الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب ما يقول إذا سمع المنادي

                                                                                                                                                                                                        586 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب ما يقول إذا سمع المنادي ) هذا لفظ رواية أبي داود الطيالسي عن ابن المبارك عن يونس عن الزهري في حديث الباب ، وآثر المصنف عدم الجزم بحكم ذلك لقوة الخلاف فيه كما سيأتي . ثم ظاهر صنيعه يقتضي ترجيح ما عليه الجمهور ، وهو أن يقول مثل ما يقول من الأذان إلا الحيعلتين ، لأن حديث أبي سعيد الذي بدأ به عام ، وحديث معاوية الذي تلاه به يخصصه ، والخاص مقدم على العام .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن عطاء بن زيد ) في رواية ابن وهب عن مالك ويونس عن الزهري أن عطاء بن يزيد أخبره ، أخرجه أبو عوانة .

                                                                                                                                                                                                        ( فائدة : اختلف على الزهري في إسناد هذا الحديث ، وعلى مالك أيضا ، لكنه اختلاف لا يقدح في صحته ، فرواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة أخرجه النسائي وابن ماجه ، وقال أحمد بن صالح وأبو حاتم وأبو داود والترمذي : حديث مالك ومن تابعه أصح ، ورواه يحيى القطان عن مالك عن الزهري عن السائب بن يزيد أخرجه مسدد في مسنده عنه ، وقال الدارقطني : إنه خطأ والصواب الرواية الأولى ، وفيه اختلاف آخر دون ما ذكر لا نطيل به .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إذا سمعتم ) ظاهره اختصاص الإجابة بمن يسمع حتى لو رأى المؤذن على المنارة مثلا في الوقت وعلم أنه يؤذن لكن لم يسمع أذانه لبعد أو صمم لا تشرع له المتابعة ، قاله النووي في شرح المهذب .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 109 ] قوله : ( فقولوا مثل ما يقول المؤذن ) ادعى ابن وضاح أن قول " المؤذن " مدرج ، وأن الحديث انتهى عند قوله " مثل ما يقول " . وتعقب بأن الإدراج لا يثبت بمجرد الدعوى ، وقد اتفقت الروايات في الصحيحين والموطأ على إثباتها ، ولم يصب صاحب العمدة في حذفها .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ما يقول ) قال الكرماني : قال " ما يقول " ولم يقل مثل ما قال ليشعر بأنه يجيبه بعد كل كلمة مثل كلمتها . قلت : والصريح في ذلك ما رواه النسائي من حديث أم حبيبة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول كما يقول المؤذن حتى يسكت وأما أبو الفتح اليعمري فقال : ظاهر الحديث أنه يقول مثل ما يقول عقب فراغ المؤذن ، لكن الأحاديث التي تضمنت إجابة كل كلمة عقبها دلت على أن المراد المساوقة ، يشير إلى حديث عمر بن الخطاب الذي عند مسلم وغيره ، فلو لم يجاوبه حتى فرغ استحب له التدارك إن لم يطل الفصل . قاله النووي في شرح المهذب بحثا . وقد قالوه فيما إذا كان له عذر كالصلاة ، وظاهر قوله مثل أنه يقول مثل قوله في جميع الكلمات ، لكن حديث عمر أيضا وحديث معاوية الآتي يدلان على أنه يستثنى من ذلك " حي على الصلاة وحي على الفلاح " فيقول بدلهما " لا حول ولا قوة إلا بالله " كذلك استدل به ابن خزيمة وهو المشهور عند الجمهور ، وقال ابن المنذر يحتمل أن يكون ذلك من الاختلاف المباح فيقول تارة كذا وتارة كذا ، وحكى بعض المتأخرين عن بعض أهل الأصول أن الخاص والعام إذا أمكن الجمع بينهما وجب إعمالهما ، قال : فلم لا يقال يستحب للسامع أن يجمع بين الحيعلة والحوقلة ، وهو وجه عند الحنابلة .

                                                                                                                                                                                                        أجيب عن المشهور من حيث المعنى بأن الأذكار الزائدة على الحيعلة يشترك السامع والمؤذن في ثوابها ، وأما الحيعلة فمقصودها الدعاء إلى الصلاة ، وذلك يحصل من المؤذن ، فعوض السامع عما يفوته من ثواب الحيعلة بثواب الحوقلة . ولقائل أن يقول : يحصل للمجيب الثواب لامتثاله الأمر ، ويمكن أن يزداد استيقاظا وإسراعا إلى القيام إلى الصلاة إذا تكرر على سمعه الدعاء إليها من المؤذن ومن نفسه . ويقرب من ذلك الخلاف في قول المأموم " سمع الله لمن حمده " كما سيأتي في موضعه . وقال الطيبي : معنى الحيعلتين هلم بوجهك وسريرتك إلى الهدى عاجلا والفوز بالنعيم آجلا ، فناسب أن يقول : هذا أمر عظيم لا أستطيع مع ضعفي القيام به إلا إذا وفقني الله بحوله وقوته . ومما لوحظت فيه المناسبة ما نقل عبد الرزاق عن ابن جريج قال : حدثت أن الناس كانوا ينصتون للمؤذن إنصاتهم للقراءة فلا يقول شيئا إلا قالوا مثله ، حتى إذا قال " حي على الصلاة " قالوا " لا حول ولا قوة إلا بالله " وإذا قال " حي على الفلاح " قالوا " ما شاء الله " . انتهى . وإلى هذا صار بعض الحنفية .

