الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            1194 - ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { : من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر } رواه الجماعة إلا ابن ماجه ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( من اغتسل ) يعم كل من يصح منه الغسل من ذكر وأنثى وحر وعبد . قوله : ( غسل الجنابة ) بالنصب على أنه نعت لمصدر محذوف : أي غسلا كغسل الجنابة .

                                                                                                                                            وفي رواية لعبد الرزاق " فاغتسل أحدكم كما يغتسل من الجنابة " قال في الفتح : وظاهره أن التشبيه للكيفية لا للحكم وهو قول الأكثر ، وقيل : فيه إشارة إلى الجماع يوم الجمعة ليغتسل فيه من الجنابة . والحكمة فيه أن تسكن النفس في الرواح إلى الصلاة ولا تمتد عينه إلى شيء يراه .

                                                                                                                                            وفيه حمل المرأة أيضا على الاغتسال كما تقدم في حديث أوس بن أوس في أبواب الغسل . قال النووي : ذهب بعض أصحابنا إلى هذا وهو ضعيف أو باطل . [ ص: 283 ] قال الحافظ : قد حكاه ابن قدامة عن الإمام أحمد . وقد ثبت أيضا عن جماعة من التابعين . وقال القرطبي : إنه أنسب الأقوال فلا وجه لادعاء بطلانه وإن كان الأول أرجح ، ولعله عنى أنه باطل في المذهب قوله : ( ثم راح ) زاد أصحاب الموطأ عن مالك " في الساعة الأولى " قوله : ( فكأنما قرب بدنة ) أي تصدق بها متقربا إلى الله تعالى . وقيل : ليس المراد بالحديث إلا بيان تفاوت المبادرين إلى الجمعة ، وأن نسبة الثاني من الأول نسبة البقرة إلى البدنة في القيمة مثلا . ويدل عليه أن في مرسل طاوس عند عبد الرزاق " كفضل صاحب الجزور على صاحب البقرة " وهذا هو الظاهر ، وقد قيل غير ذلك قوله : ( ومن راح في الساعة الثانية ) قد اختلف في الساعة المذكورة في الحديث ما المراد بها ، فقيل : إنها ما يتبادر إلى الذهن من العرف فيها . قال في الفتح : وفيه نظر ، إذ لو كان ذلك المراد لاختلف الأمر في اليوم الشاتي والصائف ، لأن النهار ينتهي في القصر إلى عشر ساعات ، وفي الطول إلى أربع عشرة ساعة ، وهذا الإشكال للقفال . وأجاب عنه القاضي حسين من أصحاب الشافعي بأن المراد بالساعات ما لا يختلف عدده بالطول والقصر ، فالنهار ثنتا عشرة ساعة ، لكن يزيد كل منها وينقص والليل كذلك ، وهذه تسمى الساعات الآفاقية عند أهل الميقات ، وتلك التعديلية .

                                                                                                                                            وقد روى أبو داود والنسائي وصححه الحاكم من حديث جابر مرفوعا : { يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة } قال الحافظ : وهذا وإن لم يرد في حديث التبكير فيستأنس به في المراد بالساعات ، وقيل : المراد بالساعات بيان مراتب التبكير من أول النهار إلى الزوال ، وأنها تنقسم إلى خمس ، وتجاسر الغزالي فقسمها برأيه فقال : الأولى : من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، والثانية : إلى ارتفاعها ، والثالثة : إلى انبساطها ، والرابعة : إلى أن ترمض الأقدام ، والخامسة : إلى الزوال . واعترضه ابن دقيق العيد بأن الرد إلى الساعات المعروفة أولى وإلا لم يكن لتخصيص هذا العدد بالذكر معنى ، لأن المراتب متفاوتة جدا .

                                                                                                                                            وقيل : المراد بالساعات : خمس لحظات لطيفة : أولها زوال الشمس وآخرها قعود الخطيب على المنبر ، روي ذلك عن المالكية .

                                                                                                                                            واستدلوا على ذلك بأن الساعة تطلق على جزء من الزمان غير محدود ، وقالوا : الرواح لا يكون إلا من بعد الزوال . وقد أنكر الأزهري على من زعم أن الرواح لا يكون إلا من بعد الزوال ، ونقل أن العرب تقول : راح في جميع الأوقات بمعنى ذهب ، قال : وهي لغة أهل الحجاز ، ونقل أبو عبيد في الغريبين نحوه .

