثانية) فيه إثبات صلاة الخوف واستمرارها وأنها لا تختص بزمنه عليه الصلاة والسلام لفتوى ابن عمر وغيره من الصحابة بها بعد النبي صلى الله عليه وسلم وفعلهم لها في عدة أماكن وبهذا قال جمهور العلماء من السلف والخلف وخالف في ذلك إبراهيم ابن علية وأبو يوسف والمزني والحسن اللؤلؤي فقالوا إنها غير مشروعة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك الآية وقال الجمهور [ ص: 133 ]

                                                            الأصل في الأحكام التشريع حتى يقوم دليل على التخصيص فهو كقوله تعالى خذ من أموالهم صدقة وليس ذلك من خصائصه اتفاقا وإن كان هو المخاطب به فالحكم بعده باق لا سيما وقد قال عليه الصلاة والسلام صلوا كما رأيتموني أصلي .

                                                            (الثالثة) فيه أن المشروع في صلاة الخوف فيما إذا كان العدو في غير جهة القبلة أن يفرق الإمام الناس فرقتين فرقة ينحاز بهم إلى حيث لا يبلغهم سهام العدو فيفتتح بهم الصلاة ويصلي بهم ركعة وفرقة في وجه العدو فإذا قام إلى الركعة الثانية لم يتم المقتدون به الصلاة بل يذهبون إلى مكان إخوانهم وجاه العدو وهم في الصلاة فيقفون سكوتا وتجيء تلك الطائفة فتصلي مع الإمام ركعته الثانية فإذا سلم الإمام صلت كل من الطائفتين الركعة التي بقيت عليها وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه وأشهب صاحب مالك والأوزاعي والصحيح من قولي الشافعي جواز هذه الكيفية لصحة الحديث فيها وعدم المعارض وبه قال أحمد بن حنبل ومحمد بن جرير الطبري لكنهم اختاروا كيفية أخرى وهي أن الإمام إذا قام إلى الثانية خرج المقتدون عن متابعته وأتموا لأنفسهم الركعة الثانية وتشهدوا وسلموا وذهبوا إلى وجه العدو وجاء أولئك فاقتدوا به في الثانية ويطيل الإمام القيام إلى لحوقهم فإذا لحقوه صلى بهم الثانية فإذا جلس للتشهد قاموا وأتموا الثانية وهو ينتظرهم فإذا لحقوه سلم بهم .

                                                            وهذه رواية سهل بن أبي حثمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ثابتة في الصحيحين فاختارها الشافعي وأحمد وغيرهما لسلامتها من كثرة المخالفة ولأنها أحوط لأمر الحرب مع تجويزهم الكيفية الأخرى وكذا نقل ابن عبد البر اختيار هذه الكيفية عن عبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن يحيى النيسابوري وداود وطائفة من أصحابه وشرط القاضي من الحنابلة في هذه الكيفية أن يكون العدو في غير جهة القبلة .

                                                            ونص أحمد على خلافه فقيل له حديث سهل نستعمله مستقبلين القبلة كانوا أو مستدبرين ؟ قال نعم هو إنكار ، وللشافعي قول آخر أنه لا يصح صلاة الخوف على الكيفية التي في حديث ابن عمر وادعى ناصر هذا القول أنها منسوخة وهو مردود إذ النسخ لا يثبت بغير دليل وقال بعض الآخذين بحديث ابن عمر إن حديث سهل بن أبي حثمة مخالف سنتين من [ ص: 134 ] سنن الصلاة المجمع عليها لأن فيه أن الطائفة الأولى تصلي الركعة الثانية قبل أن يصليها الإمام وتسلم قبل إمامها وهذا لا يجوز عند الجميع في غير هذا الموضع وذهب المالكية إلا أشهب إلى الكيفية التي في حديث سهل بن أبي حثمة .

                                                            وظاهر كلامهم عدم إجازة الكيفية التي في حديث ابن عمر ثم إن المشهور عند المالكية أن الإمام يسلم وتأتي الطائفة الثانية بالركعة التي بقيت عليها بعد سلامه وبه قال أبو ثور والشافعية والحنابلة يقولون ينتظرهم حتى يأتوا بالركعة فإذا لحقوه سلم كما تقدم وزعم ابن حزم أن ما قاله مالك في ذلك لم يأت في شيء مما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصلا ولم يجده عن أحد قبله إلا عن سهل بن أبي حثمة .



                                                            (الرابعة) دل هذا الحديث على أن كلا من الطائفتين تصلي الركعة التي بقيت عليها بعد سلام الإمام وهو كذلك إلا أنه لا سبيل إلى فعلهم ذلك في حالة واحدة لما فيه من تضييع أمر الحرب باشتغال الطائفتين معا بالصلاة فلا بد وأن تصلي إحدى الفرقتين بعد الأخرى ولا سبيل إلى فعل ذلك وهم في مواجهة العدو إذ لا يمكنهم مع ذلك مراعاة الشروط المعتبرة فلا بد من مجيئهم إلى موضع الصلاة ليتموها هناك لكن أي الفرقتين تتم صلاتها أولا الأولى أم الثانية ؟ .

                                                            ليس في حديث ابن عمر إفصاح عن ذلك وإنما فيه أن كلا من الطائفتين يصلون لأنفسهم ركعة بعد أن ينصرف الإمام وهذا صادق بكل منهما والذي ذكره الحنفية أن الأولى تعود إلى موضع الصلاة وتتم صلاتها ثم تذهب إلى وجه العدو ثم تجييء الطائفة الثانية إلى موضع الصلاة وتتم صلاتها وكذا ذكره الشافعية تفريعا على إجازة الكيفية التي رواها ابن عمر والذي ذكره أشهب أن الطائفة الثانية تكمل صلاتها وتذهب إلى وجه العدو ثم تجيء حينئذ الطائفة الأولى وتأتي بما بقي من صلاتها وقد يشهد له ما في سنن أبي داود من حديث ابن مسعود فقال بعد ذكر صلاة الخوف كما في حديث ابن عمر ثم سلم فقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا

                                                            فالظاهر أنه إنما أشار بأولئك التي هي إشارة البعيد إلى الفرقة التي كانت بعيدة عن الإمام وقت سلامه وهي الفرقة الأولى وذكر ابن عبد البر والنووي في شرح مسلم أن [ ص: 135 ] أبا حنيفة أخذ بهذا والذي في كتب أصحابه ما قدمته وذكر الرافعي في حديث ابن عمر أن التي بدأت بقضاء الركعة الطائفة الأولى وقال والدي رحمه الله في شرح الترمذي إنه لا أصل لهذه الزيادة في حديث ابن عمر في كتب الحديث وأن حديث ابن مسعود أيضا لم يصح قال وما وقع في حديث ابن مسعود من قضاء الطائفة الثانية بعد تسليم الإمام وراءه أولى لأنه أقل أفعالا في صلاتهم من رجوعهم إلى العدو ثم عودهم إلى مصلاهم لقضاء الركعة .

                                                            قال وهو موافق لرواية مالك عن يحيى بن سعيد في حديث سهل بن أبي حثمة في كون الذين صلوا خلفه ركعته الثانية قاموا وراءه فصلوا لأنفسهم ركعة والله أعلم .

                                                            وقال النووي في شرح مسلم قيل إن الطائفتين قضوا ركعتهم الباقية معا وقيل مفترقين وهو الصحيح وحكى القاضي عياض الأول عن ابن حبيب والثاني عن أشهب وحكى ابن حزم مثل ما قاله ابن حبيب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وإبراهيم النخعي إلا قوله إن الطائفة الأولى لا تقرأ في ركعتها التي تقضيها كما سنحكيه عنه في الفائدة السابعة .



                                                            (الخامسة) ظاهر إطلاقه الطائفة أنه لا فرق بين أن يتساوى عدد الطائفتين أو تكون إحدى الطائفتين أكثر عددا وهو كذلك إلا أنه يشترط أن تكون الطائفة التي تحرس يحصل بها الثقة في التحصن من العدو فلا بد أن يكون فيها مقاومة للعدو .

                                                            (السادسة) ذهب بعض الحنابلة إلى أنه يشترط أن تكون كل طائفة ثلاثة نفر فما زاد لأن الطائفة اسم جمع وأقل الجمع ثلاثة وأيضا فقد عبر عن الطائفة بضمير الجمع في قوله لم يصلوا وما بعده من الضمائر قاله أبو الخطاب الحنبلي وقال القاضي منهم إن كانت كل طائفة أقل من ثلاثة كرهناه لأن أحمد ذهب إلى ظاهر فعل النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن قدامة والأولى أن لا يشترط هذا لأن ما دون الثلاثة عدد تصح به الجماعة ولا يشترط أن يكون عدد المصلين عدد الصحابة ولذلك اكتفينا بثلاثة ولم تكن الصحابة كذلك وقال ابن حزم الظاهري من حضره خوف وهم ثلاثة فصاعدا فأميرهم مخير بين أربعة عشر وجها وساق الكلام على ذلك فاعتبر الثلاثة في المجموع لا في كل فرقة ولا شك أن أقل عدد يمكن تفريقهم فرقتين مع الصلاة في جماعة ثلاثة الإمام

                                                            [ ص: 136 ] ومعه في إحدى الركعتين واحد وفي الأخرى آخر ولم يشترط الأكثرون لذلك عددا وقالوا الطائفة لغة القطعة من الشيء قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين واحد فما فوقه ويدل لذلك قوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة فالفرقة ثلاثة فما زاد والطائفة واحد أو اثنان لكن كره الشافعي كون الطائفة أقل من ثلاثة ولم يوجب ذلك وعبارته في الأم فإن حرسه أقل من ثلاثة أو كان معه في الصلاة أقل من ثلاثة كرهت ذلك له لأن أقل اسم الطائفة لا يقع عليهم ولا إعادة على أحد منهم بهذا الحال لأن ذلك إذا أجزأ الطائفة أجزأ الواحد إن شاء الله انتهى .



                                                            (السابعة) اختلف الحنفية والشافعية فيما إذا أتت الطائفة الأولى بالركعة التي بقيت عليها هل يأتي فيها بقراءة أم لا ، فقال الحنفية لا قراءة فيها مع اعترافهم بقراءة الطائفة الثانية في ركعتها التي بقيت عليها وفرقوا بينهما بأن الأولى لاحقة والثانية مسبوقة وقال الشافعية لا بد من القراءة في حق الطائفتين معا وهو ظاهر قوله فيصلون لأنفسهم ركعة إذ الركعة المعهودة شرعا مشتملة على القراءة وقال ابن حزم إن القول بعدم قراءة الطائفة الأولى في الركعة التي بقيت عليها زاده أبو حنيفة ولا يعرف عن أحد من الأمة قبله .



                                                            (الثامنة) تسمية هذه الصلاة صلاة الخوف يقتضي فعلها عند كل خوف لكن بشرط أن لا يكون ذلك القتال معصية فيجوز في قتال الكفار ولأهل العدل في قتال البغاة والرفقة في قتال قطاع الطريق ولا يجوز للبغاة والقطاع أن يصلوا صلاة يرتكبون فيها ما لا يباح في غير حالة الخوف لما في ذلك من إعانتهم على معصيتهم أما ما يباح في حالة الأمن من كون الإمام يصلي بكل من الطائفتين جميع الصلاة فلا يمنع منه العصاة إذ لا ترخص فيه والله أعلم .



                                                            (التاسعة) مشروعية صلاة الخوف تدل على تأكد أمر الجماعة فإن ارتكاب هذه الأمور التي لا تغتفر في غير صلاة الخوف سببه المحافظة على الجماعة فلو صلوا منفردين لم يحتاجوا إلى شيء من ذلك .



                                                            (العاشرة) ظاهر حديث ابن عمر يقتضي أنه لا فرق في صلاة الخوف على هذه الكيفية بين أن يكون العدو في غير جهة القبلة أو في جهتها وبه قال [ ص: 137 ] أبو حنيفة فلم يفرقوا ولما قالت المالكية بحديث سهل بن أبي حثمة لم يفرقوا فيه أيضا بين أن يكون العدو في جهة القبلة أو في غير جهتها وذهب الشافعي وأحمد والأكثرون إلى حمل حديث ابن عمر وسهل بن أبي حثمة وما في معناهما على ما إذا كان العدو في غير جهة القبلة أو كان في جهة القبلة لكن بينهم وبين المسلمين حائل يمنع رؤيتهم لو هجموا فإن كانوا في جهة القبلة بلا حائل فالمشروع حينئذ صلاته عليه الصلاة والسلام بعسفان وهو أن يرتبهم الإمام صفين ويحرم بالجميع فيصلوا معه إلى أن ينتهي إلى الاعتدال عن ركوع الركعة الأولى فيسجد معه صف ويحرس آخر فإذا قام الإمام والساجدون سجد أهل الصف الآخر ولحقوه فقرأ الجميع معه وركعوا واعتدلوا فإذا سجد سجد معه الحارسون في الركعة الأولى وحرس الآخرون فإذا جلس للتشهد سجدوا ولحقوه وتشهدوا كلهم معه وسلم بهم وهذه ثابتة في صحيح البخاري وغيره من حديث ابن عباس قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام الناس معه فكبر وكبروا معه وركع وركع ناس منهم معه ثم سجد وسجدوا معه ثم قام الثانية فقام الذين سجدوا وحرسوا إخوانهم وأتت الطائفة الأخرى فركعوا وسجدوا معه والناس كلهم في صلاة ولكن يحرس بعضهم بعضا وفي رواية للنسائي أنهم ركعوا معه جميعا وإنما كانت الحراسة في السجود وكذا في صحيح مسلم عن جابر صفنا صفين والمشركون بيننا وبين القبلة قال فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبرنا وركع فركعنا ثم سجد وسجد معه الصف الأول فلما قاموا سجد الصف الثاني ثم تأخر الصف الأول وتقدم الثاني فقام مقام أولئك فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبرنا وركع فركعنا ثم سجد وسجد معه الصف الأول وقام الثاني فلما سجدوا سجد الصف الثاني ثم جلسوا جميعا الحديث وحكى القاضي عياض والنووي عن ابن أبي ليلى وأبو يوسف الأخذ بهذا الحديث وهو صلاة عسفان إذا كان العدو في جهة القبلة وحكى ابن عبد البر عن ابن أبي ليلى أنه أخذ به على كل حال كان العدو في القبلة أو لم يكن قال أبو داود في سننه وهو قول سفيان الثوري وحكى ابن عبد البر أن الثوري مرة أخذ بهذا ومرة أخذ بحديث ابن مسعود كقول أبي حنيفة والمشهور من [ ص: 138 ] مذهب الشافعي أن الحراسة في السجود خاصة دون الركوع وكذا قال الحنابلة ولهذه الصلاة تفاصيل وتفاريع مذكورة في كتب الفقه وقال الشافعي رحمه الله في الأم لو صلى الإمام في مثل هذه الصورة مثل صلاة الخوف يوم ذات الرقاع ومن معه كرهت له ولم يبن أن على أحد ممن خلفه إعادة ولا عليه انتهى .

                                                            (الحادية عشرة) ليس في كلام ابن عمر بذكر هذه الكيفية نفي ما عداها من الكيفيات وقد قال الشافعي رحمه الله بعد اختياره الكيفية التي في حديث سهل بن أبي حثمة على الكيفية التي في حديث ابن عمر يحتمل أن يكون لما جاز أن تصلى صلاة الخوف على خلاف الصلاة في غير الخوف جاز لهم أن يصلوها كيف تيسر لهم وبقدر حالاتهم وحالات العدو إذا أكملوا العدد فاختلفت صلاتهم وكلها مجزئة عنهم .

                                                            قال البيهقي هذا هو الأولى بالشافعي رحمه الله في متابعته الحديث إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان له وجه اتباع وقال أحمد بن حنبل قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف على أوجه وما أعلم في هذا الباب إلا حديثا صحيحا واختار حديث سهل بن أبي حثمة وقال إسحاق بن راهويه ثبتت الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف ورأى أن كل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف فهو جائز وهذا على قدر الخوف قال ولسنا نختار حديث سهل بن أبي حثمة على غيره من الروايات وقال الخطابي صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة وأشكال متباينة يتحرى في كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى وذكر ابن عبد البر في التمهيد أحاديث صلاة الخوف .

                                                            وقال فهذه ستة أوجه كلها ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة النقل وقد قال بكل وجه منها في صلاة الخوف طائفة من أهل العلم وقد قال أحمد بن حنبل والطبري وبعض أصحاب الشافعي بجواز كل وجه منها قال والوجه المختار من هذا الباب - على أنه لا يخرج عندي من صلى بغيره مما قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم - هو الوجه المذكور في حديث ابن عمر وما كان مثله لأنه ورد بنقل الأئمة من أهل المدينة وهم الحجة على من خالفهم ولأنه أشبه بالأصول لأن الطائفة الأولى والثانية لم يقضوا الركعة إلا بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 139 ] من الصلاة وهو المعروف من سننه المجتمع عليها في سائر الصلوات قال وأما صلاة الطائفة الأولى ركعتها قبل أن يصليها إمامها فهو مخالف للسنة المجتمع عليها في سائر الصلوات ومخالف لقوله صلى الله عليه وسلم إنما جعل الإمام ليؤتم به .

                                                            قال والحجة في اختيارنا هذا الوجه أنه أصحها إسنادا وأشبهها بالأصول المجتمع عليها انتهى وذكر أبو داود في سننه لصلاة الخوف ثماني صور وذكرها ابن حبان في صحيحه تسعة أنواع وذكر القاضي عياض في الإكمال لصلاة الخوف ثلاثة عشر وجها وقال ابن حزم إنه يخير بين أربعة عشر وجها كلها صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال النووي في شرح مسلم .

                                                            روى أبو داود وغيره وجها آخر في صلاة الخوف بحيث يبلغ مجموعها ستة عشر وجها وقال والدي رحمه الله في شرح الترمذي وقد جمعت طرق الأحاديث الواردة في صلاة الخوف فبلغت سبعة عشر وجها ثم بسط ذلك في ثلاث ورقات فلتراجع منه .



                                                            (الثانية عشرة) كونه عليه الصلاة والسلام صلى بكل طائفة ركعة يدل على أن تلك الصلاة كانت ثنائية أو كانت رباعية لكنها مقصورة فلو كانت رباعية غير مقصورة صلى بكل طائفة ركعتين ولو كانت ثلاثية وهي المغرب فهو مخير بين أن يصلي بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة وبين أن يعكس فيصلي بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين وأيهما أولى ؟ فيه قولان للشافعي أصحهما أن الأول أولى وقال الحنفية والمالكية والحنابلة يصلي بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة وحكاه ابن قدامة عن الأوزاعي وسفيان الثوري .

