الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده

أغلقت معاني هذه الآية لكثرة الاحتمالات التي تعتورها من جهة معاد الضمائر واسم الإشارة ، ومن جهة إجمال المراد من الموصول ، وموقع الاستفهام ، [ ص: 26 ] وموقع فاء التفريع . وقد حكى ابن عطية وجوها كثيرة في تفسيره بما لم يلخصه أحد مثله وتبعه القرطبي في حكاية بعضها . والاختلاف في ماصدق من كان على بينة من ربه . وفي المراد من ( بينة من ربه ) ، وفي المعني بـ يتلوه . وفي المراد من ( شاهد ) . وفي معاد الضمير المنصوب في قوله : يتلوه . وفي معنى من من قوله : منه ، وفي معاد الضمير المجرور بـ من . وفي موقع قوله : من قبله من قوله : كتاب موسى . وفي مرجع اسم الإشارة من قوله : أولئك يؤمنون به . وفي معاد الضمير المجرور بالباء من قوله : يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب إلخ فهذه مفاتيح تفسير هذه الآية .

والذي تخلص لي من ذلك ومما فتح الله به مما هو أوضح وجها وأقرب بالمعنى المقصود شبها : أن الفاء للتفريع على جملة أم يقولون افتراه إلى قوله فهل أنتم مسلمون وأن ما بينهما اعتراض لتقرير توغلهم في المكابرة وابتعادهم عن الإيمان ، وهذا التفريع تفريع الضد على ضده في إثبات ضد حكمه له ، أي إن كان حال أولئك المكذبين كما وصف فثم قوم هم بعكس حالهم قد نفعتهم البينات والشواهد ، فهم يؤمنون بالقرآن وهم المسلمون وذلك مقتضى قوله : فهل أنتم مسلمون ، أي كما أسلم من كانوا على بينة من ربهم منكم ومن أهل الكتاب .

والهمزة للاستفهام التقريري ، أي إن كفر به هؤلاء أفيؤمن به من كان على بينة من ربه ، وهذا على نحو نظم قوله تعالى : أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار أي أنت تنقذ من النار الذي حق عليه كلمة العذاب .

ومن كان على بينة لا يراد بها شخص معين . فكلمة ( من ) هنا تكون كالمعرف بلام العهد الذهني صادقة على من تحققت له الصلة ، أعني أنه على بينة من ربه . وبدون ذلك لا تستقيم الإشارة . وإفراد ضمائر كان على بينة من ربه مراعاة للفظ من الموصولة وذلك أحد استعمالين . والجمع في قوله : أولئك يؤمنون مراعاة لمعنى من الموصولة وذلك استعمال آخر . والتقدير : [ ص: 27 ] أفمن كانوا على بينة من ربهم أولئك يؤمنون به . ونظير هذه الآية قوله - تعالى : أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم في سورة القتال .

والذين هم على بينة من ربهم يجوز أن يكونوا النصارى فقط فإنهم كانوا منتشرين في العرب ويعرف أهل مكة كثيرا منهم ، وهم الذين عرفوا أحقية الإسلام مثل ورقة بن نوفل ودحية الكلبي ، ويجوز أن يراد النصارى واليهود مثل عبد الله بن سلام ممن آمن بعد الهجرة فدلوا على تمكنهم من معرفة البينة لصحة أفهامهم ولوضوح دلالة البينة ، فأصحابها مؤمنون بها .

والمراد بالبينة حجة مجيء الرسول - صلى الله عليه وسلم - المبشر به في التوراة والإنجيل . فكون النصارى على بينة من ربهم قبل مجيء الإسلام ظاهر لأنهم لم يكذبوا رسولا صادقا . وكون اليهود على بينة إنما هو بالنسبة لانتظارهم رسولا مبشرا به في كتابهم وإن كانوا في كفرهم بعيسى - عليه السلام - ليسوا على بينة . فالمراد على بينة خاصة يدل عليها سياق الكلام السابق من قوله : فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ، ويعينها اللاحق من قوله : ( أولئك يؤمنون به ) أي بالقرآن .

و ) من ( في قوله : ( من ربه ) ابتدائية ابتداء مجازيا . ومعنى كونها من ربه أنها من وحي الله ووصايته التي أشار إليها قوله - تعالى : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه وقوله : ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ) . وذكر كتاب موسى وأنه من قبله يشير إلى أن البينة المذكورة هنا من الإنجيل ، ويقوي أن المراد بـ ( من كان على بينة من ربه ) النصارى .

وفعل يتلوه مضارع التلو وهو الاتباع وليس من التلاوة ، أي يتبعه . والاتباع مستعار للتأييد والاقتداء فإن الشاهد بالحق يحضر وراء المشهود له . وضمير الغائب المنصوب في قوله : يتلوه عائد إلى من كان على بينة من ربه

[ ص: 28 ] والمراد بـ شاهد منه شاهد من ربه ، أي شاهد من الله وهو القرآن لأنه لإعجازه المعاندين عن الإتيان بعشر سور مثله كان حجة على أنه آت من جانب الله .

ومن ابتدائية . وضمير منه عائد إلى ربه . ويجوز أن يعود إلى شاهد . أي شاهد على صدقه كائن في ذاته وهو إعجازه إياهم عن الإتيان بمثله .

ومن قبله حال من كتاب موسى . وكتاب موسى عطف على شاهد منه والمراد تلوه في الاستدلال بطريق الارتقاء فإن النصارى يهتدون بالإنجيل ثم يستظهرون على ما في الإنجيل بالتوراة لأنها أصله وفيها بيانه ، ولذلك لما عطف كتاب موسى على شاهد الذي هو معمول يتلوه قيد كتاب موسى بأنه من قبله ، أي ويتلوه شاهد منه . ويتلوه كتاب موسى حالة كونه من قبل الشاهد أي سابقا عليه في النزول . وإذا كان المراد بـ من كان على بينة من ربه النصارى خاصة كان لذكر كتاب موسى إيماء إلى أن كتاب موسى - عليه السلام - شاهد على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر أهل ذلك الكتاب وهم اليهود لأنهم لم يكونوا على بينة من ربهم كاملة من جهة عدم تصديقهم بعيسى - عليه السلام .

وإماما ورحمة حالان ثناء على التوراة بما فيها من تفصيل الشريعة فهو إمام يهتدى به ورحمة للناس يعملون بأحكامها فيرحمهم الله في الدنيا بإقامة العدل وفي الآخرة بجزاء الاستقامة إذ الإمام ما يؤتم به ويعمل على مثاله .

والإشارة بـ أولئك إلى من كان على بينة من ربه ، أي أولئك الذين كانوا على بينة من ربهم يؤمنون بالقرآن وليسوا مثلكم يا معشر المشركين ، وذلك في معنى قوله - تعالى : فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين

وإقحام أولئك هنا يشبه إقحام ضمير الفصل ، وفيه تنبيه على أن ما بعده من الخبر مسبب على ما قبل اسم الإشارة من الأوصاف وهي كونهم على بينة من ربهم معضدة بشواهد من الإنجيل والتوراة .

[ ص: 29 ] وجملة أولئك يؤمنون به خبر من كان على بينة من ربه

وضمير به عائد إلى القرآن المعلوم من المقام أو من تقدم ضميره في قوله : أم يقولون افتراه

وبه ينتظم الكلام مع قوله : أم يقولون افتراه إلى قوله : فاعلموا أنما أنزل بعلم الله أي يؤمنون بكون القرآن من عند الله .

والباء للتعدية لا للسببية ، فتعدية فعل يؤمنون إلى ضمير القرآن من باب إضافة الحكم إلى الأعيان وإرادة أوصافها مثل حرمت عليكم أمهاتكم ، أي يؤمنون بما وصف به القرآن من أنه من عند الله .

وحاصل معنى الآية وارتباطها بما قبلها فهل أنتم مسلمون فإن الذين يؤمنون به هم الذين كانوا على بينة من ربهم مؤيدة بشاهد من ربهم ومعضودة بكتاب موسى - عليه السلام - من قبل بينتهم .

وقريب من معنى الآية قوله - تعالى : قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم فاستقام تفسير الآية تمام الاستقامة ، وأنت لا يعوزك تركيب الوجوه التي تأول بها المفسرون مما يخالف ما ذكرناه كلا أو بعضا فبصرك فيها حديد ، وبيدك لفتح مغالقها مقاليد .

وجملة ومن يكفر به من الأحزاب عطف على جملة أفمن كان على بينة من ربه لأنه لما حرض أهل مكة على الإسلام بقوله : فهل أنتم مسلمون ، وأراهم القدوة بقوله : أولئك يؤمنون به ، عاد فحذر من الكفر بالقرآن فقال ومن يكفر به من الأحزاب ، وأعرض عما تبين له من بينة ربه وشواهد رسله فالنار موعده .

والأحزاب : هم جماعات الأمم الذين يجمعهم أمر يجتمعون عليه ، فالمشركون حزب ، واليهود حزب ، والنصارى حزب ، قال - تعالى : [ ص: 30 ] كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب

والباء في يكفر به كالباء في يؤمنون به

والموعد : ظرف للوعد من مكان أو زمان . وأطلق هنا على المصير الصائر إليه لأن شأن المكان المعين لعمل أن يعين به بوعد سابق .

التالي السابق


الخدمات العلمية