الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك أوحينا إليك قرءانا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير

عطف على جملة كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله إلخ باعتبار المغايرة بين المعطوفة والمعطوف عليها بما في المعطوفة من كون الموحى به قرآنا عربيا ، وما في المعطوف عليها من كونه من نوع ما أوحي به إلى الذين من قبله .

والقول في وكذلك أوحينا كالقول في كذلك يوحي إليك .

وإنما أعيد وكذلك أوحينا ليبنى عليه قرآنا عربيا لما حجز بينهما من الفصل . وأصل النظم : كذلك يوحي إليك الله العزيز الحكيم قرآنا عربيا . مع ما حصل بتلك الإعادة من التأكيد لتقرير ذلك المعنى أفضل تقرير .

والعدول عن ضمير الغائب إلى ضمير العظمة التفات .

وفي هذا إشارة إلى أنه لا فرق بين ما أوحي إليك وما أوحي إلى من قبلك ، إلا اختلاف اللغات كما قال تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم .

والقرآن مصدر : قرأ ، مثل : غفران وسبحان ، وأطلق هنا على المقروء مبالغة في الاتصاف بالمقروئية لكثرة ما يقرأه القارئون وذلك لحسنه وفائدته ، فقد تضمن هذا الاسم معنى الكمال بين المقروءات . و ( عربيا ) نسبة إلى العربية ، أي لغة العرب [ ص: 36 ] لأن كونه قرآنا يدل على أنه كلام ، فوصفه بكونه عربيا يفيد أنه كلام عربي .

وقوله : لتنذر أم القرى ومن حولها تعليل لـ أوحينا إليك وما وصينا لأن كونه عربيا يليق بحال المنذرين به وهم أهل مكة ومن حولها ، فأولئك هم المخاطبون بالدين ابتداء لما اقتضته الحكمة الإلهية من اختيار الأمة العربية لتكون أول من يتلقى الإسلام وينشره بين الأمم ، ولو روعي فيه جميع الأمم المخاطبين بدعوة الإسلام لاقتضى أن ينزل بلغات لا تحصى ، فلا جرم اختار الله له أفضل اللغات واختار إنزاله على أفضل البشر .

و أم القرى مكة ، وكنيت : أم القرى لأنها أقدم المدن العربية فدعاها العرب : أم القرى ، لأن الأم تطلق على أصل الشيء ، مثل : أم الرأس ، وعلى مرجعه ، مثل قولهم للراية : أم الحرب ، وقولهم : أم الطريق ، للطريق العظيم الذي حوله طرق صغار .

ثم إن إنذار أم القرى يقتضي إنذار بقية القرى بالأحرى ، قال تعالى : وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا ، وتقدم في قوله تعالى : ولتنذر أم القرى في سورة الأنعام .

والمراد : لتنذر أهل أم القرى ، فأطلق اسم البلد على سكانه كقوله تعالى : واسأل القرية .

وأهل مكة هم قريش ، وأما ( من حولها ) فهم النازلون حولها من القبائل مثل خزاعة وكنانة ، ومن الذين حولها قريش الظواهر وهم الساكنون خارج مكة في جبالها .

والاقتصار على إنذار أم القرى ومن حولها لا يقتضي تخصيص إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم بأهل مكة ومن حولها ، ولا تخصيص الرسول صلى الله عليه وسلم بالإنذار دون التبشير للمؤمنين لأن تعليل الفعل بعلة باعثه لا يقتضي أن الفعل المعلل مخصص بتلك العلة ولا بمتعلقاتها إذ قد يكون للفعل الواحد علل باعثة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث للناس كافة ، كما قال تعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا . والاقتصار هنا على إنذار أهل مكة ومن حولها لأنهم المقصود بالرد عليهم لإنكارهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 37 ] وانتصب أم القرى على المفعول به لفعل ( تنذر ) بتنزيل الفعل منزلة المعدى إلى مفعول واحد ؛ إذ لم يذكر معه المنذر منه وهو الذي يكون مفعولا ثانيا لفعل الإنذار . لأن ( أنذر ) يتعدى إلى مفعولين كقوله تعالى : فقل أنذرتكم صاعقة ، وفي حديث الدجال : ما من نبيء إلا أنذر قومه . فالمعنى : لتنذر أهل القرى ومن حولها ما ينذرونه من العذاب في الدنيا والآخرة .

وقوله : وتنذر يوم الجمع أعيد فعل ( تنذر ) لزيادة تهويل أمر يوم الجمع لأن تخصيصه بالذكر بعد عموم الإنذار يقتضي تهويله ، ولأن تعدية فعل ( وتنذر ) إلى ( يوم الجمع ) تعدية مخالفة لإنذار أم القرى لأن يوم الجمع مفعول ثان لفعل ( وتنذر ) ، أي وتنذر الناس يوم الجمع ، فمفعول ( لتنذر ) الثاني هو المنذر به ومفعول ( لتنذر ) الأول هو المنذر .

وانتصب ( يوم الجمع ) على أنه مفعول ثان لفعل ( تنذر ) وحذف مفعوله الأول لدلالة ما تقدم عليه ، أي وتنذرهم - أي أهل أم القرى - يوم الجمع بالخصوص كقوله : وأنذرهم يوم الآزفة .

ويوم الجمع : يوم القيامة ، سمي يوم الجمع لأن الخلائق تجمع فيه للحساب ، قال تعالى : يوم يجمعكم ليوم الجمع .

والجمع مصدر ، ويجوز أن يكون اسما للمجتمعين كقوله تعالى : هذا فوج مقتحم معكم ، أي يوم جماعة الناس كلهم .

وجملة فريق في الجنة مستأنفة استئنافا بيانيا ، وعطفت عليها جملة وفريق في السعير فكان الجملتان جوابا لسؤال سائل عن شأن هذا الجمع إن كان بمعنى المصدر . فقيل : فريق في الجنة وفريق في السعير ، أي فريق من المجموعين بهذا الجمع في الجنة وفريق في السعير ، أو لسؤال سائل عن حال هذا الجمع إن كان الجمع بمعنى المجموعين . والتقدير : فريق منهم في الجنة وفريق منهم في السعير . وتقدم السعير عند قوله تعالى : كلما خبت زدناهم سعيرا في سورة الإسراء . وسوغ الابتداء بـ ( فريق ) وهو نكرة لوقوعها في معرض التفصيل كقول امرئ القيس :

[ ص: 38 ] 69 فأقبلت زحفا على الركبتين فثوب لبست وثوب أجـر

وجملة لا ريب فيه معترضة بين البيان والمبين . ومعنى لا ريب فيه أن دلائله تنفي الشك في أنه سيقع فنزل ريب المرتابين فيه منزلة العدم لأن موجبات اليقين بوقوعه بينة ، كقوله تعالى : ذلك الكتاب لا ريب فيه في سورة البقرة .

وظرفية الريب المنفي في ضمير اليوم في قوله : لا ريب فيه من باب إيقاع الفعل ونحوه على اسم الذات ، والمراد : إيقاعه على بعض أحوالها التي يدل عليها المقام مثل حرمت عليكم الميتة ، أي أكلها ، أي لا ريب في وقوعه . وجملة فريق في الجنة إلخ معترضة و ( فريق ) خبر مبتدأ محذوف على طريقة الحذف المتابع فيه الاستعمال كما سماه السكاكي ، أي هم فريق في الجنة إلخ .

التالي السابق


الخدمات العلمية