                                                                                                                                                                                                        وروى ابن أبي شيبة مثله عن عثمان ، وروي عن سعيد بن جبير قال : يقول في جواب الحيعلة : سمعنا وأطعنا . ووراء ذلك وجوه من الاختلاف أخرى ، قيل لا يجيبه إلا في التشهدين فقط ، وقيل هما والتكبير ، وقيل يضيف إلى ذلك الحوقلة دون ما في آخره ، وقيل مهما أتى به مما يدل على التوحيد والإخلاص كفاه وهو اختيار الطحاوي ، وحكوا أيضا خلافا : هل يجيب في الترجيع أو لا ، وفيما إذا أذن مؤذن آخر هل يجيبه بعد إجابته للأول أو لا . قال النووي : لم أر فيه شيئا لأصحابنا . وقال ابن عبد السلام : يجيب كل واحد بإجابة لتعدد السبب ، وإجابة الأول أفضل ، إلا في الصبح والجمعة فإنهما سواء لأنهما [ ص: 110 ] مشروعان . وفي الحديث دليل على أن لفظ المثل لا يقتضي المساواة من كل جهة ، لأن قوله مثل ما يقول لا يقصد به رفع الصوت المطلوب من المؤذن ، كذا قيل وفيه بحث ، لأن المماثلة وقعت في القول لا في صفته ، والفرق بين المؤذن والمجيب في ذلك أن المؤذن مقصوده الإعلام فاحتاج إلى رفع الصوت ، والسامع مقصوده ذكر الله فيكتفي بالسر أو الجهر لا مع الرفع . نعم لا يكفيه أن يجريه على خاطره من غير تلفظ لظاهر الأمر بالقول . وأغرب ابن المنير فقال : حقيقة الأذان جميع ما يصدر عن المؤذن من قول وفعل وهيئة .

                                                                                                                                                                                                        وتعقب بأن الأذان معناه الإعلام لغة ، وخصه الشرع بألفاظ مخصوصة في أوقات مخصوصة فإذا وجدت الأذان ، وما زاد على ذلك من قول أو فعل أو هيئة يكون من مكملاته - صلى الله عليه وسلم - ويوجد الأذان من دونها . ولو كان على ما أطلق لكان ما أحدث من التسبيح قبل الصبح وقبل الجمعة ومن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - من جملة الأذان ، وليس كذلك لا لغة ولا شرعا . واستدل به على جواز إجابة المؤذن في الصلاة عملا بظاهر الأمر ، ولأن المجيب لا يقصد المخاطبة ، وقيل يؤخر الإجابة حتى يفرغ لأن في الصلاة شغلا ، وقيل يجيب إلا في الحيعلتين لأنهما كالخطاب للآدميين والباقي من ذكر الله فلا يمنع . لكن قد يقال : من يبدل الحيعلة بالحوقلة لا يمنع ، لأنها من ذكر الله ، قاله ابن دقيق العيد . وفرق ابن عبد السلام في فتاويه بين ما إذا كان يقرأ الفاتحة فلا يجيب بناء على وجوب موالاتها وإلا فيجيب ، وعلى هذا إن أجاب في الفاتحة استأنف ، وهذا قاله بحثا ، والمشهور في المذهب كراهة الإجابة في الصلاة بل يؤخرها حتى يفرغ ، وكذا في حال الجماع والخلاء ، لكن إن أجاب بالحيعلة بطلت كذا أطلقه كثير منهم ، ونص الشافعي في الأم على عدم فساد الصلاة بذلك ، واستدل به على مشروعية إجابة المؤذن في الإقامة ، قالوا : إلا في كلمتي الإقامة فيقول " أقامها الله وأدامها " وقياس إبدال الحيعلة بالحوقلة في الأذان أن يجيء هنا ، لكن قد يفرق بأن الأذان إعلام عام فيعسر على الجميع أن يكونوا دعاة إلى الصلاة ، والإقامة إعلام خاص وعدد من يسمعها محصور فلا يعسر أن يدعو بعضهم بعضا واستدل به على وجوب إجابة المؤذن ، حكاه الطحاوي عن قوم من السلف وبه قال الحنفية وأهل الظاهر وابن وهب ، واستدل للجمهور بحديث أخرجه مسلم وغيره إنه - صلى الله عليه وسلم - سمع مؤذنا فلما كبر قال : على الفطرة ، فلما تشهد قال : خرج من النار قال : فلما قال - عليه الصلاة والسلام - غير ما قال المؤذن علمنا أن الأمر بذلك للاستحباب . وتعقب بأنه ليس في الحديث أنه لم يقل مثل ما قال ، فيجوز أن يكون قاله ولم ينقله الراوي اكتفاء بالعادة ونقل القول الزائد ، وبأنه يحتمل أن يكون ذلك وقع قبل صدور الأمر ، ويحتمل أن يكون الرجل لما أمر لم يرد أن يدخل نفسه في عموم من خوطب بذلك ، قيل ويحتمل أن يكون الرجل لم يقصد الأذان لكن يرد هذا الأخير أن في بعض طرقه أنه حضرته الصلاة




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية