الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب هل يرجع إذا رأى منكرا في الدعوة ورأى أبو مسعود صورة في البيت فرجع ودعا ابن عمر أبا أيوب فرأى في البيت سترا على الجدار فقال ابن عمر غلبنا عليه النساء فقال من كنت أخشى عليه فلم أكن أخشى عليك والله لا أطعم لكم طعاما فرجع

                                                                                                                                                                                                        4886 حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن نافع عن القاسم بن محمد عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها أخبرته أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل فعرفت في وجهه الكراهية فقلت يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله ماذا أذنبت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بال هذه النمرقة قالت فقلت اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم وقال إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة [ ص: 158 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 158 ] قوله ( باب هل يرجع إذا رأى منكرا في الدعوة ) هكذا أورد الترجمة بصورة الاستفهام ، ولم يبت الحكم لما فيها من الاحتمال كما سأبينه إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ورأى ابن مسعود صورة في البيت فرجع ) كذا في رواية المستملي والأصيلي والقابسي وعبدوس ، وفي رواية الباقي " أبو مسعود " والأول تصحيف فيما أظن فإنني لم أر الأثر المعلق إلا عن أبي مسعود عقبة بن عمرو ، وأخرجه البيهقي من طريق عدي بن ثابت عن خالد بن سعد عن أبي مسعود " أن رجلا صنع طعاما فدعاه فقال : أفي البيت صورة ؟ قال : نعم . فأبى أن يدخل حتى تكسر الصورة " وسنده صحيح . وخالد بن سعد هو مولى أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري ولا أعرف له عن عبد الله بن مسعود رواية ، ويحتمل أن يكون ذلك وقع لعبد الله بن مسعود أيضا لكن لم أقف عليه .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ودعا ابن عمر أبا أيوب فرأى في البيت سترا على الجدار فقال ابن عمر : غلبنا عليه النساء . فقال : من كنت أخشى عليه فلم أكن أخشى عليك ، والله لا أطعم لكم طعاما . فرجع ) وصله أحمد في " كتاب الورع " ومسدد في مسنده ومن طريقه الطبراني من رواية عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر قال " أعرست في عهد أبي ، فآذن أبي الناس ، فكان أبو أيوب فيمن آذنا وقد ستروا بيتي ببجاد أخضر ، فأقبل أبو أيوب فاطلع فرآه فقال : يا عبد الله أتسترون الجدر ؟ فقال أبي واستحيا : غلبنا عليه النساء يا أبا أيوب ، فقال : من خشيت أن تغلبه النساء " فذكره ووقع لنا من وجه آخر من طريق الليث عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن سالم بمعناه وفيه " فأقبل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يدخلون الأول فالأول ، حتى أقبل أبو أيوب " وفيه " فقال عبد الله : أقسمت عليك لترجعن ، فقال : وأنا أعزم على نفسي أن لا أدخل يومي هذا ، ثم انصرف " وقد وقع نحو ذلك لابن عمر فيما بعد فأنكره وأزال ما أنكر ولم يرجع كما صنع أبو أيوب ، فروينا في " كتاب الزهد لأحمد " من طريق عبد الله بن عتبة قال " دخل ابن عمر بيت رجل دعاه إلى عرس فإذا بيته قد ستر بالكرور ، فقال ابن عمر : يا فلان متى تحولت الكعبة في بيتك ؟ ثم قال لنفر معه من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : ليهتك كل رجل ما يليه " .

                                                                                                                                                                                                        وأخرج ابن وهب ومن طريقه البيهقي " أن عبيد الله بن عبد الله بن عمر دعي لعرس فرأى البيت قد ستر فرجع ، فسئل فذكر قصة أبي أيوب " . ثم ذكر المصنف حديث عائشة في الصور وسيأتي شرحه وبيان حكم الصور مستوفى في كتاب اللباس ، وموضع الترجمة منه قولها " قام على الباب فلم يدخل " قال ابن بطال : فيه أنه لا يجوز الدخول في الدعوة يكون فيها منكر مما نهى الله ورسوله عنه لما في ذلك من إظهار الرضا بها ، ونقل مذاهب القدماء في ذلك ، وحاصله إن كان هناك محرم وقدر على إزالته فأزاله فلا بأس ، وإن لم يقدر فليرجع ، وإن كان مما يكره كراهة تنزيه فلا يخفى الورع ، ومما يؤيد ذلك ما وقع في قصة ابن عمر من اختلاف الصحابة في دخول البيت الذي سترت جدره ، ولو كان حراما ما قعد الذين قعدوا ولا فعله ابن عمر ، فيحمل فعل أبي أيوب على كراهة التنزيه جمعا بين الفعلين ، ويحتمل أن يكون أبو أيوب كان يرى التحريم والذين لم ينكروا كانوا يرون الإباحة ، وقد فصل العلماء ذلك على ما أشرت إليه ، قالوا إن كان لهوا مما اختلف فيه فيجوز الحضور ، والأولى الترك . وإن كان حراما كشرب الخمر نظر فإن كان المدعو ممن إذا حضر رفع لأجله فليحضر ، وإن لم يكن كذلك ففيه للشافعية وجهان : أحدهما يحضر وينكر بحسب قدرته ، وإن كان الأولى أن لا يحضر . قال البيهقي : وهو ظاهر نص الشافعي ، وعليه جرى العراقيون من أصحابه . وقال صاحب [ ص: 159 ] " الهداية " من الحنفية : لا بأس أن يقعد ويأكل إذا لم يكن يقتدى به ، فإن كان ولم يقدر على منعهم فليخرج لما فيه من شين الدين وفتح باب المعصية . وحكي عن أبي حنيفة أنه قعد ، وهو محمول على أنه وقع له ذلك قبل أن يصير مقتدى به ، قال : وهذا كله بعد الحضور ، فإن علم قبله لم تلزمه الإجابة ، والوجه الثاني للشافعية تحريم الحضور لأنه كالرضا بالمنكر وصححه المراوزة ، فإن لم يعلم حتى حضر فلينههم ، فإن لم ينتهوا فليخرج إلا إن خاف على نفسه من ذلك ، وعلى ذلك جرى الحنابلة . وكذا اعتبر المالكية في وجوب الإجابة أن لا يكون هناك منكر ، وإذا كان من أهل الهيئة لا ينبغي له أن يحضر موضعا فيه لهو أصلا حكاه ابن بطال وغيره عن مالك ، ويؤيد منع الحضور حديث عمران بن حصين " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إجابة طعام الفاسقين " أخرجه الطبراني في " الأوسط " ، ويؤيده مع وجود الأمر المحرم ما أخرجه النسائي من حديث جابر مرفوعا " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر " وإسناده جيد ، وأخرجه الترمذي من وجه آخر فيه ضعف عن جابر ، وأبو داود من حديث ابن عمر بسند فيه انقطاع ، وأحمد من حديث عمر .

                                                                                                                                                                                                        وأما حكم ستر البيوت والجدران ففي جوازه اختلاف قديم ، وجزم جمهور الشافعية بالكراهة ، وصرح الشيخ أبو نصر المقدسي منهم بالتحريم ، واحتج بحديث عائشة " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين ، وجذب الستر حتى هتكه " وأخرجه مسلم . قال البيهقي هذه اللفظة تدل على كراهة ستر الجدار ، وإن كان في بعض ألفاظ الحديث أن المنع كان بسبب الصورة . وقال غيره : ليس في السياق ما يدل على التحريم ، وإنما فيه نفي الأمر لذلك ، ونفي الأمر لا يستلزم ثبوت النهي ، لكن يمكن أن يحتج بفعله صلى الله عليه وسلم في هتكه . وجاء النهي عن ستر الجدر صريحا ، منها في حديث ابن عباس عند أبي داود وغيره " ولا تستروا الجدر بالثياب " وفي إسناده ضعف ، وله شاهد مرسل عن علي بن الحسين أخرجه ابن وهب ثم البيهقي من طريقه ، وعند سعيد بن منصور من حديث سلمان موقوفا " أنه أنكر ستر البيت وقال : أمحموم بيتكم أو تحولت الكعبة عندكم ؟ قال لا أدخله حتى يهتك " وتقدم قريبا خبر أبي أيوب وابن عمر في ذلك . وأخرج الحاكم والبيهقي من حديث محمد بن كعب عن عبد الله بن يزيد الخطمي أنه رأى بيتا مستورا فقعد وبكى وذكر حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه " كيف بكم إذا سترتم بيوتكم " الحديث وأصله في النسائي




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية