الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا روى الطبري عن ابن عباس وجابر بن زيد أن أبا جهل لما سمع قوله تعالى عليها تسعة عشر قال لقريش : ثكلتكم أمهاتكم إن ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم ؟ فقال الله تعالى وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ، أي : ما جعلناهم رجالا فيأخذ كل رجل رجلا ، فمن ذا يغلب الملائكة ، اهـ .

[ ص: 314 ] وفي تفسير القرطبي عن السدي : أن أبا الأشد بن كلدة الجمحي قال مستهزئا : لا يهولنكم التسعة عشر ، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة وبمنكبي الأيسر تسعة ثم تمرون إلى الجنة ، وقيل : قال الحارث بن كلدة : أنا أكفيكم سبعة عشر واكفوني أنتم اثنين ، يريد التهكم مع إظهار فرط قوته بين قومه .

فالمراد من أصحاب النار خزنتها ، وهم المتقدم ذكرهم بقوله عليها تسعة عشر .

والاستثناء من عموم الأنواع ، أي : ما جعلنا خزنة النار من نوع إلا من نوع الملائكة .

وصيغة القصر تفيد قلب اعتقاد أبي جهل وغيره ما توهموه أو تظاهروا بتوهمه أن المراد تسعة عشر رجلا فطمع أن يخلص منهم هو وأصحابه بالقوة فقد قال أبو الأشد بن أسيد الجمحي : لا يبلغون ثوبي حتى أجهضهم عن جهنم ، أي : أنحيهم .

وقوله تعالى وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا تتميم في إبطال توهم المشركين حقارة عدد خزنة النار ، وهو كلام جار على تقدير الأسلوب الحكيم إذ الكلام قد أثار في النفوس تساؤلا عن فائدة جعل خزنة جهنم تسعة عشر وهلا كانوا آلافا ليكون مرآهم أشد هولا على أهل النار ، أو هلا كانوا ملكا واحدا ، فإن قوى الملائكة تأتي كل عمل يسخرها الله له ، فكان جواب هذا السؤال : أن هذا العدد قد أظهر لأصناف الناس مبلغ فهم الكفار للقرآن . وإنما حصلت الفتنة من ذكر عددهم في الآية السابقة . فقوله وما جعلنا عدتهم تقديره : وما جعلنا ذكر عدتهم إلا فتنة . ولاستيقان الذين أوتوا الكتاب ، وازدياد الذين آمنوا إيمانا ، واضطراب الذين في قلوبهم مرض فيظهر ضلال الضالين واهتداء المهتدين . فالله جعل عدة خزنة النار تسعة عشر لحكمة أخرى غير ما ذكر هنا اقتضت ذلك الجعل يعلمها الله .

والاستثناء مفرع لمفعول ثان لفعل ( جعلنا ) تقديره جعلنا عدتهم فتنة لا غير ، ولما كانت الفتنة حالا من أحوال الذين كفروا لم تكن مرادا منها ذاتها بل عروضها للذين كفروا فكانت حالا لهم .

[ ص: 315 ] والتقدير : ما جعلنا ذكر عدتهم لعلة وغرض إلا لغرض فتنة الذين كفروا ; فانتصب ( فتنة ) على أنه مفعول ثان لفعل ( جعلنا ) على الاستثناء المفرع ، وهو قصر قلب للرد على الذين كفروا إذ اعتقدوا أن عدتهم أمر هين .

وقوله ليستيقن الذين أوتوا الكتاب إلخ . علة ثانية لفعل وما جعلنا عدتهم إلا فتنة . ولولا أن كلمة ( فتنة ) منصوبة على المفعول به لفعل ( جعلنا ) لكان حق ( ليستيقن ) أن يعطف على ( فتنة ) ولكنه جاء في نظم الكلام متعلقا بفعل وما جعلنا عدتهم إلا فتنة .

ويجوز أن يكون للذين كفروا متعلقا بفعل ( جعلنا ) و بـ ( فتنة ) ، على وجه التنازع فيه ، أي : ما جعلنا عدتهم للذين كفروا إلا فتنة لهم إذ لم يحصل لهم من ذكرها إلا فساد التأويل ، وتلك العدة مجعولة لفوائد أخرى لغير الذين كفروا الذين يفوضون معرفة ذلك إلى علم الله وإلى تدبر مفيد .

والاستيقان : قوة اليقين ، فالسين والتاء فيه للمبالغة . والمعنى : ليستيقنوا صدق القرآن حيث يجدون هذا العدد مصدقا لما في كتبهم .

والمراد بـ الذين أوتوا الكتاب اليهود حين يبلغهم ما في القرآن من مثل ما في كتبهم أو أخبارهم . فكان اليهود يترددون على مكة في التجارة ويتردد عليهم أهل مكة للميرة في خيبر وقريظة ويثرب فيسأل بعضهم بعضا عما يقوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ويود المشركون لو يجدون عند اليهود ما يكذبون به أخبار القرآن ولكن ذلك لم يجدوه ولو وجدوه لكان أيسر ما يطعنون به في القرآن .

والاستيقان من شأنه أن يعقبه الإيمان إذا صادف عقلا بريئا من عوارض الكفر كما وقع لعبد الله بن سلام وقد لا يعقبه الإيمان لمكابرة أو حسد أو إشفاق من فوات جاه أو مال كما كان شأن كثير من اليهود الذين قال الله فيهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن كثيرا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ولذلك اقتصرت الآية على حصول الاستيقان لهم .

روى الترمذي بسنده إلى جابر بن عبد الله قال : قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبيء - صلى الله عليه وسلم - هل يعلم نبيئكم عدد خزنة النار ؟ . قالوا : لا ندري حتى نسأل نبينا . فجاء رجل إلى النبيء فقال : يا محمد غلب أصحابكم اليوم ، [ ص: 316 ] قال : وبم غلبوا ؟ قال : سألهم يهود : هل يعلم نبيكم عدد خزنة النار ؟ قال : فما قالوا ؟ قال : قالوا لا ندري حتى نسأل نبينا ، قال : أفغلب قوم سئلوا عما لا يعلمون ؟ فقالوا : لا نعلم حتى نسأل نبينا - إلى أن قال جابر - فلما جاءوا قالوا : يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهنم ؟ قال : هكذا وهكذا في مرة عشرة وفي مرة عشرة وفي مرة تسعا - بإشارة الأصابع - قالوا : نعم إلخ . وليس في هذا ما يلجئ إلى اعتبار هذه الآية نازلة بالمدينة كما روي عن قتادة ؛ لأن المراجعة بين المشركين واليهود في أخبار القرآن مألوفة من وقت كون النبيء - صلى الله عليه وسلم - في مكة .

قال أبو بكر بن العربي في العارضة : حديث جابر صحيح والآية التي فيها عليها تسعة عشر مكية بإجماع ، فكيف تقول اليهود هذا ويدعوهم النبيء للجواب وذلك كان بالمدينة ، فيحتمل أن الصحابة قالوا : لا نعلم ؛ ؛ لأنهم لم يكونوا قرءوا الآية ولا كانت انتشرت عندهم ، أي : ؛ لأنهم كانوا من الأنصار الذين لم يتلقوا هذه الآية من سورة المدثر لبعد عهد نزولها بمكة وكان الذين يجتمعون باليهود ويسألهم اليهود هم الأنصار . قال : ويحتمل أن الصحابة لم يمكنهم أن يعينوا أن التسعة عشر هم الخزنة دون أن يعينهم الله حتى صرح به النبيء - صلى الله عليه وسلم - اهـ . فقد ظهر مصداق قوله تعالى ليستيقن الذين أوتوا الكتاب بعد سنين من وقت نزوله .

ومعنى ويزداد الذين آمنوا إيمانا أنهم يؤمنون به في جملة ما يؤمنون به من الغيب فيزداد في عقولهم جزئي في جزئيات حقيقة إيمانهم بالغيب ، فهي زيادة كمية لا كيفية ؛ لأن حقيقة الإيمان التصديق والجزم وذلك لا يقبل الزيادة ، وبمثل هذا يكون تأويل كل ما ورد في زيادة الإيمان من أقوال الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة .

وقوله ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون عطف على ليستيقن الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون ، أي : لينتفي عنهم الريب فلا تعتورهم شبهة من بعد علمه ؛ لأنه إيقان عن دليل . وإن كان الفريقان في العمل بعلمهم متفاوتين ، فالمؤمنون علموا وعملوا ، والذين أوتوا الكتاب علموا وعاندوا ، فكان علمهم حجة عليهم وحسرة في نفوسهم .

والمقصود من ذكره : التمهيد لذكر مكابرة الذين في قلوبهم مرض والكافرين في [ ص: 317 ] سوء فهمهم لهذه العدة تمهيدا بالتعريض قبل التصريح ؛ لأنه إذا قيل ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون شعر الذين في قلوبهم مرض والكافرون بأنهم لما ارتابوا في ذلك فقد كانوا دون مرتبة الذين أوتوا الكتاب ؛ لأنهم لا ينازعون في أن الذين أوتوا الكتاب أرجح منهم عقولا وأسد قولا ، ولذلك عطف عليه وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا ، أي : ليقولوا هذا القول إعرابا عما في نفوسهم من الطعن في القرآن غير عالمين بتصديق الذين أوتوا الكتاب .

واللام لام العاقبة مثل التي في قوله تعالى فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا .

والمرض في القلوب : هو سوء النية في القرآن والرسول - صلى الله عليه وسلم - وهؤلاء هم الذين لم يزالوا في تردد بين أن يسلموا وأن يبقوا على الشرك مثل الأخنس بن شريق والوليد بن المغيرة ، وليس المراد بالذين في قلوبهم مرض المنافقون ؛ لأن المنافقين ما ظهروا إلا في المدينة بعد الهجرة ، والآية مكية .

و ماذا أراد الله استفهام إنكاري فإن ( ما ) استفهامية ، و ( ذا ) أصله اسم إشارة فإذا وقع بعد ( ما ) أو ( من ) الاستفهاميتين أفاد معنى الذي ، فيكون تقديره : ما الأمر الذي أراده الله بهذا الكلام في حال أنه مثل ، والمعنى : لم يرد الله هذا العدد الممثل به ، وقد كني بنفي إرادة الله العدد عن إنكار أن يكون الله قال ذلك ، والمعنى : لم يرد الله العدد الممثل به فكنوا بنفي إرادة الله وصف هذا العدد عن تكذيبهم أن يكون هذا العدد موافقا للواقع ؛ لأنهم ينفون فائدته وإنما أرادوا تكذيب أن يكون هذا وحيا من عند الله .

والإشارة بهذا إلى قوله عليها تسعة عشر .

و ( مثلا ) منصوب على الحال من هذا ، والمثل : الوصف ، أي : بهذا العدد وهو تسعة عشر ، أي : ما الفائدة في هذا العدد دون غيره مثل عشرين .

والمثل : وصف الحالة العجيبة ، أي : ما وصفه من عدد خزنة النار كقوله تعالى مثل الجنة التي وعد المتقون الآية .

[ ص: 318 ] وتقدم نظير هذا عند قوله تعالى وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا في سورة البقرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية