الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب جوار أبي بكر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعقده

                                                                                                                                                                                                        2176 حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين وقال أبو صالح حدثني عبد الله عن يونس عن الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قبل الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال أين تريد يا أبا بكر فقال أبو بكر أخرجني قومي فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي قال ابن الدغنة إن مثلك لا يخرج ولا يخرج فإنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق وأنا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلادك فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر فطاف في أشراف كفار قريش فقال لهم إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وآمنوا أبا بكر وقالوا لابن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا قال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير داره ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وبرز فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا له إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره وأعلن الصلاة والقراءة وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا فأته فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد إليك ذمتك فإنا كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان قالت عائشة فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال قد علمت الذي عقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إلي ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له قال أبو بكر إني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أريت دار هجرتكم رأيت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة وتجهز أبو بكر مهاجرا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي قال أبو بكر هل ترجو ذلك بأبي أنت قال نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر [ ص: 556 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 556 ] قوله : ( باب جوار أبي بكر ) الصديق تكسر الجيم وتضم ، والمراد به الذمام والأمان .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعقده ) أورد فيه حديث عائشة في شأن الهجرة مطولا .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 557 ] قوله : ( فأخبرني عروة ) فيه محذوف تقديره أخبرني فلان بكذا ، وأخبرني عروة بكذا ، والغرض من هذا الحديث هنا رضا أبي بكر بجوار ابن الدغنة ، وتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - له على ذلك . ووجه دخوله في الكفالة أنه لائق بكفالة الأبدان ؛ لأن الذي أجاره كأنه تكفل بنفس المجار أن لا يضام ، قاله ابن المنير .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) : ساق البخاري الحديث هنا [1] على لفظ يونس عن الزهري ، وساقه في الهجرة على لفظ عقيل ، وسأبين ما بينهما من التفاوت هناك ، وذكر فيه الاختلاف في اسم ابن الدغنة وضبطه وضبط برك الغماد إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال أبو صالح حدثني عبد الله عن يونس ) هذا التعليق سقط من رواية أبي ذر ، وساق الحديث عن عقيل وحده . وأبو صالح هذا اتفق أبو نعيم والأصيلي والجياني وغيرهم أنه سليمان بن صالح المروزي ولقبه سلمويه وشيخه عبد الله هو ابن المبارك ، وبذلك جزم الأصيلي . وجزم الإسماعيلي بأنه أبو صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخه عبد الله على هذا هو ابن وهب . وزعم الدمياطي أنه أبو صالح محبوب بن موسى الفراء الأنطاكي ولم يذكر لذلك مستندا ، ولم يسبقه أحد إلى عد محبوب بن موسى في شيوخ البخاري ، والمعتمد هو الأول فقد وقع في رواية ابن السكن عن الفربري عن البخاري قال : " قال أبو صالح سلمويه : حدثنا عبد الله بن المبارك " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب الدين كذا للأصيلي وكريمة ، وسقط الباب وترجمته من رواية أبي ذر وأبي الوقت ، وسقط الحديث أيضا من رواية المستملي ، ووقع للنسفي وابن شبويه باب ، بغير ترجمة وبه جزم الإسماعيلي ، وأما ابن بطال فذكر هذا الحديث في آخر " باب من تكفل عن ميت بدين " وصنيعه أليق; لأن الحديث لا تعلق له بترجمة جوار أبي بكر حتى يكون منها ، أو ثبتت باب بلا ترجمة فيكون كالفصل منها ، وأما من ترجم له : باب الدين ، فبعيد إذ اللائق بذلك أن يكون في كتاب القرض .