                                                            (الثالثة عشرة) قد يستدل بهذا الحديث وغيره من أحاديث صلاة الخوف في تفريقهم فرقتين على أنه لا يجوز أن يفرقهم أربع فرق فيصلي بكل فرقة ركعة فيما إذا كانت الصلاة رباعية ولم تقصر ولا أن يفرقهم ثلاث فرق في المغرب فيصلي بكل فرقة ركعة إذ لم يرد ذلك في شيء من أحاديث الباب والرخص يقتصر فيها على ما ورد وهذا أحد قولي الشافعي وبه قال الحنابلة إن صلاة الإمام باطلة لزيادته على انتظارين ولم يعهد في صلاة الخوف سواهما وتبطل صلاة الطائفة الثالثة والرابعة لأنهم هم المقتدون به بعد بطلان صلاته وأما الطائفة الأولى والثانية فصلاتهم صحيحة لمفارقتهم الإمام قبل طريان المبطل كما جزم به الرافعي وقال النووي : فيهم قولا المفارقة بغير عذر والقول الثاني للشافعي وهو الأصح أن صلاة الإمام صحيحة [ ص: 140 ] فإنه قد تدعو الحاجة إلى ذلك وحينئذ ففي صلاة المأمومين قولان أصحهما صحتها أيضا قال إمام الحرمين وحيث جوزنا فيشترط أن تمس الحاجة إليه وتبعه الرافعي في المحرر وقال النووي في شرح المهذب لم يذكره الأكثرون والصحيح خلافه وقال سحنون في هذه المسألة صلاة الإمام وصلاة من خلفه فاسدة والصحيح عند المالكية أن الذي يبطل صلاة الأولى والثالثة خاصة وصلاة غيرهما صحيحة .



                                                            (الرابعة عشرة) ظاهر هذا الحديث أن صلاة الخوف لا تختص بحالة السفر بل يجوز فعلها في الحضر أيضا لكن الأحاديث الواردة في صلاة الخوف كلها كانت في السفر واختلف العلماء في ذلك والأكثرون على جواز فعلها في الحضر عند حصول الخوف واستدل له بعموم الآية في قوله تعالى وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة الآية فلم يخص ذلك بسفر وذكر بعضهم أن صلاته عليه الصلاة والسلام للخوف ببطن نخل كانت ببعض نخل المدينة لكن قال والدي رحمه الله المعروف أن الصلاة ببطن نخل هي غزوة ذات الرقاع انتهى وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد والأوزاعي وهو المشهور عن مالك وعنه رواية أخرى أنها تختص بالسفر وقال به من المالكية ابن الماجشون وروى البيهقي عن جابر أن قوله تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن هذا ليس قصر السفر وإنما هو قصر الخوف فيرد إلى ركعة وعلى هذا تكون الآية دالة على اختصاص صلاة الخوف بالسفر والله أعلم .



                                                            (الخامسة عشرة) كون الإمام يصلي بكل طائفة بعض الصلاة وتتم لنفسها ما بقي ليس لازما فلو صلى بكل طائفة جميع الصلاة فيكون الإمام مفترضا في الصلاة الأولى ومتنفلا في الثانية جاز وهي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ببطن نخل وقد رواها مسلم في صحيحه من حديث جابر قال أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع فذكر الحديث فيه ونودي بالصلاة فصلى بطائفتين ركعتين ثم تأخروا فصلى بالطائفة الأخرى ركعتين قال فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان وذكره البخاري تعليقا ورواه أبو داود والنسائي من حديث أبي بكرة وفيه [ ص: 141 ] التصريح بأنه عليه الصلاة والسلام سلم بعد الركعتين وكذا رواه النسائي وغيره من حديث جابر وقال به الشافعي وأحمد وحكوه عن الحسن البصري قال ابن عبد البر وهو مذهب الأوزاعي وابن علية وداود وجماعة انتهى ولم تقل به الحنفية والمالكية لمنعهم اقتداء المفترض بالمتنفل وذكر الطحاوي أن ذلك كان في أول الإسلام إذ كان يجوز أن تصلى الفريضة مرتين ثم نسخ ذلك ورد عليه البيهقي وقال قد ادعى ما لا يعرف كونه قط في الإسلام قال النووي لا تقبل دعواه إذ لا دليل لنسخه ورد عليه والدي رحمه الله في شرح الترمذي بأن أبا بكرة إنما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أواخر سنة ثمان من الهجرة في غزوة الطائف قال وليت شعري ما الذي نسخه ؟ فإن أراد بالناسخ حديث ابن عمر لا تصلوا صلاة في يوم مرتين رواه أبو داود فليس هذا ناسخا فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بإعادة الصلاة في الجماعة في حجة الوداع كما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث يزيد بن الأسود فذكر حديثا فيه إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة. وأمر عليه الصلاة والسلام جماعة من الصحابة بإعادة الصلاة في جماعة بعد أن صلوها منهم أبو ذر كما رواه مسلم ويزيد بن عامر رواه أبو داود ومحجن بن أبي محجن الديلي رواه النسائي فإن قال إنما أمرهم بالإعادة لأنهم صلوا في غير جماعة فأمرهم بالصلاة في جماعة لتحصيل فضيلتها قلنا وقد أمر من صلى في جماعة بإعادتها لتحصيل الجماعة لغيره ممن لم يدركها .

                                                            رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال جاء رجل وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أيكم يأتجر على هذا ؟ فقام رجل وصلى معه لفظ الترمذي .

                                                            وقال أبو داود ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة جماعة بعد أن صليت جماعة في مرض موته حين صلى عمر بالناس فبعث إلى أبي بكر فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس رواه أبو داود

                                                            فلا تنكر حينئذ صلاته عليه الصلاة والسلام بالطائفة الثانية لتحصيل الجماعة لهم ولو أمر رجلا يصلي بالطائفة الأخرى لما كان به بأس لكنهم كانوا يتنافسون في الصلاة خلفه فأراد أن يعمهم بالصلاة معه بل في صلاة الخوف على هذا الوجه أمور لا تصلح في غير صلاة الخوف [ ص: 142 ] من ذهابهم إلى العدو واستدبارهم القبلة وهم في الصلاة كل ذلك لحرصهم على الصلاة معه وألا يفوز بذلك بعضهم دون بعض فأما صلاته بكل طائفة ركعتين فليس فيه شيء يخالف فعل الصلاة في غير الخوف .

                                                            هذا كلام والدي رحمه الله ولهذا المعنى الذي أبداه رجح أبو إسحاق المروزي صلاة الخوف على هذه الكيفية على صلاتها على الكيفية المشهورة التي في حديث ابن عمر أو سهل بن أبي حثمة وقال فيها تحصيل فضيلة الجماعة بالتمام لكل طائفة لكن الأصح عند أكثر أصحابنا الشافعية ترجيح تلك الكيفية لأنها أعدل بين الطائفتين ولأنها صحيحة بالاتفاق وهذه صلاة مفترض خلف متنفل وفي صحته الخلاف للعلماء والله أعلم .



                                                            (السادسة عشرة) ظاهر إطلاق الحديث أن صلاة الخوف تأتي في صلاة الجمعة أيضا إذا وجد الخوف فيها وقد قال أصحابنا الشافعية إنه يجوز أن يصليها على هيئة صلاة عسفان بأن يرتبهم صفين ويحرس في سجود كل ركعة صف على ما تقدم بيانه والذي نص عليه الشافعي وهو الصحيح المشهور أنه يجوز أن يصليها أيضا على هيئة صلاة ذات الرقاع لكن بشرطين :

                                                            (أحدهما) أن يخطب بهم جميعا ثم يفرقهم أو يخطب بفرقة ويجعل منها مع الفرقة الأخرى أربعين فصاعدا فلو خطب بفرقة وصلى بأخرى لم يجز (الثاني) ألا ينقص الفرقة الأولى عن أربعين ولا يضر نقص الثانية عن ذلك على الأصح قالوا ولا يجوز صلاة بطن نخل على الأصح إذ لا تقام جمعة بعد جمعة وهذا كله مبني على جواز صلاة الخوف في الحضر وهو المشهور من مذاهب العلماء كما تقدم وكذا قال الحنابلة يجوز أن تصلى الجمعة صلاة الخوف إذا كانت كل طائفة أربعين والله أعلم .



                                                            (السابعة عشرة) أحاديث صلاة الخوف ناسخة لجمعه عليه الصلاة والسلام يوم الخندق بين صلوات عديدة فكان حكم الشرع أولا جواز تأخير الصلاة للاشتغال بمحاربة العدو إلى أن ينقضي الشغل فيأتي بما فات ثم نسخ ذلك بصلاة الخوف والمشهور الذي عليه الجمهور أن أول مشروعية صلاة الخوف كان في غزوة ذات الرقاع .

                                                            واختلف في أي سنة كانت ؟ فقال ابن إسحاق وابن عبد البر في جمادى الأولى سنة أربع وقال ابن سعد وابن حبان وابن الأثير في المحرم سنة خمس وذكرها البخاري بعد غزوة بني قريظة فعلى هذا يكون في أواخر سنة [ ص: 143 ] خمس أو أوائل سنة ست وقال البخاري أيضا في باب غزوة ذات الرقاع وهي بعد خيبر لأن أبا موسى جاء بعد خيبر وهذا مقتضاه أن تكون سنة سبع لكنه أخر ذكر خيبر عن غزوة ذات الرقاع بخمس غزوات ومقتضاه أن تكون هي الغزوة السابعة وهو موافق لما في صحيح البخاري عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في الخوف في غزوته السابعة غزوة ذات الرقاع .

                                                            ومقتضى كونها بعد خيبر أن تكون هي الغزوة الثانية عشر فحصل خلاف هل هي سنة أربع أو خمس أو ست أو سبع والمشهور كما قال أبو الفتح اليعمري الأول وأما ما وقع في كلام الغزالي والرافعي من أنها آخر الغزوات فهو مردود وقد أنكره ابن الصلاح في مشكل الوسيط وقال ليست آخرها ولا من أواخرها وإنما آخر غزواته تبوك انتهى قال والدي رحمه الله في شرح الترمذي وهو كما ذكر باتفاق أهل السير وإن أراد أي الغزالي أنها آخر غزاة صلى فيها صلاة الخوف فليس بصحيح أيضا .

                                                            فقد صلى معه صلاة الخوف أبو بكرة وإنما نزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الطائف تدلى ببكرة فكني بها وليس بعد غزوة الطائف غزوة إلا غزوة تبوك ولذلك قال ابن حزم إن صفة صلاة الخوف في حديث أبي بكرة أفضل صفات صلاة الخوف لأنه آخر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لها انتهى .

                                                            وحكى النووي في شرح مسلم قولا آخر أن أول مشروعية صلاة الخوف كان في غزوة بني النضير

                                                            وفي سنن النسائي عن أبي عياش الزرقي قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف وعلى المشركين يومئذ خالد بن الوليد فقال المشركون لقد أصبنا لهم غزوة ولقد أصبنا منهم غفلة فنزلت يعني صلاة الخوف بين الظهر والعصرالحديث ورواه أبو داود بلفظ فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر .



                                                            (الثامنة عشرة) ذكر ابن القصار من المالكية أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف في عشرة مواطن وقال القاضي عياض وذكر غيره أكثر من هذا العدد وفي حديث ابن أبي حثمة وأبي هريرة وجابر أنه صلاها في يوم ذات الرقاع سنة خمس من الهجرة وفي حديث أبي عياش الزرقي أنه صلاها بعسفان ويوم بني سليم وفي حديث جابر في غزاة جهينة وفي غزاة بني محارب بنخل وروي أنه صلاها في غزوة بنجد يوم ذات الرقاع وهي غزوة نجد وغزوة غطفان قال وقد ذكر بعضهم صلاته إياها [ ص: 144 ] ببطن نخل على باب المدينة وعليه حمل بعضهم صلاتها بكل طائفة ركعتين لكن مسلم قد ذكرها في غزوة ذات الرقاع انتهى .

                                                            وفي سنن أبي داود من حديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام صلاها يوم ذي قرد وذكره البخاري تعليقا وقاله والدي رحمه الله في شرح الترمذي الظاهر أن ابن القصار لما رأى اختلاف الأحاديث في تسمية المواضع التي صلى بها صلاة الخوف اجتمع له منها عشرة فمن ذلك أن غزوة ذات الرقاع سميت بخمسة أسماء قال البخاري في صحيحه غزوة ذات الرقاع وهي غزوة محارب حفصة من بني ثعلبة من غطفان فنزل نخلا وقال الحاكم في كتاب الإكليل حين ذكر غزوة ذات الرقاع وقد تسمى هذه الغزوة غزوة محارب ويقال غزوة حفصة ويقال غزوة ثعلبة ويقال غطفان قال الحاكم وقال ابن إسحاق هذه غزوة بني لحيان هكذا حكى الحاكم عن ابن إسحاق والذي رأيته في السيرة قال ابن إسحاق حتى نزل نخلا وهي غزوة ذات الرقاع ، وأيضا فإن ابن إسحاق ذكر ذات الرقاع في سنة أربع وغزوة بني لحيان في سنة ست قال والدي رحمه الله - (التي) - صح أنه صلى بها صلاة الخوف من الغزوات ذات الرقاع وذو قرد وعسفان وكذلك صلاها في غزوة الطائف لصحة حديث أبي بكرة وإنما أسلم في غزوة الطائف وليس بعدها إلا تبوك وليس فيها لقاء للعدو والظاهر أن غزاة نجد مرتان وأن التي شهدها أبو موسى وأبو هريرة هي غزوة نجد الثانية لصحة حديثيهما في شهودها ويدل على ذلك أن في حديث جابر في صحيح ابن حبان وسئل عن إقصار صلاة الخوف أين أنزل وأين هو ؟ فقال خرجنا نتلقى عيرا لقريش أتت من الشام حتى إذا كنا بنخل الحديث وروى الحاكم في الإكليل بأسانيد إلى جابر أن خالنا قدم المدينة فأخبرهم أن أنمارا وثعلبة قد جمعوا لكم جموعا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقع فيها قتال وصلى صلاة الخوف وهذا كما ترى السبب مختلف وكيفية الصلاتين مختلفة وفي بعض طرق حديث جابر أنهم قاتلوا قتالا شديدا وفي هذا أنه لم يقع بينهم قال وقد صح عن أبي هريرة حضوره غزوة نجد وصح عن أبي موسى حضوره غزوة ذات الرقاع فدل ذلك على الخروج إليها مرتين [ ص: 145 ] بسببين مختلفين ويدل على ذلك أيضا إجماعهم على أن خيبر في السنة السابعة وأما من قال إنها في السادسة كما وقع في شرح العمدة للشيخ تقي الدين القشيري فكأنه حسب السنة ملفقة بأنها أول السابعة وهي آخر السادسة إذا عددنا من شهر الهجرة وهو شهر ربيع الأول وأما ما وقع في تعليق الشيخ أبي حامد أنها في سنة خمس فوهم قطعا ويحتمل أنه صلاها مرات في غزاة واحدة فقد ثبت أنه صلى بذات الرقاع الظهر والعصر وكذا صلى بعسفان الظهر والعصر وفي حديث أبي بكرة عند الدارقطني صلاته في الخوف بالقوم صلاة المغرب وأنه صلى بكل طائفة ثلاث ركعات هذا كله كلام والدي رحمه الله .



                                                            (التاسعة عشرة) هذا الحديث يقتضي منع كل من الطائفتين من الاقتصار على ركعة واحدة لكن ورد في عدة أحاديث ما يقتضي الاقتصار على ركعة فمنها ما رواه أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه من رواية ثعلبة بن زهدم قال كنا مع سعيد بن العاصي بطبرستان فقام فقال أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ؟ فقال حذيفة أنا فصلى لهؤلاء ركعة ولم يقضوا لفظ أبي داود وفي رواية النسائي بعد قول حذيفة أنا فوصف فقال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة ركعة صف خلفه وطائفة أخرى بينه وبين العدو وصلى بالطائفة التي تليه ركعة ثم نكص هؤلاء إلى مصاف أولئك وجاء أولئك فصلى بهم ركعة .

                                                            وروى النسائي أيضا من رواية القاسم بن حسان عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل صلاة حذيفة ولم يسق لفظه وأخرجه ابن حبان في صحيحه وساق لفظه بمعناه وفي آخره فكان للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان ولكل طائفة ركعة والقاسم بن حسان قال البخاري حديثه منكر ولا يعرف ووثقه ابن حبان .

                                                            وروى النسائي وابن حبان في صحيحه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بذي قرد فذكر نحوه وقال في آخره ولم يقضوا ويشهد له ما في صحيح مسلم عن ابن عباس قال فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة وفي سنن النسائي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف وفي آخره فكانت للنبي [ ص: 146 ] صلى الله عليه وسلم ركعتان ولهم ركعة فأخذ ابن حزم الظاهري بظاهر هذه الأحاديث وجوز لكل من الطائفتين الاقتصار على ركعة واحدة من غير قضاء ركعة أخرى وقال فهذه آثار متظاهرة متواترة وقال بها جمهور السلف كما روينا عن حذيفة أيام عثمان رضي الله عنه ومن معه من الصحابة لا ينكر ذلك أحد منهم وعن جابر وغيره روينا عن أبي هريرة أنه صلى بمن معه صلاة الخوف فصلاها بكل طائفة ركعة إلا أنه لم يقض ولا أمر بالقضاء ثم ساق آثارا عن السلف يشهد ظاهرها لما قال لشدة الخوف ثم قال وبه يقول سفيان الثوري وإسحاق بن راهويه وخرج ابن قدامة جواز ذلك على مذهب أحمد فقال بعد ذكر صلاة كل طائفة ركعة من غير قضاء فهذه الصلاة يقتضي عموم كلام أحمد جوازها لأنه ذكر ستة أوجه ولا أعلم وجها سادسا سواها قال وأصحابنا ينكرون ذلك قال القاضي لا تأثير للخوف في عدد الركعات قال وهذا قول أكثر أهل العلم منهم ابن عمر والنخعي والثوري ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وسائر أهل العلم من علماء الأمصار لا يجيزون ركعة والذي قال منهم ركعة إنما جعلها عند شدة القتال والذين روينا عنهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أكثرهم لم ينقصوا عن ركعتين وابن عباس لم يكن ممن يحضر النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته ولا يعلم ذلك إلا بالرواية عن غيره فالأخذ برواية من حضر الصلاة فصلاها مع النبي صلى الله عليه وسلم أولى انتهى كلام ابن قدامة وقال الشافعي في الأم وليس يثبت حديث روي في صلاة الخوف بذي قرد يعني الذي فيه الاقتصار على ركعة وقال ابن عبد البر يحتمل أن معناه لم يقضوا في علم الراوي لأنه قد روى غيره أنهم قضوا ركعة في تلك الصلاة بعينها والإثبات مقدم ويحتمل أن مراده لم يقضوا إذا أمنوا فلا يقضي الخائف إذا أمن ما صلى على تلك الهيئة ويحتمل قوله صلوا في الخوف ركعة أي في جماعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكت عن الثانية لأنهم صلوها أفرادا انتهى .

                                                            وذكر البيهقي حديث حذيفة من طريق وفيه فذكر صلاة مثل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان وقال فقول الراوي في رواية ثعلبة وصف يوازي العدو يريد به حالة السجود وقوله ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء وجاء أولئك يريد به تقدم [ ص: 147 ] الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم بعد الفراغ من الركعة الأولى وفي ذلك قضاء الركعتين مع الإمام فلا يحتاجون إلى قضاء شيء بعده والقصة واحدة فوجب حمل إحدى الروايتين على الأخرى مع ما فيه من الاتفاق لسائر الروايات انتهى .

                                                            وقال النووي في شرح مسلم لما ذكر حديث ابن عباس وفي الخوف ركعة عمل بظاهره طائفة من السلف منهم الحسن البصري والضحاك وإسحاق بن راهويه وقال الشافعي ومالك والجمهور إن صلاة الخوف كصلاة الأمن في عدد الركعات وتأولوا حديث ابن عباس على أن المراد ركعة مع الإمام وركعة أخرى يأتي بها منفردا كما جاءت الأحاديث الصحيحة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الخوف وهذا التأويل لا بد منه للجمع بين الأدلة انتهى واعلم أن محل القول بالاقتصار على ركعة في الخوف في غير الصبح والمغرب فإنه لا قصر فيهما وقد صرح بذلك ابن حزم والله أعلم .



                                                            (العشرون) جميع ما تقدم في غير حال شدة الخوف فأما إذا اشتد الخوف والتحم القتال ولم يتمكنوا من تركه بحال لقلتهم وكثرة العدو ولم يلتحم لكن لم يأمنوا أن يركبوا أكتافهم لو انقسموا فإنهم يصلون بحسب الإمكان ولا تجب عليهم مراعاة ما عجزوا عنه من الأركان وقد أشار في الحديث إلى ذلك بقوله فإن كان خوف هو أشد من ذلك إلى آخره فنبه على ترك القيام بقوله ركبانا وعلى ترك الاستقبال بقوله أو غير مستقبليها والمراد إذا عجزوا عن الاستقبال بسبب العدو فلو انحرف عن القبلة بجماح الدابة وطال الزمان بطلت صلاته ويمكن أن يقال إنه أشار إلى ترك الركوع والسجود والإيماء بهما عند العجز عنهما بقوله قياما على أقدامهم ويكون المراد أو قيامهم على أقدامهم في كل حالات الصلاة حتى في حالة الركوع والسجود فإنه لا معنى لإرادة القيام على الأقدام في حالة القيام فإن المصلي في حالة السعة كذلك إلا أن يقال ذكر ذلك توطئة لحالة الركوب كما ذكر استقبال القبلة توطئة لحالة ترك الاستقبال وقد صرح في رواية مسلم من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر بقوله تومئ إيماء وقد تقدم ذكره وهذا الذي ذكرته من الصلاة في هذه الحالة على حسب حاله هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء من السلف والخلف إلا أن المالكية قالوا يؤخرون [ ص: 148 ] الصلاة حتى يخافوا فوت الوقت فحينئذ يصلون على هذه الحالة ولم أر لأصحابنا تعرضا لذلك فإن أراد المالكية وجوب التأخير فكلام أصحابنا ينافيه وإن أرادوا استحبابه فلا تأباه قواعدهم وحكى أصحابنا عن أبي حنيفة أنه لا يصلي في هذه الحالة بل يؤخرها حتى تزول وحكاه ابن عبد البر وابن قدامة عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى وذكر ابن قدامة أنهما استدلا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة يوم الخندق وأجاب عنه ابن قدامة بأن أبا سعيد روى أن ذلك كان قبل نزول صلاة الخوف ثم قال ويحتمل أنه شغله المشركون فنسي الصلاة فقد نقل ما يدل على ذلك وأكده أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا في مسابقة توجب قطع الصلاة انتهى والذي في كتب الحنفية ومنهم صاحب الهداية أنه يصلي في حال شدة الخوف بالإيماء بالركوع والسجود وترك الاستقبال إذا لم يقدروا عليه لكن ليس لهم أن يقاتلوا في حال الصلاة فإن فعلوا بطلت صلاتهم فظهر بذلك أنهم أوجبوا الصلاة مع اختلال الأركان إلا في حالة الاحتياج للفعل الكثير المنافي للصلاة فلم يغتفروا ذلك وأخروا الصلاة لأجله فخالفوا الجمهور في هذه الصورة فقط لا مطلقا وقال الأوزاعي يصلون إيماء فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال ويأمنوا وبه قال مكحول وقال أنس حضرت مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة فلم يصلوا إلا بعد ارتفاع النهار فصليناها ونحن مع أبي موسى حكى ذلك البخاري في صحيحه واتفق المالكية والحنابلة على اغتفار القتال والأفعال الكثيرة المحتاج إليها وأما الشافعية فعندهم في ذلك ثلاثة أوجه أو أقوال (أصحها) وبه قال أكثرهم اغتفار ذلك عند الاحتياج إليه (والثاني) أن الصلاة تبطل به وحكاه العراقيون عن ظاهر نص الشافعي (والثالث) تبطل الصلاة إن كان في شخص ولا تبطل في أشخاص والشافعية تفريعا على الرأي الثاني عندهم لا يوافقون الحنفية على تأخير الصلاة عند الاحتياج إلى ذلك بل يوجبون التمادي في هذه الصلاة للضرورة مع حكمهم ببطلانها وفائدة ذلك وجوب الإعادة وقد نص على ذلك الشافعي في الأم فقال فيما إذا تابع الضرب أو الطعن لا تجزئه صلاته ويمضي فيها قال ولا يدعها في هذا الحال إذا [ ص: 149 ] خاف ذهاب وقتها ويصليها ثم يعيدها انتهى .

                                                            وقد ظهر بذلك أن الحنفية منفردون من بين الفقهاء بالقول بتأخير الصلاة في هذه الحالة والأوزاعي ومكحول إنما قالا بذلك عند العجز عن الإيماء ولا يتصور العجز عن الإيماء مع حضور العقل إلا أن تقوى الدهشة فتمنع استحضار ذلك فيكون نسيانا وقال الأصيلي معنى قول أنس لم يقدروا على الصلاة أنهم لم يجدوا السبيل إلى الوضوء من شدة القتال فأخروا الصلاة إلى وجود الماء انتهى وفيه نظر فإذا لم يجدوا الماء استعملوا التراب وإذا فقدوا التراب صلوا على حسب حالهم على اختلاف العلماء في مسألة فاقد الطهورين قال ابن قدامة ومن العجب أن أبا حنيفة اختار من بين الفقهاء هذا الوجه يعني صلاة الخوف على الكيفية التي رواها ابن عمر من ذهابهم إلى العدو وهم في الصلاة مع ما فيه من المشي الكثير والعمل الطويل والاستدبار مع الغناء عنه وإمكان الصلاة بدونه ثم منعه في حال لا يقدر إلا عليه وكان العكس أولى لا سيما مع نص الله تعالى على الرخصة في هذه الحال انتهى .

                                                            وقال الشافعي في الأم وإن عمد كلمة يحذر بها مسلما أو يسترهب بها عدوا وهو ذاكر لأنه في صلاة فقد نقضت صلاته وعليه إعادتها متى أمكنه انتهى وفي الجواهر لابن شاس ولا يتركون شيئا مما يحتاجون إليه من قول أو فعل انتهى وقد ظهر بذلك خلاف المالكية للشافعي في الأقوال وأنهم يغتفرونها كالأفعال والشافعي لا يغتفرها واقتصر النووي في الروضة تبعا للرافعي على قوله ويجب الاحتراز عن الصياح بكل حال بلا خلاف فإنه لا حاجة إليه انتهى ومقتضى ذلك إباحة النطق بلا صياح والله أعلم .

                                                            (الحادية والعشرون) إن قلت لم يضبط الخوف الذي هو أشد من ذلك بضابط قلت ضابطه أن لا يتمكنوا من الهيئة المذكورة قبلها من انقسامهم فرقتين مع استيفاء أركان الصلاة وشرائطها بل يضطرون لما هم فيه للإخلال ببعض الأركان أو الشرائط .



                                                            (الثانية والعشرون) إطلاق الخوف يتناول ما يخرج إلى المقاتلة وما يخرج إلى الهرب والشرط فيهما أن يكونا مباحين فلا تجوز صلاة شدة الخوف للبغاة وقطاع الطريق لارتكابهم بذلك معصية ولا للمنهزم من الكفار لا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة حيث حرم [ ص: 150 ] بذلك ، بأن لا يزيد عدد الكفار على ضعف عدد المسلمين ويجوز ذلك في كل هرب مباح من سيل أو حريق إذا لم يجد معدلا عنه أو من سبع .

                                                            قال أصحابنا وكذا المديون المعسر إذا كان عاجزا عن بينة الإعسار ولو ظفر به المستحق لحبسه ولم يصدقه وكذا إذا كان عليه قصاص يرجو العفو عنه إذا سكن الغضب بتغيبه واستبعد إمام الحرمين جواز هربه بهذا التوقع وذكر أصحابنا فيما إذا انهزم الكفار وتبعهم المسلمون والصورة أنهم لو ثبتوا وكملوا الصلاة فاتهم العدو أنه لا تجوز لهم صلاة شدة الخوف في هذه الحالة إلا إن خافوا كمينا أو كرتهم وعند المالكية في ذلك ثلاثة أقوال الجواز والمنع والتفرقة بين خوف معرتهم إن تركوا وعدم ذلك وفي المنع مطلقا نظر لما روى .

                                                            أبو داود بإسناد حسن عن عبد الله بن أنيس قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي وكان نحو عرنة عرفات فقال اذهب فاقتله قال فرأيته وحضرت صلاة العصر فقلت إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما إن أؤخر الصلاة فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومئ إيماء نحوه فلما دنوت منه قال لي من أنت قلت رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل فجئتك في ذاك قال إني لفي ذاك فمشيت معه ساعة حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد وأخرجه ابن حبان في صحيحه بمعناه أطول منه

                                                            وقد يقال له ليس هذا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره فلا حجة فيه لكن أصحابنا استدلوا به وأقاموه ردا على الحنفية في منعهم صلاة شدة الخوف مع الأفعال الكثيرة والمشي الكثير وقد يقال ليس هذا كيفية صور اتباع المسلمين للمشركين لورود الأمر الخاص فيه وكونه عليه الصلاة والسلام عين عبد الله بن أنيس لقتل هذا الرجل بعينه وجعل له علامة عليه وهي قشعريرة تحصل له عند رؤيته فكان ذلك كما أخبر وكان معجزة وعلما من أعلام النبوة فلا يلزم من اغتفار المشي الكثير في تبعيته اغتفار ذلك في بقية الصور لكن إذا كان كذلك فكيف يحسن رد أصحابنا على الحنفية به وهم لا يقولون به في غير هذه الصورة الخاصة ؟

                                                            ويحتمل أن يقال كان عبد الله بن أنيس في معنى الطالب الذي يخشى كرة العدو إذ لا يأمن شر خالد بن سفيان لو عرفه قبل المبادرة إليه وقد أشار إلى ذلك الخطابي وهو [ ص: 151 ] حسن والله أعلم .

                                                            ويوافق ما ذكره أصحابنا في ذلك قول الحسن البصري إن كان هو الطالب نزل فصلى على الأرض وإن كان هو المطلوب صلى على ظهر وعليه جماعة الفقهاء إلا الأوزاعي فقال له الصلاة على ظهر وإن كان طالبا وكذا قال ابن حبيب وحكي عن مالك أيضا .

                                                            (الثالثة والعشرون) قد يقال إن قوله (فإن كان خوف هو أشد من ذلك صلوا) يقتضي فعل ذلك في جماعة كما في حالة مطلق الخوف وقد صرح بذلك أصحابنا وقالوا إن صلاة الجماعة في هذه الحالة أفضل من الانفراد كحالة الأمن واقتصر الحنابلة على جواز الجماعة في هذه الحالة ومنع الحنفية ذلك وأوجبوا الانفراد في هذه الصورة قال صاحب الهداية وعن محمد أنهم يصلون بجماعة قال وليس بصحيح لانعدام الاتحاد في المكان انتهى .

                                                            وقال أصحابنا اقتداء بعضهم ببعض مع اختلاف الجهة كالمصلين حول الكعبة وفيها ، وذكر ابن قدامة الحنبلي احتمالا كمذهب أبي حنيفة والله أعلم .




                                                            الخدمات العلمية