الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 79 ] وأما ترتيب الآي بعضها عقب بعض فهو بتوقيف من النبيء صلى الله عليه وسلم حسب نزول الوحي ، ومن المعلوم أن القرآن نزل منجما آيات فربما نزلت عدة آيات متتابعة أو سورة كاملة ، كما سيأتي قريبا ، وذلك الترتيب مما يدخل في وجوه إعجازه من بداعة أسلوبه كما سيأتي في المقدمة العاشرة ، فلذلك كان ترتيب آيات السورة الواحدة على ما بلغتنا عليه متعينا بحيث لو غير عنه إلى ترتيب آخر لنزل على حد الإعجاز الذي امتاز به ، فلم تختلف قراءة النبيء صلى الله عليه وسلم في ترتيب آي السور على نحو ما هو في المصحف الذي بأيدي المسلمين اليوم ، وهو ما استقرت عليه رواية الحفاظ من الصحابة عن العرضات الأخيرة التي كان يقرأ بها النبيء صلى الله عليه وسلم في أواخر سني حياته الشريفة ، وحسبك أن زيد بن ثابت حين كتب المصحف لأبي بكر لم يخالف في ترتيب آي القرآن .

وعلى ترتيب قراءة النبيء صلى الله عليه وسلم في الصلوات الجهرية وفي عديد المناسبات حفظ القرآن كل من حفظه كلا أو بعضا ، وليس لهم معتمد في ذلك إلا ما عرفوا به من قوة الحوافظ ، ولم يكونوا يعتمدون على الكتابة ، وإنما كان كتاب الوحي يكتبون ما أنزل من القرآن بأمر النبيء صلى الله عليه وسلم ، وذلك بتوقيف إلهي . ولعل حكمة الأمر بالكتابة أن يرجع إليها المسلمون عندما يحدث لهم شك أو نسيان ولكن ذلك لم يقع .

ولما جمع القرآن في عهد أبي بكر لم يؤثر عنهم أنهم ترددوا في ترتيب آيات من إحدى السور ، ولا أثر عنهم إنكار أو اختلاف فيما جمع من القرآن فكان موافقا لما حفظته حوافظهم ، قال ابن وهب : سمعت مالكا يقول : إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال ابن الأنباري كانت الآية تنزل جوابا لمستخبر يسأل ويوقف جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع الآية . واتساق الحروف واتساق الآيات واتساق السور كله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلهذا كان الأصل في آي القرآن أن يكون بين الآية ولاحقتها تناسب في الغرض . أو في الانتقال منه أو نحو ذلك من أساليب الكلام المنتظم المتصل ، ومما يدل عليه وجود [ ص: 80 ] حروف العطف المفيدة الاتصال مثل " الفاء ولكن وبل " ومثل أدوات الاستثناء ، على أن وجود ذلك لا يعين اتصال ما بعده بما قبله في النزول ، فإنه قد اتفق على أن قوله تعالى غير أولي الضرر نزل بعد نزول ما قبله وما بعده من قوله لا يستوي القاعدون إلى قوله " وأنفسهم " قال بدر الدين الزركشي قال بعض مشائخنا المحققين : قد وهم من قال : لا تطلب للآي الكريمة مناسبة والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول شيء عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة ، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها ، ففي ذلك علم جم . على أنه يندر أن يكون موقع الآية عقب التي قبلها لأجل نزولها عقب التي قبلها من سورة هي بصدد النزول ، فيؤمر النبيء بأن يقرأها عقب التي قبلها ، وهذا كقوله تعالى وما نتنزل إلا بأمر ربك عقب قوله تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا في سورة مريم ، فقد روي أن جبريل لبث أياما لم ينزل على النبيء صلى الله عليه وسلم بوحي ، فلما نزل بالآيات السابقة عاتبه النبيء ، فأمر الله جبريل أن يقول وما نتنزل إلا بأمر ربك فكانت وحيا نزل به جبريل ، فقرئ مع الآية التي نزل بأثرها ، وكذلك آية إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها عقب قوله تعالى وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات إلى قوله وهم فيها خالدون في سورة البقرة ، إذ كان ردا على المشركين في قولهم : أما يستحيي محمد أن يمثل بالذباب وبالعنكبوت ؟ فلما ضرب لهم الأمثال بقوله مثلهم كمثل الذي استوقد نارا نخلص إلى الرد عليهم فيما أنكروه من الأمثال . على أنه لا يعدم مناسبة " ما " ، وقد لا تكون له مناسبة ولكنه اقتضاه سبب في ذلك المكان كقوله تعالى لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه فهذه الآيات نزلت في سورة القيامة في خلال توبيخ المشركين على إنكارهم البعث ووصف يوم الحشر وأهواله ، وليست لها مناسبة بذلك ولكن سبب نزولها حصل في خلال ذلك .

روى البخاري عن ابن عباس قال كان رسول الله إذا نزل جبريل بالوحي كان مما يحرك به لسانه وشفتيه يريد أن يحفظه فأنزل الله الآية التي في " لا أقسم بيوم القيامة " اهـ ، فذلك يفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرك شفتيه بالآيات التي نزلت في أول السورة .

[ ص: 81 ] على أنه قد لا يكون في موقع الآية من التي قبلها ظهور مناسبة فلا يوجب ذلك حيرة للمفسر ; لأنه قد يكون سبب وضعها في موضعها أنها قد نزلت على سبب ، وكان حدوث سبب نزولها في مدة نزول السورة التي وضعت فيها ، فقرئت تلك الآية عقب آخر آية انتهى إليها النزول ، وهذا كقوله تعالى حافظوا على الصلوات إلى قوله ما لم تكونوا تعلمون بين تشريعات أحكام كثيرة في شئون الأزواج والأمهات ، وقد ذكرنا ذلك عند هذه الآية في التفسير .

وقد تكون الآية ألحقت بالسورة بعد تمام نزولها بأن أمر الرسول بوضعها عقب آية معينة كما تقدم آنفا عن ابن عباس في آية واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله وكذلك ما روي في صحيح مسلم عن ابن مسعود أن أول سورة الحديد نزل بمكة ، ولم يختلف المفسرون في أن قوله تعالى وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله إلى آخر السورة نزل بالمدينة فلا يكون ذلك إلا لمناسبة بينها وبين آي تلك السورة والتشابه في أسلوب النظم ، وإنما تأخر نزول تلك الآية عن نزول أخواتها من سورتها لحكمة اقتضت تأخرها ترجع غالبا إلى حدوث سبب النزول كما سيأتي قريبا .

ولما كان تعيين الآيات التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعها في موضع معين غير مروي إلا في عدد قليل ، كان حقا على المفسر أن يتطلب مناسبات لمواقع الآيات ما وجد إلى ذلك سبيلا موصلا وإلا فليعرض عنه ولا يكن من المتكلفين .

إن الغرض الأكبر للقرآن هو إصلاح الأمة بأسرها . فإصلاح كفارها بدعوتهم إلى الإيمان ونبذ العبادة الضالة واتباع الإيمان والإسلام ، وإصلاح المؤمنين بتقويم أخلاقهم وتثبيتهم على هداهم وإرشادهم إلى طريق النجاح وتزكية نفوسهم ولذلك كانت أغراضه مرتبطة بأحوال المجتمع في مدة الدعوة ، فكانت آيات القرآن مستقلا بعضها عن بعض ، لأن كل آية منه ترجع إلى غرض الإصلاح والاستدلال عليه ، وتكميله وتخليصه من تسرب الضلالات إليه ، فلم يلزم أن تكون آياته متسلسلة ، ولكن حال القرآن كحال الخطيب ، يتطرق إلى معالجة الأحوال الحاضرة على اختلافها ، وينتقل من حال إلى حال بالمناسبة ، ولذلك تكثر في القرآن الجمل المعترضة لأسباب اقتضت نزولها أو بدون ذلك ; فإن كل جملة تشتمل على حكمة وإرشاد أو تقويم معوج ، كقوله وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار إلى [ ص: 82 ] قوله قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم فقوله قل إن الهدى هدى الله جملة معترضة .

التالي السابق


الخدمات العلمية