                                                                                                                                            وفيه رد على الزين بن المنير حيث أطلق أن الرواح لا يستعمل في المضي في أول النهار بوجه ، وحيث قال : إن استعمال الرواح بمعنى الغد ، ولم يسمع ولا ثبت ما يدل عليه ، وقد روي الحديث بلفظ " غدا " مكان " راح " وبلفظ " المتعجل إلى الجمعة " قال الحافظ : ومجموع الروايات يدل على أن المراد بالرواح [ ص: 284 ] الذهاب ، وما ذكرته المالكية أقرب إلى الصواب ، لأن الساعة في لسان الشارع وأهل اللغة الجزء من أجزاء الزمان كما في كتب اللغة .

                                                                                                                                            ويؤيد ذلك أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة أنه ذهب إلى الجمعة قبل طلوع الشمس أو عند انبساطها ، ولو كانت الساعة هي المعروفة عند أهل الفلك لما ترك الصحابة الذين هم خير القرون وأسرع الناس إلى موجبات الأجور الذهاب إلى الجمعة في الساعة الأولى من أول النهار أو الثانية أو الثالثة ، فالواجب حمل كلام الشارع على لسان قومه إلا أن يثبت له اصطلاح يخالفهم ، ولا يجوز حمله على المتعارف في لسان المتشرعة ، الحادث بعد عصره ، إلا أنه يعكر على هذا حديث جابر المصرح بأن يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة ، فإنه تصريح منه باعتبار الساعات الفلكية ، ويمكن التقصي عنه بأن مجرد جريان ذلك على لسانه صلى الله عليه وسلم لا يستلزم أن يكون اصطلاحا له تجري عليه خطاباته . ومما يشكل على اعتبارات الساعات الفلكية وحمل كلام الشارع عليها استلزامه صحة صلاة الجمعة قبل الزوال . ووجه ذلك أن تقسيم الساعات إلى خمس ثم تعقيبها بخروج الإمام وخروجه عند أول وقت الجمعة يقتضي أنه يخرج في أول الساعة السادسة وهي قبل الزوال .

                                                                                                                                            وقد أجاب صاحب الفتح عن هذا الإشكال فقال : إنه ليس في شيء من طرق الحديث ذكر الإتيان أول النهار ، فلعل الساعة الأولى منه جعلت للتأهب بالاغتسال وغيره ، ويكون مبتدأ المجيء من أول الثانية ، فهي أولى بالنسبة إلى المجيء ثانية بالنسبة إلى النهار . قال : وعلى هذا فآخر الخامسة أول الزوال فيرتفع الإشكال ، وإلى هذا أشار الصيدلاني فقال : إن أول التبكير يكون من ارتفاع النهار وهو أول الضحى وهو أول الهاجرة ، قال : ويؤيده الحث على التهجير إلى الجمعة

                                                                                                                                            ولغيره من الشافعية في ذلك وجهان : أحدها : أن أول التبكير طلوع الشمس ، والثاني : طلوع الفجر قال : ويحتمل أن يكون ذكر الساعة السادسة ثابتا كما وقع في رواية ابن عجلان عن سمي عند النسائي من طريق الليث عنه ، بزيادة مرتبة بين الدجاجة والبيضة وهي العصفور . وتابعه صفوان بن عيسى عن ابن عجلان ، أخرجه محمد بن عبد السلام ، وله شاهد من حديث أبي سعيد ، أخرجه حميد بن زنجويه في الترغيب له بلفظ " فكمهدي البدنة إلى البقرة إلى الشاة إلى الطير إلى العصفور " الحديث ونحوه في مرسل طاوس عند سعيد بن منصور . ووقع أيضا في حديث الزهري من رواية عبد الأعلى عن معمر عند النسائي زيادة " البطة " بين الكبش والدجاجة ، لكن خالفه عبد الرزاق ، وهو أثبت منه في معمر ، وعلى هذا فخروج الإمام يكون عند انتهاء السادسة قوله : ( دجاجة ) بالفتح ويجوز الكسر ، وحكى بعضهم جواز الضم

                                                                                                                                            والحديث يدل على مشروعية الاغتسال يوم الجمعة ، وقد تقدم الكلام عليه وعلى فضيلة التبكير إليها . قال المصنف رحمه الله تعالى: وفيه دليل على أن [ ص: 285 ] أفضل الهدي الإبل ثم البقر ثم الغنم ، وقد تمسك به من أجاز الجمعة في السادسة ، ومن قال إنه إذا نذر هديا مطلقا أجزأه إهداء أي مال كان انتهى .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية