الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3167 (3) باب القصاص في النفس بالحجر

                                                                                              [ 1763 ] عن أنس بن مالك: أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين، فسألوها من صنع هذا بك؟ فلان؟ فلان؟ حتى ذكروا يهوديا، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي، فأقر، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بالحجارة.

                                                                                              وفي رواية: فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين.

                                                                                              رواه أحمد (3 \ 183) والبخاري (2413) ومسلم (1672) (15) وأبو داود (4527) والترمذي (1394) وابن ماجه (2665).

                                                                                              [ ص: 24 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 24 ] (3) ومن باب القصاص في النفس

                                                                                              (قوله: إن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين فجيء بها [إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبها رمق ]) الرض: الكسر غير المبان. و(الرمق): بقية الحياة; يعني: أنها قد أشرفت على الموت؛ ولذلك لما سئلت عمن أصابها أومأت برأسها لما ذكر لها القاتل، ولم تقدر على الكلام بلسانها. ومن قال من الرواة: إنها قالت: نعم. فإنما عبر عما فهم عنها من الإشارة بالقول، فإنها تنزلت منزلة القول.

                                                                                              ففيه من الفقه: قتل الرجل بالمرأة وهو قول الجمهور خلافا لمن شذ فقال: لا يقتل بها. وهو عطاء ، والحسن . وقد روي عن علي - رضي الله عنه -.

                                                                                              وأما القصاص بينهما في الأطراف: فهو أيضا مذهب الجمهور. وقد ذهب إلى نفيه فيها من نفاه في النفس، وأبو حنيفة ، وحماد ، وإن قالا به في النفس. والصحيح قول الجمهور في المسألتين; لقوله تعالى: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس [المائدة: 45].

                                                                                              وفيه: جواز ذكر من اتهم، وعرضهم على المقتول واحدا واحدا بعينه واسمه، وإن لم تقم دلالة على لطخه أكثر من أنه يحتمل ذلك احتمالا قريبا. ولا يكون ذلك عرضا يستباح.

                                                                                              وفيه: ما يدل على اعتبار التدمية على الجملة. وقد تقدم الكلام فيها، لكن [ ص: 25 ] الصحيح في هذا الحديث: أن اليهودي إنما قتل بالمرأة بإقراره، لا بمجرد التدمية. والرواية التي يظهر منها: أنه قتل بمجرد التدمية مردودة إلى الرواية التي ذكر فيها: أنه قتل بإقراره لوجهين:

                                                                                              أحدهما: أن القضية واحدة وإن اختلفت الروايات، فيحمل مطلقها على مقيدها.

                                                                                              والثاني: أن ظاهر تلك الرواية المطلقة مجمع على تركه; إذ لم يقل أحد من المسلمين: أن التدمية بمجردها يقتل بها، وإنما هي عند من قال بها لوث يقسم معها. ولم يسمع قط في شيء من طرق هذا الحديث، ولا رواياته: أن أولياء هذه الجارية أقسموا على اليهودي.

                                                                                              وفيه: قتل الكبير بالصغير; لأن الجارية اسم لمن لم يبلغ من النساء، كالغلام في الرجال. وهذا لا يختلف فيه.

                                                                                              وفيه: أن من قتل بشيء قتل به. وقد اختلف فيه، فذهب الجمهور: إلى أنه يقتل بمثل ما قتل من حجر، أو عصا، أو تغريق، أو خنق، أو غير ذلك، ما لم يقتله بفسق كاللوطية، وإسقاء الخمر; فيقتل بالسيف. وحجتهم هذا الحديث، وقوله تعالى: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم [البقرة: 194] وقوله تعالى: والجروح قصاص [المائدة: 45] والقصاص أصله: المساواة في الفعل. ومن هؤلاء من خالف في التحريق بالنار، وفي قتله بالعصا. فجمهورهم: على أنه يقتل بذلك. وقال ابن الماجشون وغيره: لا يحرق بالنار لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يعذب بالنار إلا الله). وقال مالك في إحدى الروايتين عنه: [ ص: 26 ] إنه إن كان في قتله بالعصا تطويل وتعذيب، قتل بالسيف. وفي الأخرى: يقتل بها، وإن كان فيه ذلك، وهو قول الشافعي . وقال الشافعي فيمن حبس رجلا أياما في بيت حتى مات جوعا، أو عطشا، أو قطع يديه ورجليه، ورمى به من جبل، أن يفعل به مثل ذلك، فإن مات، وإلا قتل. وذهبت طائفة إلى خلاف ذلك كله فقالوا: لا قود إلا بالسيف، وهو مذهب أبي حنيفة ، والشعبي ، والنخعي . واحتجوا على ذلك بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا قود إلا بحديدة)، وبالنهي عن المثلة. والصحيح مذهب الجمهور؛ لما تقدم، ولأن الحديث الذي هو: ( لا قود إلا بحديدة ) ضعيف عند المحدثين، لا يروى من طريق صحيح، ولأن النهي عن المثلة نقول بموجبه إذا لم يمثل بالمقتول، فإذا مثل مثلنا به; لقوله تعالى: فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ولحديث العرنيين على ما تقدم.

                                                                                              وقد شذ بعضهم فقال فيمن قتل بخنق، أو بسم، أو تردية من جبل أو في بئر، أو بخشبة: أنه لا يقتل، ولا يقتص منه إلا إذا قتل بمحدد: حديد، أو حجر، أو خشب، أو كان معروفا بالخنق والتردية. وهذا منه رد للكتاب، والسنة، وإحداث ما لم يكن عليه أمر الأمة، وذريعة إلى رفع القصاص الذي شرعه الله حياة للنفوس، فليس عنه مناص.

                                                                                              ثم اختلف العلماء فيما إذا قتل بما لا يقتل مثله غالبا، كالعضة واللطمة، [ ص: 27 ] وضربة السوط، والقضيب، وشبه ذلك. فقال مالك ، والليث : هو عمد، وفيه القود. قال أبو عمر : وقال بقولهما جماعة من السلف من الصحابة والتابعين. وذهب جمهور فقهاء الأمصار: إلى أن هذا كله شبه عمد، إنما فيه الدية مغلظة. وهو قول الثوري ، والأوزاعي ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور وقد ذكر عن مالك ، وقاله ابن وهب ، وجماعة من الصحابة والتابعين.

                                                                                              قلت: وهو الصحيح إن شاء الله تعالى; إذ العمد: القصد إلى القتل، وهو أمر خفي لا يطلع عليه، فلا بد من دليل عليه، ولا بد أن تكون تلك الدلالة واضحة رافعة للشك. ودلالة ما يقتل مثله غالبا دلالة محققة، صحيحة، وليس كذلك اللطمة، وضربة السوط، فلا دلالة فيهما. والدماء أحق ما احتيط لها; إذ الأصل صيانتها في أهبها، فلا نستبيحها إلا بأمر بين، لا إشكال فيه، وهذا فيه إشكال، ولا نستبيح به دما، ولما كان مترددا بين العمد والخطأ; حكم له بشبه العمد، وهو حكم بين حكمين، فلا هو عمد محض، ولا خطأ محض، فلا قود فيه; إذ لم يتحقق العمد. ومع ذلك فيمكن أن يكون قصد القتل، فتكون فيه الدية المغلظة، هذا مع ما قد رواه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب يوم الفتح بمكة فذكر الحديث، وقال فيه: (ألا وإن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط، أو العصا مائة من الإبل، أربعون في بطونها أولادها) وهذا نص في الباب، فلا ينبغي أن يعدل عنه.

                                                                                              ثم اختلف القائلون بشبه العمد في الدية المغلظة ما هي؟ فقال عطاء ، والشافعي : هي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة. وقد روي ذلك عن عمر ، وزيد بن ثابت ، والمغيرة ، وأبي موسى وهو مذهب مالك حيث يقول: بشبه العمد.

                                                                                              [ ص: 28 ] ومشهور مذهبه: أنه لم يقل به إلا في مثل فعل المدلجي بابنه حيث ضربه بالسيف. وقيل: إن دية شبه العمد أربعون جذعة إلى بازل عامها، وثلاثون حقة، وثلاثون بنت لبون. وروي هذا عن عثمان . وبه قال الحسن ، وطاوس ، والزهري .

                                                                                              وأما دية العمد: فهي عند الشافعي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، كما قال في شبه العمد. وقال مالك : هي أرباع: ربع بنات مخاض، وربع بنات لبون، وربع جذاع، وربع حقاق. وبه قال الزهري ، وربيعة ، وأحمد . وقال أبو ثور : أخماس، ويزيد على الأربعة الأسنان المتقدمة بني لبون. وهي عنده دية شبه العمد.

                                                                                              وأما دية الخطأ: فهي عنده أخماس كما ذكرناه آنفا. وبه قال عمر بن عبد العزيز ، وسليمان بن يسار ، والزهري ، وربيعة ، والشافعي ونحوه قال أبو حنيفة غير أنه جعل بدل بني لبون بني مخاض. وبه قال النخعي ، وأحمد ، ويعقوب ، ومحمد . وروي عن ابن مسعود . وقيل: إنها أرباع كما تقدم في دية العمد. وبه قال الشعبي ، والحسن البصري ، والنخعي ، وإسحاق بن راهويه .

                                                                                              قلت: وهذا في أهل الإبل مجمع عليه: أن في النفس مائة من الإبل. واختلف في غيرهم. فقالت طائفة: يجب على أهل الذهب الذهب، وعلى أهل الورق الورق. وروي ذلك عن عمر ، وعروة ، وقتادة ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وأصحاب الرأي، ولم يختلف هؤلاء: أن دية الذهب ألف دينار. واختلفوا في الفضة. فقال الثوري ، والنعمان ، وصاحباه، وأبو ثور : هي عشرة آلاف درهم. [وقال الحسن البصري ، وعروة ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق : اثنا عشر ألف درهم]. وقال مالك ، وأبو حنيفة : الدية من الذهب، والإبل، [ ص: 29 ] والفضة، ولم يعرفا الحلل، ولا الشاء، ولا البقر. وقال آخرون: هي على أهل البقر مائتا بقرة. وعلى أهل الشاء ألفا شاة. وعلى أهل الحلل مائتا حلة. وروي هذا عن عمر ، والحسن البصري وبه قال عطاء ، والزهري ، وقتادة ، غير أن هؤلاء الثلاثة لم يقولوا بالحلل.

                                                                                              قلت: وسبب هذا الخلاف اختلاف الأحاديث الواردة في الباب، والاختلاف في تصحيحها، وذلك: أنه ليس شيء منها متفقا على صحته، وهي ما بين مرسل وضعيف، فلنذكر منها ما خرجه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول; فإن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا أخذوا الدية، وهي: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وما صالحوا عليه فهو لهم، وذلك لتشديد العقل ).

                                                                                              قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب. وروى أبو داود عن حسين المعلم ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى: أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشر بني لبون ذكر. وروى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده، قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانمائة دينار، أو ثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين. قال: فكان ذلك حتى استخلف عمر، فقام خطيبا فقال: ألا إن الإبل قد غلت، ففرضها على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة. قال: وترك دية أهل [ ص: 30 ] الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية. وفي رواية أخرى عنه قال: عقل شبه العمد مغلظة مثل العمد، ولا يقتل صاحبه. وعن عطاء ، عن جابر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني مخاض ذكر. وعن عكرمة ، عن ابن عباس : أن رجلا من بني عدي قتل، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ديته اثني عشر ألفا.

                                                                                              فهذه الأحاديث التي دارت بين العلماء الذين تقدم ذكر مذاهبهم، فصار كل فريق منهم إلى ما صح عنده منها، وعمل به، ومن بلغه جميعها فلا بد له من البحث عنها حتى يتبين له الأرجح منها.




                                                                                              الخدمات العلمية