الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          137 حدثنا الحسين بن حريث أخبرنا الفضل بن موسى عن أبي حمزة السكري عن عبد الكريم عن مقسم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا كان دما أحمر فدينار وإذا كان دما أصفر فنصف دينار قال أبو عيسى حديث الكفارة في إتيان الحائض قد روي عن ابن عباس موقوفا ومرفوعا وهو قول بعض أهل العلم وبه يقول أحمد وإسحق قال ابن المبارك يستغفر ربه ولا كفارة عليه وقد روي نحو قول ابن المبارك عن بعض التابعين منهم سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وهو قول عامة علماء الأمصار

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( نا الفضل بن موسى ) السيناني أبو عبد الله المروزي ، ثقة ثبت وربما أغرب .

                                                                                                          ( عن أبي حمزة السكري ) سمي بذلك لحلاوة كلامه ، كذا في الخلاصة ، وقال في القاموس : بضم السين وتشديد الكاف معرب شكر . انتهى ، فعلى هذا يكون السكري بضم السين وتشديد الكاف ، وكذا ضبط في نسخة قلمية بالقلم ، وضبط في النسخة الأحمدية المطبوعة بفتح السين والكاف الخفيفة . قال الحافظ في التقريب : ثقة فاضل من السابعة .

                                                                                                          ( عن عبد الكريم ) بن مالك الجزري ، يكنى بأبي سعيد مولى بني أمية وهو الخضري نسبة إلى قرية من اليمامة . ثقة متقن من السادسة .

                                                                                                          قوله : ( إذا كان دما أحمر فدينار ، وإن كان دما أصفر فنصف دينار ) قال المنذري : هذا الحديث قد وقع الاضطراب في إسناده ومتنه ، فروي مرفوعا وموقوفا ومرسلا ومعضلا . وقال عبد الرحمن بن مهدي : قيل لشعبة إنك كنت ترفعه قال إني كنت مجنونا فصححت ، وأما الاضطراب في متنه فروي بدينار أو نصف دينار على الشك ، وروي يتصدق بدينار فإن لم يجد فبنصف دينار ، وروي إذا كان دما أحمر فدينار ، وإن كان دما أصفر فنصف دينار ، وروي إن كان الدم عبيطا فليتصدق بدينار ، وإن كان صفرة فنصف دينار . انتهى كلام المنذري ، وقال الحافظ في التلخيص : والاضطراب في إسناد هذا الحديث ومتنه كثير ، انتهى .

                                                                                                          قلت : لا شك أن في إسناد هذا الحديث ومتنه اختلافا كثيرا ، لكن مجرد الاختلاف قليلا كان أو كثيرا لا يورث الاضطراب القادح في صحة الحديث ، بل يشترط له استواء وجوه الاختلاف ، فمتى رجحت رواية من الروايات المختلفة من حيث الصحة قدمت ولا تعل الرواية الراجحة بالمرجوحة ، وهاهنا رواية عبد الحميد عن مقسم عن ابن عباس بلفظ : " فليتصدق بدينار أو بنصف دينار " صحيحة راجحة . فكل رواتها مخرج لهم في الصحيح إلا مقسما الراوي عن ابن عباس فانفرد به البخاري ، لكن ما أخرج له إلا حديثا واحدا ، وقد صحح هذه الرواية الحاكم وابن دقيق العيد وقال : ما أحسن حديث عبد الحميد عن مقسم عن ابن عباس ، فقيل تذهب إليه؟ فقال [ ص: 358 ] نعم ، ورواية عبد الحميد هذه لم يخرجها الترمذي وأخرجها أبو داود قال : حدثنا مسدد نا يحيى عن شعبة قال حدثني الحكم عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مقسم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض ، قال : يتصدق بدينار أو نصف دينار ، قال أبو داود هكذا الرواية الصحيحة قال دينار أو نصف دينار ، ولم يرفعه شعبة فرواية عبد الحميد هذه صحيحة راجحة ، وأما باقي الروايات فضعيفة مرجوحة لا توازي رواية عبد الحميد فلا تعل رواية عبد الحميد هذه بالروايات الضعيفة . قال الحافظ في التلخيص : قد أمعن ابن القطان القول في تصحيح هذا الحديث ، والجواب عن طرق الطعن فيه بما يراجع منه ، وأقر ابن دقيق العيد تصحيح ابن القطان وقواه في الإمام وهو الصواب . فكم من حديث احتجوا به وفيه من الاختلاف أكثر مما في هذا الحديث ، كحديث بئر بضاعة وحديث القلتين ونحوهما ، وفي ذلك ما يرد على النووي في دعواه في شرح المهذب والتنقيح والخلاصة أن الأئمة كلهم خالفوا الحاكم في تصحيحه وأن الحق أنه ضعيف باتفاقهم ، وتبع في بعض ذلك ابن الصلاح . انتهى كلام الحافظ ، وبالجملة رواية عبد الحميد صحيحة ، لكن وقع الاختلاف في رفعها فرفعها شعبة مرة ووقفها مرة ، قال الحافظ في بلوغ المرام بعد ذكر هذه الرواية مرفوعة : صححه الحاكم وابن القطان ورجح غيرهما وقفه ، قال الشوكاني في النيل : ويجاب عن دعوى الاختلاف في رفعه ووقفه بأن يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر وابن أبي عدي رفعوه عن شعبة ، وكذلك وهب بن جرير وسعيد بن عامر والنضر بن شميل وعبد الوهاب بن عطاء الخفاف ، قال ابن سيد الناس : من رفعه عن شعبة أجل وأكثر وأحفظ ممن وقفه ، وأما قول شعبة أسنده لي الحكم مرة ووقفه مرة فقد أخبر عن المرفوع والموقوف أن كلا عنده ثم لو تساوى رافعوه مع واقفيه لم يكن في ذلك ما يقدح فيه ، وقال أبو بكر الخطيب : اختلاف الروايتين في الرفع لا يؤثر في الحديث ضعفا وهو مذهب أهل الأصول لأن إحدى الروايتين ليست مكذبة للأخرى والأخذ بالمرفوع أخذ بالزيادة وهي واجبة القبول ، انتهى .

                                                                                                          قلت : يؤيد ترجيح وقفها قول عبد الرحمن بن مهدي ، قيل لشعبة إنك كنت ترفعه قال إني كنت مجنونا فصححت ، وبين البيهقي في روايته أن شعبة رجع عن رفعه ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                          قوله : ( وهو قول بعض أهل العلم وبه يقول أحمد وإسحاق ، وقال ابن المبارك يستغفر ربه [ ص: 359 ] ولا كفارة عليه ) قال الحافظ ابن عبد البر : حجة من لم يوجب الكفارة باضطراب هذا الحديث ، وأن الذمة على البراءة ولا يجب أن يثبت فيها شيء لمسكين ولا غيره إلا بدليل لا مدفع فيه ولا مطعن عليه ، وذلك معدوم في هذه المسألة ، كذا في التلخيص ، وقال الخطابي في المعالم : ذهب إلى إيجاب الكفارة عليه غير واحد من العلماء ومنهم قتادة وأحمد بن حنبل وإسحاق وقال به الشافعي قديما ، ثم قال في الجديد لا شيء عليه ، قلت ولا ينكر أن يكون فيه كفارة ؛ لأنه وطء محظور كالوطء في رمضان ، وقال أكثر العلماء لا شيء عليه ويستغفر الله ، وزعموا أن هذا الحديث مرسل أو موقوف على ابن عباس ولا يصح متصلا مرفوعا والذمم بريئة إلا أن تقوم الحجة بشغلها ، وكان ابن عباس يقول : إذا أصابها في فور الدم تصدق بدينار ، وإن كان في آخره فنصف دينار ، وقال قتادة : دينار للحائض ونصف دينار إذا أصابها قبل أن تغتسل ، وكان أحمد بن حنبل يقول : هو مخير بين الدينار ونصف الدينار . انتهى كلام الخطابي بلفظه .

                                                                                                          قلت : وذهب إلى إيجاب الكفارة على من وطئ امرأته وهي حائض ابن عباس والحسن البصري وسعيد بن جبير والأوزاعي أيضا ، واختلفوا في الكفارة فقال الحسن وسعيد عتق رقبة ، وقال الباقون دينار أو نصف دينار على اختلاف منهم في الحال الذي يجب فيه الدينار أو نصف الدينار بحسب اختلاف الروايات ، كذا في النيل .

                                                                                                          قوله : ( وقد روي مثل قول ابن المبارك عن بعض التابعين منهم سعيد بن جبير وإبراهيم ) هو النخعي ولعل لسعيد بن جبير في هذه المسألة قولين ، ومنهم عطاء وابن أبي مليكة والشعبي ومكحول والزهري وربيعة وحماد بن أبي سليمان وأيوب السختياني وسفيان الثوري والليث بن سعد ومالك وأبو حنيفة وهو الأصح عن الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين ، وجماهير من السلف قالوا إنه لا كفارة عليه بل الواجب الاستغفار والتوبة وأجابوا عن الحديث بما سبق من المطاعن ، قالوا والأصل البراءة فلا ينتقل عنها إلا بحجة . قال الشوكاني بعد ذكر هذا ما لفظه : وقد عرفت انتهاض الرواية الأولى من حديث الباب فالمصير إليها متحتم ، وعرفت بما أسلفناه صلاحيتها للحجية وسقوط الاعتلالات الواردة عليها ، انتهى .

                                                                                                          قلت : ومن الاعتلالات اعتلال الاختلاف في رفعها ووقفها ، وقد عرفت أن قول عبد الرحمن بن مهدي يؤيد وقفها ، وبين البيهقي في روايته أن شعبة رجع عن رفعها فتأمل .




                                                                                                          الخدمات العلمية