الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب ترك غسل الشهيد وما جاء فيه إذا كان جنبا

                                                                                                                                            1382 - ( عن جابر قال { : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في الثوب الواحد ثم يقول : أيهم أكثر أخذا للقرآن ؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد ، وأمر بدفنهم في دمائهم ، ولم يغسلوا ولم يصل عليهم } رواه البخاري والنسائي وابن ماجه والترمذي وصححه .

                                                                                                                                            ولأحمد { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : في قتلى أحد لا تغسلوهم ، فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة } ولم يصل عليهم ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( يجمع بين الرجلين . . . إلخ ) فيه جواز جمع الرجلين في كفن واحد عند الحاجة إلى ذلك ، والظاهر أنه كان يجمعهما في ثوب واحد وقيل : كان يقطع الثوب بينهما نصفين وقيل : المراد بالثوب القبر مجازا ، ويرده ما وقع في رواية عن جابر { فكفن أبي وعمي في نمرة واحدة } وقد ترجم البخاري على هذا الحديث باب دفن الرجلين والثلاثة في قبر واحد ، وأورده مختصرا بلفظ { كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد } وليس فيه تصريح بالدفن . قال ابن رشد : إنه جرى على عادته من الإشارة إلى ما ليس على شرطه أو اكتفي بالقياس ، يعني على جمعهم في ثوب واحد ا هـ .

                                                                                                                                            ولا يخفى أن قوله في هذا الحديث قدمه في اللحد يدل على الجمع بين الرجلين فصاعدا في الدفن ، وقد أورد الحديث البخاري باللفظ الذي ذكره المصنف في باب الصلاة على الشهيد ، فلعل البخاري أشار بما أورده مختصرا إلى هذا ، لا إلى ما ليس على شرطه ، ولا سيما مع اتصال باب دفن الرجلين والثلاثة بباب الصلاة على الشهيد بلا فاصل ، وقد ثبت عند عبد الرزاق بلفظ : { وكان يدفن الرجلين والثلاثة في القبر الواحد } وورد ذكر الثلاثة أيضا في هذه القصة عند الترمذي وغيره .

                                                                                                                                            وروى أصحاب السنن من حديث هشام بن عامر الأنصاري { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأنصار أن يجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر } وصححه الترمذي قال في الفتح : ويؤخذ من هذا جواز دفن المرأتين في قبر واحد ، وأما دفن الرجل مع المرأة فروى عبد الرزاق بإسناد حسن عن واثلة بن الأسقع { أنه كان يدفن الرجل والمرأة في القبر [ ص: 37 ] الواحد ، فيقدم الرجل ويجعل المرأة وراءه } وكأنه كان يجعل بينهما حاجزا لا سيما إذا كانا أجنبيين . قوله : ( أيهم أكثر أخذا للقرآن ) فيه استحباب تقديم من كان أكثر قرآنا ، ومثله سائر أنواع الفضائل قياسا . قوله : ( ولم يغسلوا ) فيه دليل على أن الشهيد لا يغسل ، وبه قال الأكثر ، وسيأتي الكلام في بيان ماهية الشهيد الذي وقع الخلاف في غسله في الصلاة على الشهيد وقال سعيد بن المسيب والحسن البصري حكاه عنهما ابن المنذر وابن أبي شيبة أنه يغسل ، وبه قال ابن سريج من الشافعية ، والحق ما قاله الأولون والاعتذار عن حديث الباب بأن الترك إنما كان لكثرة القتلى وضيق الحال مردود بعلة الترك المنصوصة كما في رواية أحمد المتقدمة .

                                                                                                                                            وهي رواية لا مطعن فيها وفي الباب أحاديث منها عن أنس عند أحمد والحاكم وأبي داود والترمذي وقال : غريب وغلط بعض المتأخرين فقال : وحسنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد ولم يغسلهم } .

                                                                                                                                            وعن جابر حديث آخر غير حديث الباب عند أبي داود قال : { رمي رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات ، فأدرج في ثيابه كما هو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم } وإسناده على شرط مسلم .

                                                                                                                                            وعن ابن عباس عند أبي داود وابن ماجه قال : { أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم } وفي إسناده علي بن عاصم الواسطي ، وقد تكلم فيه جماعة وعطاء بن السائب وفيه مقال وفي الباب أيضا عن رجل من الصحابة وسيأتي ، وقد اختلف في الشهيد إذا كان جنبا أو حائضا ، وسيأتي الكلام على ذلك .

                                                                                                                                            وأما سائر من يطلق عليه اسم الشهيد كالطعين والمبطون والنفساء ونحوهم فيغسلون إجماعا كما في البحر . قوله : ( ولم يصل عليهم ) قال في التلخيص : هو بفتح اللام وعليه المعنى قال النووي : ويجوز أن يكون بكسرها ولا يفسد ، لكنه لا يبقى فيه دليل على ترك الصلاة عليهم مطلقا ; لأنه لا يلزم من قوله : " لم يصل عليهم " أن لا يأمر غيره بالصلاة عليهم انتهى .

                                                                                                                                            وسيأتي الكلام في الصلاة على الشهيد

                                                                                                                                            1383 - ( وروى محمد بن إسحاق في المغازي بإسناد عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن صاحبكم لتغسله الملائكة ، يعني حنظلة ، فسألوا أهله : ما شأنه ؟ فسئلت صاحبته فقالت : خرج وهو جنب حين سمع الهائعة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لذلك غسلته الملائكة } ) الحديث .

                                                                                                                                            قال في الفتح : قصته مشهورة رواها ابن إسحاق وغيره انتهى . وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي من حديث ابن الزبير والحاكم في الإكليل من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف ، والسرقسطي في غريبه من طريق الزهري مرسلا والحاكم أيضا [ ص: 38 ] في المستدرك والطبراني والبيهقي عن ابن عباس أيضا وفي إسناده الحاكم معلى بن عبد الرحمن وهو متروك وفي إسناد الطبراني حجاج وهو مدلس وفي إسناد البيهقي أبو شيبة الواسطي وهو ضعيف جدا وفي الباب أيضا عن ابن عباس عند الطبراني بإسناد قال الحافظ : لا بأس به عنه قال : { أصيب حمزة بن عبد المطلب وحنظلة بن الراهب وهو جنب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رأيت الملائكة تغسلهما } وهو غريب في ذكر حمزة كما قال في الفتح . قوله : ( الهائعة ) هي الصوت الشديد وقد استدل بالحديث من قال إنه يغسل الشهيد إذا كان جنبا ، وبه قال أبو حنيفة والمنصور بالله .

                                                                                                                                            وقال الشافعي ومالك وأبو يوسف ومحمد وإليه ذهب الهادي والقاسم والمؤيد بالله وأبو طالب : إنه لا يغسل لعموم الدليل وهو الحق ; لأنه لو كان واجبا علينا ما اكتفى فيه بغسل الملائكة ، وفعلهم ليس من تكليفنا ولا أمرنا بالاقتداء بهم .

                                                                                                                                            1384 - ( وعن أبي سلام عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أغرنا على حي من جهينة ، فطلب رجل من المسلمين رجلا منهم فضربه فأخطأه وأصاب نفسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخوكم يا معشر المسلمين ، فابتدره الناس فوجدوه قد مات ، فلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثيابه ودمائه ، وصلى عليه ودفنه ، فقالوا : يا رسول الله أشهيد هو ؟ قال : نعم ، وأنا له شهيد } . رواه أبو داود )

                                                                                                                                            الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري ، وفي إسناده سلام بن أبي سلام وهو مجهول وقال أبو داود بعد إخراجه عن سلام المذكور : إنما هو عن زيد بن سلام عن جده أبي سلام انتهى وزيد ثقة قوله : ( فلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثيابه ودمائه ) ظاهره أنه لم يغسله ولا أمر بغسله ، فيكون من أدلة القائلين بأن الشهيد لا يغسل كما تقدم ، وهو يدل على أن من قتل نفسه في المعركة خطأ حكمه حكم من قتله غيره في ترك الغسل وأما من قتل نفسه عمدا فإنه لا يغسل عند العترة والأوزاعي لفسقه لا لكونه شهيدا ; قوله : ( وصلى عليه ) فيه إثبات الصلاة على الشهيد ، وسيأتي الكلام على ذلك . قوله : ( قال نعم . . . إلخ ) فيه أن من قتل نفسه خطأ شهيد وقد أخرج مسلم والنسائي وأبو داود عن سلمة بن الأكوع قال : { لما كان يوم خيبر قاتل أخي قتالا شديدا ، فارتد عليه سيفه فقتله ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وشكوا فيه ، رجل مات بسلاحه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مات جاهدا مجاهدا وفي رواية كذبوا ، مات جاهدا مجاهدا أجره مرتين } هذا لفظ أبي داود .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية