الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب رمي جمرة العقبة يوم النحر وأحكامه 2010 - ( عن جابر قال : { رمى النبي صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى وأما بعد فإذا زالت الشمس } أخرجه الجماعة ) .

                                                                                                                                            2011 - ( وعن جابر قال : { رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر ويقول : لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه } رواه أحمد ومسلم والنسائي ) .

                                                                                                                                            2012 - ( وعن ابن مسعود { أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى ، فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ورمى بسبع وقال : هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة } . متفق عليه ، ولمسلم في رواية : جمرة العقبة .

                                                                                                                                            وفي رواية لأحمد : { أنه انتهى إلى جمرة العقبة فرماها من بطن الوادي بسبع حصيات وهو راكب يكبر مع كل حصاة ، وقال : اللهم [ ص: 79 ] اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا ثم قال : هاهنا كان يقوم الذي أنزلت عليه سورة البقرة . } )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله ( الجمرة ) يعني : جمرة العقبة . قوله : ( يوم النحر ضحى ) لا خلاف أن هذا الوقت هو الأحسن لرميها واختلف فيمن رماها قبل الفجر ، فقال الشافعي : يجوز تقديمه من نصف الليل وبه قال عطاء وطاوس والشعبي وقالت الحنفية وأحمد وإسحاق والجمهور : إنه لا يرمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس ، ومن رمى قبل طلوع الشمس وبعد طلوع الفجر جاز ، وإن رماها قبل الفجر أعاد . وحكى المهدي في البحر عن العترة والشافعي أن وقت الرمي من ضحى يوم النحر واستدل القائلون بأن وقت الرمي من وقت الضحى بحديث الباب وبحديث ابن عباس الآتي : قالوا : وإذا كان من رخص له النبي صلى الله عليه وسلم منعه أن يرمي قبل طلوع الشمس ، فمن لم يرخص له أولى ، واحتج المجوزون للرمي قبل الفجر بحديث أسماء الآتي ولكنه مختص بالنساء كما سيأتي ، ولا حاجة إلى الجمع بينه وبين حديث ابن عباس بحمل حديث ابن عباس على الندب كما ذكره صاحب الفتح قال ابن المنذر : السنة أن لا يرمي إلا بعد طلوع الشمس كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز الرمي قبل طلوع الفجر ; لأن فاعله مخالف للسنة ، ومن رماها حينئذ فلا إعادة عليه إذ لا أعلم أحدا قال : لا يجزئه انتهى .

                                                                                                                                            والأدلة تدل على أن وقت الرمي من بعد طلوع الشمس لمن كان لا رخصة له ومن كان له رخصة كالنساء وغيرهن من الضعفة جاز قبل ذلك ، ولكنه لا يجزئ في أول ليلة النحر إجماعا وسيأتي بقية الكلام على هذا واعلم أنه قد قيل : إن الرمي واجب بالإجماع كما حكى ذلك في البحر واقتصر صاحب الفتح على حكاية الوجوب عن الجمهور وقال : إنه عند المالكية سنة وحكى عنهم أن رمي جمرة العقبة ركن يبطل الحج بتركه ، وحكى ابن جرير عن عائشة وغيرها أن الرمي إنما شرع حفظا للتكبير فإن تركه وكبر أجزأه والحق أنه واجب لما قدمنا من أن أفعاله صلى الله عليه وسلم بيان لمجمل واجب وهو قوله تعالى: { ولله على الناس حج البيت } وقوله صلى الله عليه وسلم : { خذوا عني مناسككم } .

                                                                                                                                            قوله : ( على راحلته ) استدل به على أن رمي الراكب لجمرة العقبة أفضل من رمي الراجل ، وبه قالت الشافعية والحنفية والناصر والإمام يحيى وقال الهادي والقاسم : إن رمي الراجل أفضل وأجابوا عن الحديث بأنه صلى الله عليه وسلم كان راكبا لعذر الازدحام قوله : ( لتأخذوا ) بكسر اللام قال النووي : هي لام الأمر ومعناه خذوا مناسككم قال : وهكذا وقع في رواية غير مسلم وتقدير الحديث أن هذه الأمور التي [ ص: 80 ] أثبت بها في حجتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحج وصفته والمعنى : اقبلوها واحفظوها واعملوا بها وعلموها الناس

                                                                                                                                            قال النووي وغيره : هذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة : { صلوا كما رأيتموني أصلي } قال القرطبي : ويلزم من هذين الأصلين أن الأصل في أفعال الصلاة والحج الوجوب إلا ما خرج بدليل كما ذهب إليه أهل الظاهر وحكي عن الشافعي انتهى وقد قدمنا في الصلاة أن مرجع واجباتها إلى حديث المسيء فلا يجب غير ما اشتمل عليه إلا بدليل يخصه وقد قدمنا أن أفعال الحج وأقواله ، الظاهر فيها الوجوب إلا ما خرج بدليل كما قالت الظاهرية ، وهو الحق . قال القرطبي : روايتنا لهذا الحديث فاللام الجر المفتوحة والنون التي هي مع الألف ضمير أي : يقول لنا : خذوا مناسككم ، فيكون قوله لنا صلة للقول ، قال : وهو الأفصح ، وقد روي لتأخذوا بكسر اللام للأمر وبالتاء المثناة من فوق وهي لغة شاذة { قرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: فبذلك فلتفرحوا } انتهى .

                                                                                                                                            والأولى أن يقال : إنها قليلة لا شاذة ، لورودها في كتاب الله تعالى وفي كلام نبيه صلى الله عليه وسلم وفي كلام فصحاء العرب وقد قرأ بها عثمان بن عفان وأبي وأنس والحسن وأبو رجاء وابن هرمز وابن سيرين وأبو جعفر المدني والسلمي وقتادة والجحدري وهلال بن يساف والأعمش وعمرو بن فائد والعباس بن الفضل الأنصاري قال صاحب اللوامح : وقد جاء عن يعقوب كذلك ، قال ابن عطية : وقرأ بها ابن القعقاع وابن عامر وهي قراءة جماعة من المسلمين كثيرة وما نقله ابن عطية عن ابن عامر هو خلاف قراءته المشهورة .

                                                                                                                                            قوله : ( لعلي لا أحج بعد حجتي هذه ) فيه إشارة إلى توديعهم ، وإعلامهم بقرب وفاته صلى الله عليه وسلم ولهذا سميت حجة الوداع . قوله : ( إلى الجمرة الكبرى ) هي جمرة العقبة . قوله : ( فجعل البيت عن يساره ) فيه أنه يستحب لمن وقف عند الجمرة أن يجعل مكة عن يساره . قوله : ( ومنى عن يمينه ) فيه أنه يستحب أن يجعل منى على جهة يمينه ويستقبل الجمرة بوجهه . قوله : ( ورمى بسبع ) فيه دليل على أن رمي الجمرة يكون بسبع حصيات ، وهو يرد قول ابن عمر : ما أبالي رميت الجمرة بست أو بسبع ، وسيأتي في باب المبيت بمنى متمسك لقوله وروي عن مجاهد أنه لا شيء على من رمى بست وعن طاوس يتصدق بشيء ، وعن مالك والأوزاعي من رمى بأقل من سبع وفاته التدارك يجبره بدم ، وعن الشافعية في ترك حصاة مد ، وفي ترك حصاتين مدان ، وفي ثلاثة فأكثر دم وعن الحنفية إن ترك أقل من نصف الجمرات الثلاث فنصف صاع وإلا فدم .

                                                                                                                                            قوله : ( سورة البقرة ) خصها بالذكر ; لأن معظم أحكام الحج فيها . قوله : ( يكبر مع كل حصاة ) فيه استحباب التكبير مع كل حصاة . وقد استدل بهذا على اشتراط رمي الجمرات بواحدة بعد واحدة من الحصى ; لأن التكبير مع كل حصاة [ ص: 81 ] يدل على ذلك وروي عن عطاء أنه يجزئ ويكبر لكل حصاة تكبيرة

                                                                                                                                            وقال الأصم : يجزئ مطلقا ، وقال الحسن البصري : يجزئ الجاهل فقط وقال الناصر والحنفية والشافعية : يجزئ عن واحدة مطلقا . وقالت الهادوية : لا يجزئ بل يستأنف . قوله : ( وقال اللهم ) . . . إلخ فيه استحباب هذا مع التكبير قال في الفتح : وأجمعوا على أن من لم يكبر لا شيء عليه انتهى .

                                                                                                                                            2013 - ( وعن ابن عباس قال : { قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات لنا من جمع ، فجعل يلطح أفخاذنا ويقول : أبيني لا ترموا حتى تطلع الشمس } رواه الخمسة وصححه الترمذي ولفظه : { قدم ضعفة أهله وقال : لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس } ) .

                                                                                                                                            2014 - ( وعن عائشة قالت : { أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر ، فرمت الجمرة قبل الفجر ، ثم مضت فأفاضت ، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني : عندها . } رواه أبو داود ) .

                                                                                                                                            2015 - ( وعن عبد الله مولى أسماء عن أسماء أنها { نزلت ليلة جمع عند المزدلفة ، فقامت تصلي فصلت ساعة ثم قالت : يا بني هل غاب القمر ؟ قلت : لا ، فصلت ساعة ثم قالت : يا بني هل غاب القمر قلت : لا ، فصلت ساعة ثم قالت : يا بني هل غاب القمر ؟ قلت : نعم ، قالت : فارتحلوا فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة ، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها ، فقلت لها : يا هنتاه ما أرانا إلا قد غلسنا ، قالت : يا بني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن } متفق عليه ) .

                                                                                                                                            2016 - ( وعن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث به مع أهله إلى منى يوم النحر فرموا الجمرة مع الفجر . } رواه أحمد ) حديث ابن عباس الأول أخرجه أيضا الطحاوي وابن حبان وصححه ، وحسنه الحافظ [ ص: 82 ] في الفتح وله طرق .

                                                                                                                                            وحديث عائشة أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي ورجاله رجال الصحيح .

                                                                                                                                            وحديث ابن عباس الثاني أخرجه أيضا النسائي والطحاوي ولفظه : { بعثني النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله وأمرني أن أرمي مع الفجر } وهو في الصحيحين بلفظ : { كنت فيمن قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى }

                                                                                                                                            قوله : ( أغيلمة ) منصوب على الاختصاص أو على الندب قال في النهاية : تصغير أغلمة بسكون وكسر اللام جمع غلام وهو جائز في القياس ولم يرد في جمع الغلام أغلمة ، وإنما ورد غلمة بكسر الغين والمراد بالأغيلمة الصبيان ولذلك صغرهم قوله : ( على حمرات ) بضم الحاء المهملة والميم جمع لحمر ، وحمر جمع لحمار قوله : ( فجعل يلطح ) بفتح الياء التحتية والطاء المهملة وبعدها حاء مهملة قال الجوهري : اللطح الضرب اللين على الظهر ببطن الكف ا هـ وإنما فعل ذلك ملاطفة لهم قوله : أبيني بضم الهمزة وفتح الباء الموحدة وسكون ياء التصغير وبعدها نون مكسورة ثم ياء النسب المشددة كذا قال ابن رسلان في شرح السنن وقال في النهاية : الأبيني بوزن الأعيمي تصغير الأبنا بوزن الأعمى وهو جمع ابن .

                                                                                                                                            قوله : حتى تطلع الشمس استدل بهذا من قال : إن وقت رمي جمرة العقبة من بعد طلوع الشمس . وقد تقدم الكلام على ذلك ، وأما وقت رمي غيرها فسيأتي في باب المبيت بمنى قوله : ( قبل الفجر ) هذا مختص بالنساء كما أسلفنا فلا يصلح للتمسك به على جواز الرمي لغيرهن من هذا الوقت لورود الأدلة القاضية بخلاف ذلك كما تقدم ، ولكنه يجوز لمن بعث معهن من الضعفة كالعبيد والصبيان أن يرمي في وقت رميهن كما في حديث أسماء وحديث ابن عباس الآخر . قوله : ( فأفاضت ) أي : ذهبت لطواف الإفاضة ثم رجعت إلى منى .

                                                                                                                                            قوله : ( يعني : ) هو من تفسير أبي داود قوله : ( عندها ) يعني : عند أم سلمة أي : في نوبتها من القسم . قوله : ( فارتحلوا ) في رواية مسلم { فارحل بي } . قوله : ( يا هنتاه ) بفتح الهاء والنون وقد تسكن النون بعدها مثناة فوقية وآخرها هاء ساكنة هذا اللفظ كناية عن شيء لا تذكره باسمه وهو بمعنى يا هذه . قوله : ( ما أرانا ) بضم الهمزة بمعنى الظن ، وفي رواية مسلم { لقد غلسنا } بالجزم .

                                                                                                                                            وفي رواية الموطإ { لقد جئنا بغلس } .

                                                                                                                                            وفي رواية أبي داود { إنا رمينا الجمرة بليل وغلسنا } . قوله : ( أذن للظعن ) بضم الظاء المعجمة جمع ظعينة وهي المرأة في الهودج ثم أطلق على المرأة مطلقا وفي هذا الحديث دليل على أنه يجوز للنساء الرمي لجمرة العقبة في النصف الأخير من الليل وقد تقدم الخلاف في ذلك .

                                                                                                                                            واستدل به على إسقاط المرور بالمشعر عن الظعينة ولا دلالة فيه على ذلك ; لأن غاية ما فيه السكوت عن المرور بالمشعر وقد ثبت في البخاري وغيره عن ابن عمر أنه كان يقدم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل ثم يقدمون منى لصلاة الفجر ويرمون . قوله : ( مع الفجر ) فيه [ ص: 83 ] دليل على أنه يجوز للنساء ومن معهن من الضعفة الرمي وقت الفجر كما تقدم . .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية