الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين عطف على جملة ونريد أن نمن على الذين استضعفوا ، إذ الكل من أجزاء النبإ . وتتضمن هذه الجملة تفصيلا لمجمل قوله ونريد أن نمن على الذين استضعفوا ، فإن الإرادة لما تعلقت بإنقاذ بني إسرائيل من الذل خلق الله المنقذ لهم .

والوحي هنا وحي إلهام يوجد عنده من انشراح الصدر ما يحقق عندها أنه خاطر من الواردات الإلهية . فإن الإلهام الصادق يعرض للصالحين فيوقع في نفوسهم يقينا يبعثون به إلى عمل ما ألهموا إليه . وقد يكون هذا الوحي برؤيا صادقة رأتها . وأم موسى لم يعرف اسمها في كتب اليهود ، وذكر المفسرون لها أسماء لا يوثق بصحتها .

وقوله أن أرضعيه تفسير لـ أوحينا . والأمر بإرضاعه يؤذن بجمل طويت وهي أن الله لما أراد ذلك قدر أن يكون مظهر ما أراده هو الجنين الذي في بطن أم موسى ووضعته أمه ، وخافت عليه اعتداء أنصار فرعون على وليدها ، وتحيرت في أمرها فألهمت أو أريت ما قصه الله هنا وفي مواضع أخرى .

والإرضاع الذي أمرت به يتضمن أن : أخفيه مدة ترضعيه فيها فإذا خفت عليه أن يعرف خبره فألقيه في اليم .

وإنما أمرها الله بإرضاعه لتقوى بنيته بلبان أمه فإنه أسعد بالطفل في أول عمره من لبان غيرها ، وليكون له من الرضاعة الأخيرة قبل إلقائه في اليم قوت يشد بنيته فيما بين قذفه في اليم وبين التقاط آل فرعون إياه وإيصاله إلى بيت فرعون [ ص: 74 ] وابتغاء المراضع ودلالة أخته إياهم على أمه إلى أن أحضرت لإرضاعه فأرجع إليها بعد أن فارقها بعض يوم . وحكت كتب اليهود أن أم موسى خبأته ثلاثة أشهر ثم خافت أن يفشو أمره فوضعته في سفط مقير وقذفته في النهر . وقد بشرها الله بما يزيل همها بأنه راده إليها وزاد على ذلك بما بشرها بما سيكون له من مقام كريم في الدنيا والآخرة بأنه من المرسلين .

والظاهر أن هذا الوحي إليها كان عند ولادته ، وأنها أمرت بأن تلقيه في اليم عند الضرورة دفعا للضر المحقق بالضر المشكوك فيه ، ثم ألقي في يقينها بأنه لا بأس عليه .

واليم : البحر وهو هنا نهر النيل الذي كان يشق مدينة فرعون حيث منازل بني إسرائيل . واليم في كلام العرب مرادف البحر ، والبحر في كلامهم يطلق على الماء العظيم المستبحر ، فالنهر العظيم يسمى بحرا قال تعالى وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ، فإن اليم من الأنهار .

وقد كانت هذه الآية مثالا من أمثلة دقائق الإعجاز القرآني فذكر عياض في الشفاء ، والقرطبي في التفسير يزيد أحدهما على الآخر ، عن الأصمعي : أنه سمع جارية أعرابية تنشد :

أستغفر الله لأمري كله قتلت إنسانا بغير حله     مثل غزال ناعما في دله
انتصف الليل ولم أصله

وهي تريد التورية بالقرآن . فقال لها : قاتلك الله ما أفصحك ! يريد ما أبلغك ( وكانوا يسمون البلاغة فصاحة ) فقالت له ( أويعد هذا فصاحة مع قوله تعالى وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فجمع في آية واحدة خبرين ، وأمرين ، ونهيين ، وبشارتين ) .

[ ص: 75 ] فالخبران هما وأوحينا إلى أم موسى وقوله فإذا خفت عليه ؛ لأنه يشعر أنها ستخاف عليه .

والأمران هما : " أرضعيه " و " ألقيه " .

والنهيان : " ولا تخافي " و " ولا تحزني " .

والبشارتان إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين .

والخوف : توقع أمر مكروه ، والحزن : حالة نفسية تنشأ من حادث مكروه للنفس كفوات أمر محبوب ، أو فقد حبيب ، أو بعده ، أو نحو ذلك .

والمعنى : لا تخافي عليه الهلاك من الإلقاء في اليم ، ولا تحزني على فراقه .

والنهي عن الخوف وعن الحزن نهي عن سببيهما وهما توقع المكروه والتفكر في وحشة الفراق .

وجملة إنا رادوه إليك في موقع العلة للنهيين ؛ لأن ضمان رده إليها يقتضي أنه لا يهلك وأنها لا تشتاق إليه بطول المغيب . وأما قوله وجاعلوه من المرسلين فإدخال للمسرة عليها .

التالي السابق


الخدمات العلمية