الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 43 ] كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب

" كدأب " خبر مبتدأ محذوف ، وهو حذف تابع للاستعمال في مثله : فإن العرب إذا تحدثوا عن شيء ثم أتوا بخبر دون مبتدإ علم أن المبتدأ محذوف فقدر بما يدل عليه الكلام السابق .

فالتقدير هنا : دأبهم كدأب آل فرعون والذين من قبلهم ، أي من الأمم المكذبين برسل ربهم ، مثل عاد وثمود .

والدأب : العادة والسيرة المألوفة ، وقد تقدم مثله في سورة آل عمران . وتقدم وجه تخصيص آل فرعون بالذكر . ولا فرق بين الآيتين إلا اختلاف العبارة ، ففي سورة آل عمران كذبوا بآياتنا وهنا كفروا بآيات الله ، وهنالك والله شديد العقاب وهنا إن الله قوي شديد العقاب 0 فأما المخالفة بين " كذبوا " و " كفروا " فلأن قوم فرعون والذين من قبلهم شاركوا المشركين في الكفر بالله وتكذيب رسله ، وفي جحد دلالة الآيات على الوحدانية وعلى صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم ، فذكروا هنا ابتداء بالأفظع من الأمرين فعبر بالكفر بالآيات الدالة على وحدانية الله تعالى ; لأن الكفر أصرح في إنكار صفات الله تعالى .

وقد عقبت هذه الآية بالتي بعدها ، فذكر في التي بعدها التكذيب بالآيات ، أي التكذيب بآيات صدق الرسول - عليه الصلاة والسلام - وجحد الآيات الدالة على صدقه . فأما في سورة آل عمران فقد ذكر تكذيبهم بالآيات ، أي الدالة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم ; لأن التكذيب متبادر في معنى تكذيب المخبر ، لوقوع ذلك عقب ذكر تنزيل القرآن وتصديق من صدق به ، وإلحاد من قصد الفتنة بمتشابهه ، فعبر عن الذين شابهوهم في تكذيب رسولهم بوصف التكذيب .

فأما الإظهار هنا في مقام الإضمار فاقتضاه أن الكفر كفر بما يرجع إلى صفات الله فأضيفت الآيات إلى اسم الجلالة ليدل على الذات بعنوان الإله الحق وهو الوحدانية ، [ ص: 44 ] وأما الإضمار في آل عمران فلكون التكذيب تكذيبا لآيات دالة على ثبوت رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم ، فأضيفت الآيات إلى الضمير على الأصل في التكلم .

وأما الاختلاف بذكر حرف التأكيد هنا ، دونه في سورة آل عمران ، فلأنه قصد هنا التعريض بالمشركين ، وكانوا ينكرون قوة الله عليهم ، بمعنى لازمها : وهو إنزال الضر بهم ، وينكرون أنه شديد العقاب لهم ، فأكد الخبر باعتبار لازمه التعريضي الذي هو إبلاغ هذا الإنذار إلى من بقي من المشركين ، وفي سورة آل عمران لم يقصد إلا الإخبار عن كون الله شديد العقاب إذا عاقب ، فهو تذكير للمسلمين وهم المقصود بالإخبار بقرينة قوله عقبه : قل للذين كفروا ستغلبون الآية .

وزيد وصف " قوي " هنا مبالغة في تهديد المشركين المقصودين بالإنذار والتهديد . والقوي الموصوف بالقوة ، وحقيقتها كمال صلابة الأعضاء لأداء الأعمال التي تراد منها ، وهي متفاوتة مقول عليها بالتشكيك .

وقد تقدم عند قوله تعالى : فخذها بقوة في سورة الأعراف . وهي إذا وصف الله بها مستعملة في معناها اللزومي وهو منتهى القدرة على فعل ما تتعلق به إراداته - تعالى - من الممكنات . والمقصود من ذكر هذين الوصفين : الإيماء إلى أن أخذهم كان قويا شديدا ; لأنه عقاب قوي شديد العقاب ، كقوله : فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر وقوله : إن أخذه أليم شديد

التالي السابق


الخدمات العلمية