الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف .

تتنزل آية يوصيكم الله في أولادكم منزلة البيان والتفصيل لقوله للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وهذا المقصد الذي جعل قوله للرجال نصيب إلخ بمنزلة المقدمة له فلذلك كانت جملة يوصيكم مفصولة لأن كلا الموقعين مقتض للفصل .

[ ص: 256 ] ومن الاهتمام بهذه الأحكام تصدير تشريعها بقوله يوصيكم لأن الوصاية هي الأمر بما فيه نفع المأمور وفيه اهتمام الآمر لشدة صلاحه ، ولذلك سمي ما يعهد به الإنسان ، فيما يضع بأبنائه وبماله وبذاته بعد الموت وصية .

وقد رويت في سبب نزول الآية أحاديث كثيرة . ففي صحيح البخاري ، عن جابر بن عبد الله : أنه قال مرضت فعادني رسول الله وأبو بكر في بني سلمة فوجداني لا أعقل فدعا رسول الله بماء فتوضأ ، ثم رش علي منه فأفقت فقلت كيف أصنع في مالي يا رسول الله فنزلت يوصيكم الله في أولادكم .

وروى الترمذي ، وأبو داود ، وابن ماجه ، عن جابر ، قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع فقالت لرسول الله إن سعدا هلك وترك ابنتين وأخاه ، فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد ، وإنما تنكح النساء على أموالهن فلم يجبها في مجلسها ذلك ، ثم جاءته فقالت يا رسول الله ابنتا سعد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ادع لي أخاه ، فجاء ، فقال ادفع إلى ابنتيه الثلثين وإلى امرأته الثمن ولك ما بقي ونزلت آية الميراث .

بين الله في هذه الآيات فروض الورثة ، وناط الميراث كله بالقرابة القريبة ، سواء كانت جبلية وهي النسب ، أو قريبة من الجبلية ، وهي عصمة الزوجية ، لأن طلب الذكر للأنثى جبلي ، وكونها المرأة المعينة يحصل بالإلف ، وهو ناشئ عن الجبلة . وبين أهل الفروض ولم يبين مرجع المال بعد إعطاء أهل الفروض فروضهم ، وذلك لأنه تركه على المتعارف عندهم قبل الإسلام من احتواء أقرب العصبة على مال الميت ، وقد بين هذا المقصد قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر .

ألا ترى قوله تعالى بعد هذا فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فلم يبين حظ الأب ، لأن الأب في تلك الحالة قد رجع إلى حالته المقررة ، وهي احتواء المال فاحتج إلى ذكر فرض الأم .

وابتدأ الله تعالى بميراث الأبناء لأنهم أقرب الناس .

[ ص: 257 ] والأولاد جمع ولد بوزن فعل مثل أسد ووثن ، وفيه لغة ولد بكسر الواو وسكون اللام وكأنه حينئذ فعل الذي بمعنى المفعول كالذبح والسلخ . والولد اسم للابن ذكرا كان أو أنثى ، ويطلق على الواحد وعلى الجماعة من الأولاد ، والوارد في القرآن بمعنى الواحد وجمعه أولاد .

و " في " هنا للظرفية المجازية ، جعلت الوصية كأنها مظروفة في شأن الأولاد لشدة تعلقها به كاتصال المظروف بالظرف ، ومجرورها محذوف قام المضاف إليه مقامه ، لظهور أن ذوات الأولاد لا تصلح ظرفا للوصية ، فتعين تقدير مضاف على طريقة دلالة الاقتضاء ، وتقديره : في إرث أولادكم ، والمقام يدل على المقدر على حد حرمت عليكم أمهاتكم فجعل الوصية مظروفة في هذا الشأن لشدة تعلقها به واحتوائه عليها .

وجملة للذكر مثل حظ الأنثيين بيان لجملة يوصيكم لأن مضمونها هو معنى مضمون الوصية ، فهي مثل البيان في قوله تعالى فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم وتقديم الخبر على المبتدأ في هذه الجملة للتنبيه من أول الأمر على أن الذكر صار له شريك في الإرث وهو الأنثى لأنه لم يكن لهم به عهد من قبل إذ كان الذكور يأخذون المال الموروث كله ولا حظ للإناث ، كما تقدم آنفا في تفسير قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون .

وقوله للذكر مثل حظ الأنثيين جعل حظ الأنثيين هو المقدار الذي يقدر به حظ الذكر ، ولم يكن قد تقدم تعيين حظ للأنثيين حتى يقدر به ، فعلم أن المراد تضعيف حظ الذكر من الأولاد على حظ الأنثى منهم ، وقد كان هذا المراد صالحا لأن يؤدى بنحو : للأنثى نصف حظ ذكر ، أو للأنثيين مثل حظ ذكر ، إذ ليس المقصود إلا بيان المضاعفة . ولكن قد أوثر هذا التعبير لنكتة لطيفة وهي الإيماء إلى أن حظ الأنثى صار في اعتبار الشرع أهم من حظ الذكر ، إذ كانت مهضومة الجانب عند أهل الجاهلية فصار الإسلام ينادي بحظها في أول ما يقرع الأسماع قد علم أن قسمة المال تكون باعتبار عدد البنين والبنات .

وقوله فإن كن نساء فوق اثنتين إلخ معاد الضمير هو لفظ الأولاد ، وهو [ ص: 258 ] جمع ولد فهو غير مؤنث اللفظ ولا المدلول لأنه صالح للمذكر والمؤنث ، فلما كان ماصدقه هنا النساء خاصة أعيد عليه الضمير بالتأنيث .

ومعنى فوق اثنتين أكثر من اثنتين ، ومن معاني فوق الزيادة في العدد ، وأصل ذلك مجاز ، ثم شاع حتى صار كالحقيقة ، والآية صريحة في أن الثلثين لا يعطيان إلا للبنات الثلاث فصاعدا لأن تقسيم الأنصباء لا ينتقل فيه من مقدار إلى مقدار أزيد منه إلا عند انتهاء من يستحق المقدار الأول .

والوصف ب فوق اثنتين يفيد مفهوما وهو أن البنتين لا تعطيان الثلثين ، وزاد فقال وإن كانت واحدة فلها النصف فبقي ميراث البنتين المنفردتين غير منصوص في الآية فألحقها الجمهور بالثلاثة لأنهما أكثر من واحدة ، وأحسن ما وجه به ذلك ما قاله القاضي إسماعيل بن إسحاق إذا كانت البنت تأخذ مع أخيها إذا انفرد الثلث فأحرى أن تأخذ الثلث مع أختها يعني أن كل واحدة من البنتين هي مقارنة لأختها الأخرى فلا يكون حظها مع أخت أنثى أقل من حظها مع أخ ذكر ، فإن الذكر أولى بتوفير نصيبه ، وقد تلقفه المحققون من بعده ، وربما نسب لبعض الذين تلقفوه . وعلله ووجهه آخرون : بأن الله جعل للأختين عند انفرادهما الثلثين فلا تكون البنتان أقل منهما . وقال ابن عباس : للبنتين النصف كالبنت الواحدة ، وكأنه لم ير لتوريثهما أكثر من التشريك في النصف محملا في الآية ، ولو أريد ذلك لما قال فوق اثنتين .

ومنهم من جعل لفظ فوق زائدا ، ونظره بقوله تعالى فاضربوا فوق الأعناق .

وشتان بين فوق التي مع أسماء العدد وفوق التي بمعنى مكان الفعل . قال ابن عطية : وقد أجمع الناس في الأمصار والأعصار على أن للبنتين الثلثين ، أي وهذا الإجماع مستند لسنة عرفوها . ورد القرطبي دعوى الإجماع بأن ابن عباس صح عنه أنه أعطى البنتين النصف . قلت : لعل الإجماع انعقد بعدما أعطى ابن عباس البنتين النصف على أن اختلال الإجماع لمخالفة واحد مختلف فيه ، أما حديث امرأة سعد بن الربيع المتقدم فلا يصلح للفصل في هذا الخلاف ، لأن في روايته اختلافا هل ترك بنتين أو ثلاثا .

[ ص: 259 ] وقوله " فلهن " أعيد الضمير إلى نساء ، والمراد ما يصدق بالمرأتين تغليبا للجمع على المثنى اعتمادا على القرينة .

وقرأ الجمهور وإن كانت واحدة بنصب واحدة على أنه خبر كانت ، واسم كانت ضمير عائد إلى ما يفيده قوله في أولادكم من مفرد ولد ، أي وإن كانت الولد بنتا واحدة ، وقرأ نافع ، وأبو جعفر بالرفع على أن كان تامة ، والتقدير : وإن وجدت بنت واحدة ، لما دل عليه قوله فإن كن نساء .

وصيغة أولادكم صيغة عموم لأن " أولاد " جمع معرف بالإضافة ، والجمع المعرف بالإضافة من صيغ العموم ، وهذا العموم ، خصصه أربعة أشياء : الأول : خص منه عند أهل السنة النبيء - صلى الله عليه وسلم - لما رواه عنه أبو بكر أنه قال لا نورث ما تركنا صدقة ووافقه عليه عمر بن الخطاب وجميع الصحابة وأمهات المؤمنين . وصح أن عليا - رضي الله عنه - وافق عليه في مجلس عمر بن الخطاب ومن حضر من الصحابة كما في الصحيحين .

الثاني : اختلاف الدين بالإسلام وغيره ، وقد أجمع المسلمون على أنه لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم .

الثالث : قاتل العمد لا يرث قريبه في شيء .

الرابع : قاتل الخطأ لا يرث من الدية شيئا .

التالي السابق


الخدمات العلمية