الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 59 ] الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء .

استئناف عن قوله : أنفقوا من طيبات ما كسبتم لأن الشيطان يصد الناس عن إعطاء خيار أموالهم ، ويغريهم بالشح أو بإعطاء الرديء والخبيث ، ويخوفهم من الفقر إن أعطوا بعض مالهم .

وقدم اسم الشيطان مسندا إليه لأن تقديمه مؤذن بذم الحكم الذي سيق له الكلام وشؤمه لتحذير المسلمين من هذا الحكم ، كما يقال في مثال علم المعاني : السفاح في دار صديقك ، ولأن في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي تقوية الحكم وتحقيقه .

ومعنى ( يعدكم ) : يسول لكم وقوعه في المستقبل إذا أنفقتم خيار أموالكم ، وذلك بما يلقيه في قلوب الذين تخلقوا بالأخلاق الشيطانية ، وسمي الإخبار بحصول أمر في المستقبل وعدا مجازا لأن الوعد إخبار بحصول شيء في المستقبل من جهة المخبر ، ولذلك يقال : أنجز فلان وعده أو أخلف وعده ، ولا يقولون أنجز خبره ، ويقولون صدق خبره وصدق وعده ، فالوعد أخص من الخبر ، وبذلك يؤذن كلام أئمة اللغة ، فشبه إلقاء الشيطان في نفوسهم توقع الفقر بوعد منه بحصوله لا محالة ، ووجه الشبه ما في الوعد من معنى التحقق ، وحسن هذا المجاز هنا مشاكلته لقوله والله يعدكم مغفرة فإنه وعد حقيقي .

ثم إن كان الوعد يطلق على التعهد بالخير والشر ، كما هو كلام القاموس تبعا لفصيح ثعلب ، ففي قوله : يعدكم الفقر مجاز واحد ، وإن كان خاصا بالخير كما هو قول الزمخشري في الأساس ، ففي قوله : يعدكم الفقر مجازان .

والفقر شدة الحاجة إلى لوازم الحياة لقلة أو فقد ما يعاوض به ، وهو مشتق من فقار الظهر ، فأصله مصدر : فقره : إذا كسر ظهره ، جعلوا العاجز بمنزلة من لا يستطيع أدنى حركة ؛ لأن الظهر هو مجمع الحركات ، ومن هذا تسميتهم المصيبة فاقرة ، وقاصمة الظهر ، ويقال : فقر وفقر وفقر وفقر بفتح فسكون ، وبفتحتين ، وبضم فسكون ، وبضمتين ، ويقال رجل فقير ، ويقال : رجل فقر ، وصفا بالمصدر .

[ ص: 60 ] والفحشاء اسم لفعل أو قول شديد السوء ، واستحقاق الذم عرفا أو شرعا ، مشتق من الفحش - بضم الفاء وسكون الحاء - تجاوز الحد ، وخصه الاستعمال بالتجاوز في القبيح ، أي يأمركم بفعل قبيح ، وهذا ارتقاء في التحذير من الخواطر الشيطانية التي تدعو إلى الأفعال الذميمة . وليس المراد بالفحشاء البخل لأن لفظ الفحشاء لا يطلق على البخل ، وإن كان البخيل يسمى فاحشا ، وإطلاق الأمر على وسوسة الشيطان وتأثير قوته في النفوس مجاز لأن الأمر في الحقيقة من أقسام الكلام ، والتعريف في ( الفحشاء ) تعريف الجنس .

التالي السابق


الخدمات العلمية