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن أبي سلمة عن أبي هريرة هكذا رواه عقيل وتابعه يونس وابن أخي ابن شهاب وابن أبي ذئب كما أخرجه مسلم ، وخالفهم معمر فرواه عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر أخرجه أبو داود والترمذي .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 558 ] قوله : ( هل ترك لدينه فضلا أي : قدرا زائدا على مؤنة تجهيزه ، وفي رواية الكشميهني " قضاء " بدل فضلا ، وكذا هو عند مسلم وأصحاب السنن ، وهو أولى بدليل قوله : " فإن حدث أنه ترك لدينه وفاء " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فترك دينا في رواية همام عن أبي هريرة عند مسلم : " فترك دينا أو ضيعة " وسيأتي في تفسير سورة الأحزاب من طريق عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة بلفظ : " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة ، فأيما مؤمن مات " فذكره ، وفيه : " ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني " وسيأتي الكلام على هذه الزيادة التي في أوله هناك ، إن شاء الله تعالى . والضياع بفتح المعجمة بعدها تحتانية قال الخطابي : هو وصف لما خلفه الميت بلفظ المصدر ، أي : ترك ذوي ضياع ، أي لا شيء لهم ، وقوله : " كلا " [2] بفتح أوله أصله الثقل والمراد به هنا العيال .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فلورثته في رواية مسلم : " فهو لورثته " وفي رواية عبد الرحمن بن أبي عمرة : " فليرثه عصبته " ولمسلم من طريق الأعرج عن أبي هريرة : " فإلى العصبة من كان " وسيأتي البحث فيه في كتاب الفرائض إن شاء الله تعالى . قال العلماء : كان الذي فعله - صلى الله عليه وسلم - من ترك الصلاة على من عليه دين ليحرض الناس على قضاء الديون في حياتهم والتوصل إلى البراءة منها ، لئلا تفوتهم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهل كانت صلاته على من عليه دين محرمة عليه أو جائزة؟ وجهان : قال النووي : الصواب الجزم بجوازه مع وجود الضامن كما في حديث مسلم ، وحكى القرطبي أنه ربما كان يمتنع من الصلاة على من استدان دينا غير جائز ، وأما من استدان لأمر هو جائز فما كان يمتنع ، وفيه نظر ؛ لأن في حديث الباب ما يدل على التعميم حيث قال : " من توفي وعليه دين " ولو كان الحال مختلفا لبينه . نعم جاء من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما امتنع من الصلاة على من عليه دين جاءه جبريل فقال : إنما الظالم في الديون التي حملت في البغي والإسراف ، فأما المتعفف ذو العيال فأنا ضامن له أؤدي عنه . فصلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال بعد ذلك : " من ترك ضياعا " الحديث ، وهو ضعيف . وقال الحازمي بعد أن أخرجه : لا بأس به في المتابعات ، وليس فيه أن التفصيل المذكور كان مستمرا ، وإنما فيه أنه طرأ بعد ذلك وأنه السبب في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من ترك دينا فعلي " ، وفي صلاته - صلى الله عليه وسلم - على من عليه دين بعد أن فتح الله عليه الفتوح إشعار بأنه كان يقضيه من مال المصالح ، وقيل : بل كان يقضيه من خالص نفسه ، وهل كان القضاء واجبا عليه أم لا ؟ وجهان . وقال ابن بطال : قوله : " من ترك دينا فعلي " ناسخ لترك الصلاة على من مات وعليه دين ، وقوله : " فعلي قضاؤه " أي : مما يفيء الله عليه من الغنائم والصدقات ، قال : وهكذا يلزم المتولي لأمر المسلمين أن يفعله بمن مات وعليه دين ، فإن لم يفعل فالإثم عليه إن كان حق الميت في بيت المال يفي بقدر ما عليه من الدين ، وإلا فبقسطه .

                                                                                                                                                                                                        ( خاتمة ) : اشتمل كتاب الحوالة وما معه من الكفالة على اثني عشر حديثا المعلق منها طريقان والبقية موصولة المكرر منه فيه وفيما مضى ستة أحاديث ، والستة الأخرى خالصة ، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث سلمة بن الأكوع في الصلاة على من عليه دين ، وحديث ابن عباس في الميراث . وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم ثمانية آثار . والله المستعان .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية