الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 260 ] ( ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ( 89 ) إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ( 90 ) )

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ( ودوا ) تمنوا ، يعني أولئك الذين رجعوا عن الدين تمنوا ( لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ) في الكفر ، وقوله ( فتكونون ) لم يرد به جواب التمني لأن جواب التمني بالفاء منصوب ، إنما أراد النسق ، أي : ودوا لو تكفرون وودوا لو تكونون سواء ، مثل قوله ودوا لو تدهن فيدهنون ( القلم - 9 ) أي : ودوا لو تدهن وودوا لو تدهنون ، ( فلا تتخذوا منهم أولياء ) منع من موالاتهم ، ( حتى يهاجروا في سبيل الله ) معكم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال عكرمة : هي هجرة أخرى ، والهجرة على ثلاثة أوجه : هجرة المؤمنين في أول الإسلام ، وهي قوله تعالى " للفقراء المهاجرين " ( الحشر - 8 ) وقوله : " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله " ( النساء - 100 ) ، ونحوهما من الآيات ، وهجرة المنافقين : وهي الخروج في سبيل الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صابرا محتسبا [ كما حكي هاهنا ] منع من موالاتهم حتى يهاجروا في سبيل الله ، وهجرة سائر المؤمنين وهي ما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " المهاجر من هجر ما نهى الله عنه " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ( فإن تولوا ) أعرضوا عن التوحيد والهجرة ، ( فخذوهم ) أي : خذوهم أسارى ، ومنه يقال للأسير أخيذ ، ( واقتلوهم حيث وجدتموهم ) في الحل والحرم ، ( ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ) ثم استثنى طائفة منهم فقال :

                                                                                                                                                                                                                                      ( إلا الذين يصلون إلى قوم ) وهذا الاستثناء يرجع إلى القتل لا إلى الموالاة ، لأن موالاة الكفار والمنافقين لا تجوز بحال ، ومعنى ( يصلون ) أي : ينتسبون إليهم ويتصلون بهم ويدخلون فيهم بالحلف والجوار ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يريدون ويلجئون إلى قوم ، ( بينكم وبينهم ميثاق ) أي : عهد ، وهم الأسلميون ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر الأسلمي قبل خروجه إلى مكة على أن لا يعينه ولا يعين عليه ، ومن وصل إلى هلال من قومه وغيرهم ولجأ إليه فلهم من الجوار مثل ما لهلال ، . [ ص: 261 ] وقال الضحاك عن ابن عباس : أراد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق بني بكر بن زيد بن مناة كانوا في الصلح والهدنة ، وقال مقاتل : هم خزاعة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : ( أو جاءوكم ) أي : يتصلون بقوم جاءوكم ، ( حصرت صدورهم ) أي : ضاقت صدورهم ، قرأ الحسن ويعقوب " حصرة " ) منصوبة منونة أي : ضيقة صدورهم ، [ يعني القوم الذين جاءوكم وهم بنو مدلج ، كانوا عاهدوا أن لا يقاتلوا المسلمين وعاهدوا قريشا أن لا يقاتلوهم ، حصرت : ضاقت صدورهم ] ، ( أن يقاتلوكم ) أي : عن قتالكم للعهد الذي بينكم ، ( أو يقاتلوا قومهم ) يعني : من أمن منهم ، ويجوز أن يكون معناه أنهم لا يقاتلونكم مع قومهم ولا يقاتلون قومهم معكم ، يعنيقريشا قد ضاقت صدورهم لذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم : أو بمعنى الواو ، كأنه يقول : إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم ، أي : حصرت صدورهم عن قتالكم والقتال معكم ، وهم قوم هلال الأسلميون وبنو بكر ، نهى الله سبحانه عن قتال هؤلاء المرتدين إذا اتصلوا بأهل عهد للمسلمين ، لأن من انضم إلى قوم ذوي عهد فله حكمهم في حقن الدم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ( ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم ) يذكر منته على المسلمين بكف بأس المعاهدين ، يقول : إن ضيق صدورهم عن قتالكم لما ألقى الله في قلوبهم من الرعب وكفهم عن قتالكم ، ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم مع قومهم ، ( فإن اعتزلوكم ) أي : اعتزلوا قتالكم ، ( فلم يقاتلوكم ) ومن اتصل بهم ، ويقال : يوم فتح مكة يقاتلوكم مع قومهم ، ( وألقوا إليكم السلم ) أي : الصلح فانقادوا واستسلموا ( فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ) أي : طريقا بالقتل والقتال .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية