الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              879 (باب إخراج من وجد منه ريح البصل والثوم من المسجد ) .

                                                                                                                              وذكره النووي في الباب المتقدم.

                                                                                                                              (حديث الباب ) .

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم النووي ص 51- 52 ج 5 المطبعة المصرية .

                                                                                                                              [عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة؛ أن عمر بن الخطاب خطب يوم الجمعة. فذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم. وذكر أبا بكر. قال إني رأيت كأن ديكا نقرني ثلاث نقرات. وإني لا أراه إلا حضور أجلي. وإن أقواما يأمرونني أن أستخلف. وإن الله لم يكن ليضيع دينه. ولا خلافته. ولا الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم. فإن عجل [ ص: 252 ] بي أمر، فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وإني قد علمت أن أقواما يطعنون في هذا الأمر. أنا ضربتهم بيدي هذه على الإسلام. فإن فعلوا ذلك فأولئك أعداء الله الكفرة الضلال. ثم إني لا أدع بعدي شيئا أهم عندي من الكلالة. ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة. وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه. حتى طعن بإصبعه في صدري. فقال "يا عمر! ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء؟" وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن، ومن لا يقرأ القرآن. ثم قال: اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار. وإني إنما بعثتهم عليهم ليعدلوا عليهم، وليعلموا الناس دينهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويقسموا فيهم فيئهم، ويرفعوا إلي ما أشكل عليهم من أمرهم.

                                                                                                                              ثم إنكم أيها الناس! تأكلون شجرتين، لا أراهما إلا خبيثتين: هذا البصل والثوم.

                                                                                                                              لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع.

                                                                                                                              فمن أكلهما فليمتهما طبخا
                                                                                                                              .

                                                                                                                              [ ص: 253 ]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              [ ص: 253 ] (الشرح) .

                                                                                                                              (عن معدان بن أبي طلحة ) .

                                                                                                                              هذا الحديث مما استدركه "الدارقطني" على مسلم، لمكان قتادة في سنده.

                                                                                                                              ورد عليه النووي هذا الاستدراك بكلام فصل. فراجع.

                                                                                                                              (أن عمر بن الخطاب ) رضي الله عنه (خطب يوم الجمعة: فذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم. وذكر أبا بكر ) رضي الله عنه، (قال: إني رأيت كأن ديكا نقرني ثلاث نقرات، وإني لا أراه إلا حضور أجلي، وإن أقواما يأمرونني أن أستخلف. وإن الله ) عز وجل (لم يكن ليضيع دينه، ولا خلافته ) .

                                                                                                                              معناه: إن أستخلف فحسن. وإن تركت الاستخلاف فحسن؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف.

                                                                                                                              لأن الله عز وجل لا يضيع دينه؛ بل يقيم له من يقوم به.

                                                                                                                              (ولا الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض ) .

                                                                                                                              أي: يتشاورون فيه، ويتفقون على واحد من هؤلاء الستة. "عثمان، وعلي، وطلحة، وزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف".

                                                                                                                              ولم يدخل سعيد بن زيد معهم، وإن كان من العشرة؛ لأنه من أقاربه [ ص: 254 ] فتورع عن إدخاله، كما تورع عن إدخال ابنه "عبد الله" رضي الله عنه.

                                                                                                                              (وإني قد علمت أن أقواما يطعنون ) بضم العين؛ وفتحها، وهو الأصح هنا.

                                                                                                                              (في هذا الأمر؛ أنا ضربتهم بيدي هذه على الإسلام. فإن فعلوا ذلك فأولئك أعداء الله، الكفرة، الضلال ) .

                                                                                                                              أي: إن استحلوا ذلك فهم كذلك، وإن لم يستحلوا ذلك ففعلهم فعل الكفرة.

                                                                                                                              ثم إني لا أدع بعدي شيئا أهم عندي من الكلالة، ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة. وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن بإصبعه في صدري؛ فقال "يا عمر! ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء؟" ) .

                                                                                                                              وهي قوله تعالى: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إلى آخرها .

                                                                                                                              "وفيه" دليل على جواز قول: سورة النساء، وسورة (البقرة ) وسورة العنكبوت، ونحوها.

                                                                                                                              [ ص: 255 ] وهذا مذهب من يعتد به من العلماء.

                                                                                                                              قال النووي: والإجماع اليوم منعقد عليه.

                                                                                                                              وكان فيه نزاع في العصر الأول، وكان بعضهم يقول: سورة "كذا".

                                                                                                                              وإنما يقال: السورة التي يذكر فيها "كذا".

                                                                                                                              وهذا باطل مردود بالأحاديث الصحيحة، واستعمال النبي صلى الله عليه وسلم. والصحابة، والتابعين، فمن بعدهم، من علماء المسلمين.

                                                                                                                              ولا مفسدة فيه. لأن المعنى مفهوم. انتهى.

                                                                                                                              قلت: وإذا ثبت هذا الاستعمال من الشارع، فلا حاجة بنا إلى الاحتجاج بالإجماع. ولو فرض الإجماع على خلاف ذلك، لكان مردودا.

                                                                                                                              ورحم الله النووي، ما أكثره في نقل الإجماع على كل قول وفرع في شرحه هذا لمسلم! .

                                                                                                                              وإنما الحجة كتاب الله العزيز، وسنة رسوله المختار فقط.

                                                                                                                              (وإني إن أعش، أقض فيها بقضية يقضي بها: من يقرأ القرآن، ومن لا يقرأ القرآن ) .

                                                                                                                              يعني: يستوي في فهمها العالم، والجاهل.

                                                                                                                              "وفيه" جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وهو مذهب الجمهور.

                                                                                                                              ثم قال: اللهم! إني أشهدك على أمراء الأمصار. وإني إنما بعثتهم [ ص: 256 ] عليهم ليعدلوا عليهم، وليعلموا الناس دينهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويقسموا فيهم فيئهم، ويرفعوا إلي ما أشكل عليهم، من أمرهم ) .

                                                                                                                              وهذا غاية التقوى، والإخلاص، من عمر رضي الله عنه.

                                                                                                                              "وفيه" جواز إشهاد الله تعالى على عمله الذي يوافق ظاهره باطنه، وإن كان الله يعلم ما في الظواهر، والسرائر كله.

                                                                                                                              وإنما قال ذلك تنبيها، ونصحا، للأمراء بعدهم.

                                                                                                                              (ثم إنكم أيها الناس! تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين: هذا البصل وهذا الثوم ) .

                                                                                                                              وهذا موضع الدلالة من ترجمة الباب، وموقع الاحتجاج عليها.

                                                                                                                              لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا وجد ريحها من الرجل في المسجد، أمر به فأخرج إلى البقيع ) .

                                                                                                                              هذا "فيه" إخراج من وجد منه ريح الثوم، والبصل، ونحوهما، من المسجد. وإزالة المنكر باليد، لمن أمكنه. وليس فيه تحريم ذلك.

                                                                                                                              ولذلك قال: (فمن أكلهما فليمتهما طبخا ) أي: يمت رائحتهما بالطبخ. وإماتة كل شيء: كسر قوته، وحدته.

                                                                                                                              [ ص: 257 ] ومنه قولهم: "قتلت الخمر" إذا مزجها بالماء، وكسر حدتها.

                                                                                                                              "وفيه" أن النهي في أكلهما نيئا لا طبخا.

                                                                                                                              ويدل له حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم: قال: (لم نعد أن فتحت خيبر فوقعنا "أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" في تلك البقلة: الثوم، والناس جياع فأكلنا منها أكلا شديدا، ثم رحنا إلى المسجد، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الريح. فقال: "من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئا فلا يقربنا في المسجد." فقال الناس: حرمت. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أيها الناس! إنه ليس لي تحريم ما أحل الله لي ولكنها شجرة أكره ريحها". ) .

                                                                                                                              قال أهل اللغة: الخبيث في كلام العرب المكروه من قول، أو فعل، أو مال، أو طعام، أو شراب، أو شخص.

                                                                                                                              وفي هذا الحديث دليل على أن "الثوم" ليس بحرام.

                                                                                                                              قال النووي: وهو إجماع من يعتد به.

                                                                                                                              وظاهر الحديث: أنه ليس محرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.

                                                                                                                              [ ص: 258 ] قلت: وظاهر الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره ريحه فقط، ولم يحرم أكله نيئا، وإنما أمر بالطبخ، لكون الطبخ يزيل ريحه.

                                                                                                                              فظهر أن أكله نيئا أيضا حلال، فإن طبخ فقد أحسن، وخرج عن الكراهة مطلقا.

                                                                                                                              وعلى هذا عمل المسلمين اليوم، بل منذ أيام خالية. والله أعلم.




                                                                                                                              الخدمات العلمية