الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق

عطف على التمثيل السابق وهو قوله كمثل الذي استوقد نارا أعيد تشبيه حالهم بتمثيل آخر وبمراعاة أوصاف أخرى فهو تمثيل لحال المنافقين المختلطة بين جواذب ودوافع [ ص: 315 ] - حين يجاذب نفوسهم جاذب الخير عند سماع مواعظ القرآن وإرشاده ، وجاذب الشر من أعراق النفوس والسخرية بالمسلمين - بحال صيب من السماء اختلطت فيه غيوث وأنوار ومزعجات وأكدار ، جاء على طريقة بلغاء العرب في التفنن في التشبيه وهم يتنافسون فيه لاسيما التمثيلي منه وهي طريقة تدل على تمكن الواصف من التوصيف والتوسع فيه .

وقد استقريت من استعمالهم فرأيتهم قد يسلكون طريقة عطف تشبيه على تشبيه كقول امرئ القيس في معلقته :


أصاح ترى برقا أريك وميضه كلمع اليدين في حبي مكلل     يضيء سناه أو مصابيح راهب
أمال السليط بالذبال المفتل

وقول لبيد في معلقته يصف راحلته :

فلها هباب في الزمام كأنها     صهباء خف مع الجنوب جهامها
أو ملمع وسقت لأحقب لاحه     طرد الفحول وضربها وكدامها

وكثر أن يكون العطف في نحوه بأو دون الواو ، وأو موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء فيتولد منها معنى التسوية ، وربما سلكوا في إعادة التشبيه مسلك الاستفهام بالهمزة أي لتختار التشبيه بهذا أم بذلك ، وذلك كقول لبيد عقب البيتين السابق ذكرهما :


أفتلك أم وحشية مسبوعة     خذلت وهادية الصوار قوامها

وقال ذو الرمة في تشبيه سير ناقته الحثيث :


وثب المسحج من عانات معقلة     كأنه مستبان الشك أو جنب

[ ص: 316 ] ثم قال :


أذاك أم نمش بالوشي أكرعه     مسفع الخد غاد ناشع شبب

ثم قال :

أذاك أم خاضب بالسي مرتعه     أبو ثلاثين أمسى وهو منقلب

وربما عطفوا بالواو كما في قوله تعالى ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون الآية ثم قال وضرب الله مثلا رجلين الآية . وقوله وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور الآية . بل وربما جمعوا بلا عطف كقوله تعالى حتى جعلناهم حصيدا خامدين وهذه تفننات جميلة في الكلام البليغ ، فما ظنك بها إذا وقعت في التشبيه التمثيلي ، فإنه لعزته مفردا تعز استطاعة تكريره .

وأو عطفت لفظ صيب على الذي استوقد بتقدير " مثل " بين الكاف وصيب . وإعادة حرف التشبيه مع حرف العطف المغني عن إعادة العامل ، وهذا التكرير مستعمل في كلامهم وحسنه هنا أن فيه إشارة إلى اختلاف الحالين المشبهين كما سنبينه ، وهم في الغالب لا يكررونه في العطف .

والتمثيل هنا لحال المنافقين حين حضورهم مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماعهم القرآن وما فيه من آي الوعيد لأمثالهم وآي البشارة ، فالغرض من هذا التمثيل تمثيل حالة مغايرة للحالة التي مثلت في قوله تعالى مثلهم كمثل الذي استوقد بنوع إطلاق وتقييد .

فقوله أو كصيب تقديره أو كفريق ذي صيب أي كقوم على نحو ما تقدم في قوله كمثل الذي استوقد دل على تقدير قوم قوله يجعلون أصابعهم في آذانهم وقوله [ ص: 317 ] يخطف أبصارهم الآية . لأن ذلك لا يصح عوده إلى المنافقين فلا يجيء فيه ما جاز في قوله ذهب الله بنورهم إلخ . فشبهت حال المنافقين بحال قوم سائرين في ليل بأرض قوم أصابها الغيث وكان أهلها كانين في مساكنهم كما علم ذلك من قوله كلما أضاء لهم مشوا فيه فذلك الغيث نفع أهل الأرض ولم يصبهم مما اتصل به من الرعد والصواعق ضر ولم ينفع المارين بها وأضر بهم ما اتصل به من الظلمات والرعد والبرق ، فالصيب مستعار للقرآن وهدى الإسلام وتشبيهه بالغيث وارد . وفي الحديث الصحيح مثل ما بعثني الله به من الهدى كمثل الغيث أصاب أرضا فكان منها نقية إلخ . وفي القرآن كمثل غيث أعجب الكفار نباته ولا تجد حالة صالحة لتمثيل هيئة اختلاط نفع وضر مثل حالة المطر والسحاب وهو من بديع التمثيل القرآني ، ومنه أخذ أبو الطيب قوله :

فتى كالسحاب الجون يرجى ويتقى     يرجى الحيا منه وتخشى الصواعق

والظلمات مستعار لما يعتري الكافرين من الوحشة عند سماعه كما تعتري السائر في الليل وحشة الغيم لأنه يحجب عنه ضوء النجوم والقمر .

والرعد لقوارع القرآن وزواجره . والبرق لظهور أنوار هديه من خلال الزواجر ، فظهر أن هذا المركب التمثيلي صالح لاعتبارات تفريق التشبيه وهو أعلى التمثيل .

والصيب فيعل من صاب يصوب صوبا إذا نزل بشدة ، قال المرزوقي إن ياءه للنقل من المصدرية إلى الإسمية فهو وصف للمطر بشدة الظلمة الحاصلة من كثافة السحاب ومن ظلام الليل . والظاهر أن قوله من السماء ليس بقيد للصيب وإنما هو وصف كاشف جيء به لزيادة استحضار صورة الصيب في هذا التمثيل إذ المقام مقام إطناب كقول امرئ القيس :

كجلمود صخر حطه السيل من عل

إذ قد علم السامع أن السيل لا يحط جلمود صخر إلا من أعلى ولكنه أراد التصوير ، وكقوله تعالى ولا طائر يطير بجناحيه وقوله كالذي استهوته الشياطين في الأرض وقال تعالى فأمطر علينا حجارة من السماء والسماء تطلق على الجو المرتفع فوقنا الذي نخاله قبة زرقاء ، وعلى الهواء المرتفع قال تعالى كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء وتطلق على السحاب ، وتطلق على المطر [ ص: 318 ] نفسه ، ففي الحديث : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إثر سماء إلخ ، ولما كان تكون المطر من الطبقة الزمهريرية المرتفعة في الجو جعل ابتداؤه من السماء وتكرر ذلك في القرآن .

ويمكن أن يكون قوله من السماء تقييدا للصيب إما بمعنى : من جميع أقطار الجو إذا قلنا : إن التعريف في السماء للاستغراق كما ذهب إليه في الكشاف على بعد فيه إذ لم يعهد دخول لام الاستغراق إلا على اسم كلي ذي أفراد دون اسم كل ذي أجزاء فيحتاج لتنزيل الأجزاء منزلة أفراد الجنس - ولا يعرف له نظير في الاستعمال - فالذي يظهر لي - إن جعلنا قوله من السماء قيدا للصيب - أن المراد من السماء أعلى الارتفاع ، والمطر إذا كان من سمت مقابل وكان عاليا كان أدوم ، بخلاف الذي يكون من جوانب الجو ويكون قريبا من الأرض غير مرتفع .

وضمير " فيه " عائد إلى صيب ، والظرفية مجازية بمعنى معه ، والظلمات مضى القول فيه آنفا ، والمراد بالظلمات ظلام الليل أي كسحاب في لونه ظلمة الليل ، وسحابة الليل أشد مطرا وبرقا وتسمى سارية . والرعد أصوات تنشأ في السحاب .

والبرق لامع ناري مضيء يظهر في السحاب ، والرعد والبرق ينشآن في السحاب من أثر كهربائي يكون في السحاب ، فإذا تكاثفت سحابتان في الجو إحداهما كهرباؤها أقوى من كهرباء الأخرى وتحاكتا جذبت الأقوى منهما الأضعف فحدث بذلك انشقاق في الهواء بشدة وسرعة فحدث صوت قوي هو المسمى الرعد ، وهو فرقعة هوائية من فعل الكهرباء ، ويحصل عند ذلك التقاء الكهرباءين ، وذلك يسبب انقداح البرق .

وقد علمت أن الصيب تشبيه للقرآن وأن الظلمات والرعد والبرق تشبيه لنوازع الوعيد بأنها تسر أقواما وهم المنتفعون بالغيث وتسوء المسافرين غير أهل تلك الدار ، فكذلك الآيات تسر المؤمنين إذ يجدون أنفسهم ناجين من أن تحق عليهم ، وتسوء المنافقين إذ يجدونها منطبقة على أحوالهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية