الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        قال الطحاوي: «فهذا أبو بكر قد أعطى عائشة دون سائر ولده، ورأى [ ص: 236 ] أن ذلك جائز، ورأته هي كذلك ولم ينكر عليهما أحد من أصحاب رسول الله» .

        ونوقش من أوجه:

        الوجه الأول: أن الأثر قد ورد على خلاف ما أوردوه، كما سيأتي.

        الوجه الثاني: أن إخوة عائشة كانوا راضين بذلك.

        وأجيب: بأن هذا ليس بكاف; لأنهم وإن رضوا فذو بطن بنت خارجة لم يكن راضيا وهو من أهل الاستحقاق، ولو سلم فما الدليل على أنه لو لم يكونوا راضين لم يفعل أبو بكر ذلك، ولما كان جائزا، وبالجملة تأثير رضا الأخوة في جواز هذا الفعل دعوى لابد لها من دليل.

        الوجه الثالث: احتمال أنه خصها بعطيته لحاجتها وعجزها عن التكسب والتسبب فيه، مع اختصاصها بفضلها، وكونها أم المؤمنين زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من فضائلها.

        الوجه الرابع: يحتمل أن يكون قد نحلها ونحل غيرها من ولده، أو نحلها وهو يريد أن ينحل غيرها، فأدركه الموت قبل ذلك. [ ص: 237 ] قالوا: ويتعين حمل الأثر على أحد هذه الوجوه; لأن حمله على مثل محل النزاع منهي عنه، وأقل أحواله الكراهة، والظاهر من حال أبي بكر اجتناب المكروهات.

        الوجه الخامس: أنه لو صح ولم يمكن حمله على الوجوه السابقة، فإنه يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم ولا يحتج به معه.

        9 - ما جاء في كتاب وقف عمر رضي الله عنه: «تليه حفصة ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها أن لا يباع ولا يشترى ينفقه، حيث رأى من السائل والمحروم وذوي القربى، لا حرج على من وليه إن أكل أو آكل أو اشترى رقيقا منه» .

        وجه الدلالة: أن هذا الكتاب «فيه دليل على تخصيص حفصة دون إخوتها وأخواتها» .

        ونوقش: «بأن عمر رضي الله عنه لم يخص بعض الورثة بوقفه، والنزاع إنما هو في تخصيص بعضهم، وأما جعل الولاية إلى حفصة فليس ذلك وقفا عليها، فلا يكون ذلك واردا في محل النزاع» .

        (222) 10 - ما علقه البيهقي، قال الشافعي: «وفضل عمر عاصم بن عمر بشيء أعطاه إياه» .

        ونوقش من وجهين:

        الوجه الأول: أنه لا يثبت.

        [ ص: 238 ] الوجه الثاني: بما أجيب به عن أثر أبي بكر مع عائشة رضي الله عنه.

        (223) 11 - ما رواه الطحاوي: حدثنا يونس قال: حدثنا سفيان، عن عمرو قال: أخبرني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن: «أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فضل بني أم كلثوم بنحل قسمه بين ولده» .

        قال الطحاوي: ولم ينكر عليه منكر.

        ونوقش من وجهين:

        الوجه الأول: أن هذا الأثر منقطع.

        الوجه الثاني: لو صح فليس فيه أنه لم يسو قبل ولا بعد بينهم.

        (224) 12 - ما رواه البيهقي من طريق ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة، عن بكير بن الأشج، عن نافع: «أن ابن عمر قطع ثلاثة رؤوس أو أربعة لبعض ولده دون بعض، قال بكير: وحدثني عبد الله بن القاسم: أنه انطلق هو وابن عمر حتى أتوا رجلا من الأنصار فساوموه بأرض له فاشتراها منه، فأتاه رجل، فقال: إني رأيت أنك اشتريت أرضا وتصدقت بها، وعن القاسم بن عبد الرحمن قال ابن عمر: هذه الأرض لابني واقد فإنه مسكين، نحله إياه دونه ولده» .

        ونوقش الاستدلال من وجهين:

        الوجه الأول: أنه من طريق ابن لهيعة. [ ص: 239 ] وأجيب: بأن رواية ابن وهب عنه صحيحة.

        ورد: رواية العبادلة عنه أصح من غيرها، ولا يلزم من ذلك الثبوت.

        الوجه الثاني: أنه ليس فيها أنه لم ينحل الآخرين قبل ولا بعد بمثل ذلك، بل فيها أنه قال: «واقد ابني مسكين» فصح أنه لم يكن نحله بعد، كما نحل إخوته، فألحقه بهم وأخرجه عن المسكنة.

        وأجيب عنه: بأن في الأثر ما يدل على أنه لم ينحل الآخرين، كقوله: قطع ثلاثة أرؤس، وكقوله: «نحله إياه دون ولده» .

        ورد بما تقدم قريبا.

        الوجه الثالث: أن الموقوف إذا عارض المرفوع فلا عبرة به.

        13 - ولأن الأصل تصرف الإنسان في ماله مطلقا.

        14 - ولأن الإجماع منعقد على أن للرجل أن يهب في صحته جميع ماله للأجانب دون أولاده، فإذا كان ذلك للأجنبي فهو للولد أحرى.

        ونوقش هذان الدليلان: بأنهما قياس مع وجود النص، فلا يلتفت إليه.

        15 - ولأنه لما جاز أن يعطي جميعهم جاز أن يفعل ذلك ببعضهم كالأجانب.

        [ ص: 240 ] ونوقش: بالفارق من وجهين:

        الوجه الأول: أنه إذا أعطى الجميع زال المعنى الذي يحصل مع التخصيص.

        الوجه الثاني: النص المانع فيما نحن فيه.

        16 - ولأنه لما جاز وقف بعض الأولاد للأب، جاز وقف الأب لبعض الأولاد.

        وهو مناقش: بالفارق أيضا، وهو وجود النص في مسألتنا، ثم زوال المعنى الذي يوجد في حالة تخصيص الأب لبعض أبنائه دون الآخرين.

        17 - ولأنها عطية تلزم بموت الأب، فكانت جائزة كما لو سوى بينهم.

        ونوقش من وجهين:

        الوجه الأول: عدم التسليم بلزومها بموت الأب، كما سيأتي.

        الوجه الثاني: لو سلم باللزوم، فلتعذر الرجوع، بخلاف الأول.

        دليل القول الثالث: لم أقف على دليل للقول بتخصيص عدم الجواز بقصد المضارة.

        ويمكن أن يناقش: بأن الأدلة عامة في وجوب العدل بين الأولاد، وتحريم التفضيل بينهم سواء قصد المفضل المضارة أو لم يقصد إلا أن التحريم يعظم مع قصد المضارة.

        الترجيح:

        الذي يظهر لي رجحانه ما ذهب إليه أهل القول الأول من حرمة [ ص: 241 ] التخصيص أو المفاضلة في الوقف; وذلك لقوة ما بني عليه من استدلال، ومنه حديث النعمان رضي الله عنه الصريح، مع ضعف ما أورد على الاستدلال به.

        قال ابن القيم: «لو لم تأت السنة الصريحة التي لا معارض لها بالمنع، لكان القياس وأصول الشريعة وما تضمنته من المصالح ودرء المفاسد يقتضي تحريمه» ، واشتمال أكثره على تكلف زائد، لو فتح على الكثير من النصوص لاختل أكثر الاستدلال.

        ثم ما ذكروه أيضا من وقوع الوحشة، والعداوة، وإيغار الصدور، والواقع شاهد بذلك، والله أعلم.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية