الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين .

ولقد صدقكم عطف على قوله سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب وهذا عود إلى التسلية على ما أصابهم ، وإظهار لاستمرار عناية الله تعالى بالمؤمنين ، ورمز إلى الثقة بوعدهم بإلقاء الرعب في قلوب المشركين ، وتبيين لسبب هزيمة المسلمين : تطمينا لهم بذكر نظيره ومماثله السابق ، فإن لذلك موقعا عظيما في الكلام على حد قولهم ( التاريخ يعيد نفسه ) وليتوسل [ ص: 127 ] بذلك إلى إلقاء تبعة الهزيمة عليهم ، وأن الله لم يخلفهم وعده ، ولكن سوء صنيعهم أوقعهم في المصيبة كقوله وما أصابك من سيئة فمن نفسك .

وصدق الوعد : تحقيقه والوفاء به ، لأن معنى الصدق مطابقة الخبر للواقع ، وقد عدي صدق هنا إلى مفعولين ، وحقه أن لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد . قال الزمخشري في قوله تعالى في سورة الأحزاب من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه يقال : صدقني أخوك وكذبني إذا قال لك الصدق والكذب ، وأما المثل ( صدقني سن بكره ) فمعناه صدقني في سن بكره بطرح الجار وإيصال الفعل . فنصب وعده هنا على الحذف والإيصال ، وأصل الكلام صدقكم في وعده ، أو على تضمين صدق معنى أعطى .

والوعد هنا وعد النصر الواقع بمثل قوله يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم أو بخبر خاص في يوم أحد .

وإذن الله بمعنى التقدير وتيسير الأسباب .

وإذ في قوله : ( إذ تحسونهم ) نصب على الظرفية لقوله صدقكم أي : صدقكم الله الوعد حين كنتم تحسونهم بإذنه فإن ذلك الحس تحقيق لوعد الله إياهم بالنصر ، وإذ فيه للمضي ، وأتي بعدها بالمضارع لإفادة التجدد أي لحكاية تجدد الحس في الماضي .

والحس - بفتح الحاء - القتل أطلقه أكثر اللغويين ، وقيده في الكشاف بالقتل الذريع ، وهو أصوب .

وقوله حتى إذا فشلتم حتى حرف انتهاء وغاية ، يفيد أن مضمون الجملة التي بعدها غاية لمضمون الجملة التي قبلها ، فالمعنى : إذ تقتلونهم بتيسير الله ، واستمر قتلكم إياهم إلى حصول الفشل لكم والتنازع بينكم .

وحتى هنا جارة وإذا مجرور بها .

[ ص: 128 ] وإذا اسم زمان ، وهو في الغالب للزمان المستقبل وقد يخرج عنه إلى الزمان مطلقا كما هنا ، ولعل نكتة ذلك أنه أريد استحضار الحالة العجيبة تبعا لقوله تحسونهم .

وإذا هنا مجردة عن معنى الشرط لأنها إذا صارت للمضي انسلخت عن الصلاحية للشرطية ، إذ الشرط لا يكون ماضيا إلا بتأويل لذلك فهي غير محتاجة لجواب فلا فائدة في تكلف تقديره : انقسمتم ، ولا إلى جعل الكلام بعدها دليلا عليه وهو قوله منكم من يريد الدنيا إلى آخرها .

والفشل : الوهن والإعياء ، والتنازع : التخالف ، والمراد بالعصيان هنا عصيان أمر الرسول ، وقد رتبت الفعال الثلاثة في الآية على حسب ترتيبها في الحصول ، إذ كان الفشل ، وهو ضجر بعض الرماة من ملازمة موقفهم للطمع في الغنيمة ، قد حصل أولا فنشأ عنه التنازع بينهم في ملازمة الموقف وفي اللحاق بالجيش للغنيمة ، ونشأ عن التنازع تصميم معظمهم على مفارقة الموقف الذي أمرهم الرسول - عليه الصلاة والسلام - بملازمته وعدم الانصراف منه ، وهذا هو الأصل في ترتيب الأخبار في صناعة الإنشاء ما لم يقتض الحال العدول عنه .

والتعريف في قوله في الأمر عوض عن المضاف إليه أي في أمركم أي شأنكم .

ومعنى من بعد ما أراكم ما تحبون أراد به النصر إذ كانت الريح أول يوم أحد للمسلمين ، فهزموا المشركين ، وولوا الأدبار ، حتى شوهدت نساؤهم مشمرات عن سوقهن في أعلى الجبل هاربات من الأسر ، وفيهن هند بنت عتبة بن ربيعة امرأة أبي سفيان ، فلما رأى الرماة الذين أمرهم الرسول أن يثبتوا لحماية ظهور المسلمين ، الغنيمة ، التحقوا بالغزاة ، فرأى خالد بن الوليد ، وهو قائد خيل المشركين يومئذ ، غرة من المسلمين فأتاهم من ورائهم فانكشفوا واضطرب بعضهم في بعض وبادروا الفرار وانهزموا ، فذلك قوله تعالى من بعد ما أراكم ما تحبون فيكون المجرور متعلقا بفشلهم . والكلام على هذا تشديد في الملام والتنديم .

[ ص: 129 ] والأظهر عندي أن يكون معنى ما تحبون هو الغنيمة فإن المال محبوب ، فيكون المجرور يتنازعه كل من فشلتم ، وتنازعتم ، وعصيتم ، وعدل عن ذكر الغنيمة باسمها ، إلى الموصول تنبيها على أنهم عجلوا في طلب المال المحبوب ، والكلام على هذا تمهيد لبساط المعذرة إذ كان فشلهم وتنازعهم وعصيانهم عن سبب من أغراض الحرب وهو المعبر عنه ب إحدى الحسنيين ولم يكن ذلك عن جبن ، ولا عن ضعف إيمان ، أو قصد خذلان المسلمين ، وكله تمهيد لما يأتي من قوله ولقد عفا عنكم .

وقوله منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة تفصيل ل ( تنازعتم ) ، وتبيين ل ( عصيتم ) ، وتخصيص له بأن العاصين بعض المخاطبين المتنازعين إذ الذين أرادوا الآخرة ليسوا بعاصين ، ولذلك أخرت هاته الجملة إلى بعد الفعلين ، وكان مقتضى الظاهر أن يعقب بها قوله وتنازعتم في الأمر وفي هذا الموضع للجملة ما أغنى عن ذكر ثلاث جمل وهذا من أبدع وجوه الإعجاز ، والقرينة واضحة .

والمراد بقوله منكم من يريد الدنيا إرادة نعمة الدنيا وخيرها ، وهي الغنيمة ، لأن من أراد الغنيمة لم يحرص على ثواب الامتثال لأمر الرسول بدون تأويل ، وليس هو مفرطا في الآخرة مطلقا ، ولا حاسبا تحصيل خير الدنيا في فعله ذلك مفيتا عليه ثواب الآخرة في غير ذلك الفعل ، فليس في هذا الكلام ما يدل على أن الفريق الذين أرادوا ثواب الدنيا قد ارتدوا عن الإيمان حينئذ ، إذ ليس الحرص على تحصيل فائدة دنيوية من فعل من الأفعال ، مع عدم الحرص على تحصيل ثواب الآخرة من ذلك الفعل بدال على استخفاف بالآخرة ، وإنكار لها ، كما هو بين ، ولا حاجة إلى تقدير : منكم من يريد الدنيا فقط . وإنما سميت مخالفة من خالف أمر الرسول عصيانا ، مع أن تلك المخالفة كانت عن اجتهاد لا عن استخفاف ، إذ كانوا قالوا : إن رسول الله أمرنا بالثبات هنا لحماية ظهور المسلمين ، فلما نصر الله المسلمين فما لنا وللوقوف هنا حتى تفوتنا الغنائم ، فكانوا متأولين ، فإنما سميت هنا [ ص: 130 ] عصيانا لأن المقام ليس مقام اجتهاد ، فإن شأن الحرب الطاعة للقائد من دون تأويل ، أو لأن التأويل كان بعيدا فلم يعذروا فيه ، أو لأنه كان تأويلا لإرضاء حب المال ، فلم يكن مكافئا لدليل وجوب طاعة الرسول .

وإنما قال ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ليدل على أن ذلك الصرف بإذن الله وتقديره ، كما كان القتل بإذن الله وأن حكمته الابتلاء ، ليظهر للرسول وللناس من ثبت على الإيمان من غيره ، ولأن في الابتلاء أسرارا عظيمة في المحاسبة بين العبد وربه سبحانه وقد أجمل هذا الابتلاء هنا وسيبينه .

وعقب هذا الملام بقوله ولقد عفا عنكم تسكينا لخواطرهم ، وفي ذلك تلطف معهم على عادة القرآن في تقريع المؤمنين ، وأعظم من ذلك تقديم العفو على الملام في ملام الرسول - عليه السلام - في قوله تعالى عفا الله عنك لم أذنت لهم . فتلك رتبة أشرف من رتبة تعقيب الملام بذكر العفو ، وفيه أيضا دلالة على صدق إيمانهم إذ عجل لهم الإعلام بالعفو لكيلا تطير نفوسهم رهبة وخوفا من غضب الله تعالى .

وفي تذييله بقوله والله ذو فضل على المؤمنين تأكيد ما اقتضاه قوله ولقد عفا عنكم والظاهر أنه عفو لأجل التأويل . فلا يحتاج إلى التوبة ، ويجوز أن يكون عفوا بعدما ظهر منهم من الندم والتوبة ، ولأجل هذا الاحتمال لم تكن الآية صالحة للاستدلال على الخوارج والمعتزلة القائلين بأن المعصية تسلب الإيمان .

التالي السابق


الخدمات العلمية