nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21nindex.php?page=treesubj&link=28973_29531يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون
استئناف ابتدائي ثنى به العنان إلى موعظة كل فريق من الفرق الأربع المتقدم ذكرها موعظة تليق بحاله بعد أن قضى حق وصف كل فريق منهم بخلاله ، ومثلث حال كل فريق وضربت له أمثاله ، فإنه لما استوفى أحوالا للمؤمنين وأضدادهم من المشركين والمنافقين لا جرم تهيأ المقام لخطاب عمومهم بما ينفعهم إرشادا لهم ورحمة بهم لأنه لا يرضى لهم الضلال ولم
[ ص: 324 ] يكن ما ذكر آنفا من سوء صنعهم حائلا دون إعادة إرشادهم والإقبال عليهم بالخطاب ، ففيه تأنيس لأنفسهم بعد أن هددهم ولامهم وذم صنعهم ليعلموا أن الإغلاظ عليهم ليس إلا حرصا على صلاحهم وأنه غني عنهم كما يفعله المربي الناصح حين يزجر أو يوبخ فيرى انكسار نفس مرباه فيجبر خاطره بكلمة لينة ليريه أنه إنما أساء إليه استصلاحا وحبا لخيره فلم يترك من رحمته لخلقه حتى في حال عتوهم وضلالهم وفي حال حملهم إلى مصالحهم .
وبعد فهذا الاستئناس وجبر الخواطر يزداد به المحسنون إحسانا وينكف به المجرمون عن سوء صنعهم فيأخذ كل فريق من الذين ذكروا فيما سلف حظه منه .
فالمقصود بالنداء من قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21يا أيها الناس الإقبال على موعظة نبذ الشرك وذلك هو غالب اصطلاح القرآن في الخطاب بـ "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21يا أيها الناس " ، وقرينة ذلك هنا قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=22فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون وافتتح الخطاب بالنداء تنويها به . ويا حرف للنداء وهو أكثر حروف النداء استعمالا ، فهو أصل حروف النداء ، ولذلك لا يقدر غيره عند حذف حرف النداء ، ولكونه أصلا كان مشتركا لنداء القريب والبعيد كما في القاموس . قال
الرضي : في شرح الكافية : إن استعمال يا في القريب والبعيد على السواء ودعوى المجاز في أحدهما أو التأويل خلاف الأصل .
وهو يريد بذلك الرد على
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري إذ قال في الكشاف : ويا حرف وضع في أصله لنداء البعيد ثم استعمل في مناداة من سها أو غفل وإن قرب تنزيلا له منزلة من بعد ، وكذلك فعل في كتاب المفصل .
وأي في الأصل نكرة تدل على فرد من جنس اسم يتصل بها بطريق الإضافة ، نحو " أي رجل " أو بطريق الإبدال نحو " يا أيها الرجل " ، ومنه ما في الاختصاص كقولك لجليسك : أنا كفيت مهمك أيها الجالس عندك ، وقد ينادون المنادى باسم جنسه أو بوصفه لأنه طريق معرفته أو لأنه أشمل لإحضاره كما هنا ، فربما يؤتى بالمنادى حينئذ نكرة مقصودة أو غير مقصودة ، وربما يأتون باسم الجنس أو الوصف معرفا باللام الجنسية إشارة إلى تطرق التعريف إليه على الجملة تفننا ، فجرى استعمالهم أن يأتوا حينئذ مع اللام باسم إشارة إغراقا في تعريفه
[ ص: 325 ] ويفصلوا بين حرف النداء والاسم المنادى حينئذ بكلمة " أي " وهو تركيب غير جار على قياس اللغة ، ولعله من بقايا استعمال عتيق .
وقد اختصروا اسم الإشارة فأبقوا " ها " التنبيهية وحذفوا اسم الإشارة ، فأصل يا أيها الناس يا أيهؤلاء ، وقد صرحوا بذلك في بعض كلامهم كقول الشاعر الذي لا نعرفه .
أيهذان كلا زاديكما وربما أرادوا نداء المجهول الحاضر الذات أيضا بما يدل على طريق إحضاره من حالة قائمة به باعتبار كونه فردا من جنس فتوصلوا لذلك باسم الموصول الدال على الحالة بصلته والدال على الجنسية لأن الموصول يأتي لما تأتي له اللام فيقحمون أيا كذلك نحو
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=6يا أيها الذي نزل عليه الذكر والناس تقدم الكلام في اشتقاقه عند قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=8ومن الناس وهو اسم جمع نودي هنا وعرف بأل . يشمل كل أفراد مسماه لأن الجموع المعرفة باللام للعموم ما لم يتحقق عهد كما تقرر في الأصول ، واحتمالها العهد ضعيف إذ الشأن عهد الأفراد فلذلك كانت في العموم أنص من عموم المفرد المحلى بأل .
فإن نظرت إلى صورة الخطاب فهو إنما واجه به ناسا سامعين فعمومه لمن لم يحضر وقت سماع هذه الآية ولمن سيوجد من بعد يكون بقرينة عموم التكليف وعدم قصد تخصيص الحاضرين ، وذلك أمر قد تواتر نقلا ومعنى ، فلا جرم أن يعم الجميع من غير حاجة إلى القياس ، وإن نظرت إلى أن هذا من أضرب الخطاب الذي لا يكون لمعين فيترك فيه التعيين ليعم كل من يصلح للمخاطبة بذلك ، وهذا شأن الخطاب الصادر من الدعاة والأمراء والمؤلفين في كتبهم من نحو قولهم : يا قوم ، ويا فتى ، وأنت ترى ، وبهذا تعلم ، ونحو ذلك ، فما ظنك بخطاب الرسل وخطاب هو نازل من الله تعالى كان ذلك عاما لكل من يشمله اللفظ من غير استعانة بدليل آخر .
وهذا هو تحقيق المسألة التي يفرضها الأصوليون ويعبرون عنها بخطاب المشافهة والمواجهة هل يعم أم لا . والجمهور وإن قالوا إنه يتناول الموجودين دون من بعدهم بناء على أن ذلك هو مقتضى المخاطبة حتى قال
العضد إن إنكار ذلك مكابرة . وبحث فيه
التفتزاني ، فهم قالوا : إن شمول الحكم لمن يأتي بعدهم هو مما تواتر من عموم البعثة ، وأن أحكامها شاملة للخلق في جميع العصور كما أشار إليه
البيضاوي .
[ ص: 326 ] قلت : الظاهر أن خطابات التشريع ونحوها غير جارية على المعروف في توجه الخطاب في أصل اللغات لأن المشرع لا يقصد لفريق معين ، وكذلك خطاب الخلفاء والولاة في الظهائر والتقاليد ، فقرينة عدم قصد الحاضرين ثابتة واضحة ، غاية ما في الباب أن تعلقه بالحاضرين تعلق أصلي إلزامي وتعلقه بالذين يأتون من بعد تعلق معنوي إعلامي على نحو ما تقرر في تعلق الأمر في علم أصول الفقه ، فنفرض مثله في توجه الخطاب .
nindex.php?page=treesubj&link=28345والعبادة في الأصل التذلل والخضوع ، وقد تقدم القول فيها عند قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إياك نعبد ولما كان التذلل والخضوع إنما يحصل عن صدق اليقين كان الإيمان بالله وتوحيده بالإلهية مبدأ العبادة لأن من أشرك مع المستحق ما ليس بمستحق فقد تباعد عن التذلل والخضوع له . فالمخاطب بالأمر بالعبادة المشركون من العرب والدهريون منهم وأهل الكتاب والمؤمنون كل بما عليه من واجب العبادة من إثبات الخالق ومن توحيده ، ومن الإيمان بالرسول ، والإسلام للدين والامتثال لما شرعه إلى ما وراء ذلك كله حتى منتهى العبادة ولو بالدوام والمواظبة بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه فإنهم مشمولون للخطاب على ما تقرر في الأصول ، فالمأمورية هو القدر المشترك حتى لا يلزم استعمال المشترك في معانيه عند من يأتي ذلك الاستعمال ، وإن كنا لا نأباه إذا صلح له السياق بدليل تفريع قوله بعد ذلك
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=22فلا تجعلوا لله أندادا على قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21اعبدوا ربكم الآية . فليس في هذه الآية حجة للقول بخطاب الكفار بفروع الشريعة لأن الأمر بالعبادة بالنسبة إليهم إنما يعنى به الإيمان والتوحيد وتصديق الرسول ، وخطابهم بذلك متفق عليه ، وهي مسألة سمجة .
وقد مضى القول في معنى الرب عند قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الحمد لله رب العالمين في سورة الفاتحة . ووجه العدول عن غير طريق الإضافة من طرق التعريف نحو العلمية إذ لم يقل اعبدوا الله ، لأن في الإتيان بلفظ الرب إيذانا بأحقية الأمر بعبادته فإن المدبر لأمور الخلق هو جدير بالعبادة لأن فيها معنى الشكر وإظهار الاحتياج .
وإفراد اسم الرب دل على أن المراد رب جميع الخلق وهو الله تعالى إذ ليس ثمة رب يستحق هذا الاسم بالإفراد والإضافة إلى جميع الناس إلا الله ، فإن المشركين وإن أشركوا مع الله آلهة إلا أن بعض القبائل كان لها مزيد اختصاص ببعض الأصنام ، كما كان
لثقيف [ ص: 327 ] مزيد اختصاص باللات كما تقدم في سورة الفاتحة وتبعهم
الأوس والخزرج كما سيأتي في تفسير قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=158فمن حج البيت أو اعتمر في هذه السورة ، فالعدول إلى الإضافة هنا لأنها أخصر طريق في الدلالة على هذا المقصد ، فهي أخصر من الموصول ، فلو أريد غير الله لقيل : اعبدوا أربابكم . فلا جرم كان قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21اعبدوا ربكم صريحا في أنه دعوة إلى توحيد الله ، ولذلك فقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21الذي خلقكم زيادة بيان لموجب العبادة ، أو زيادة بيان لما اقتضته الإضافة من تضمن معنى الاختصاص بأحقية العبادة .
وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21والذين من قبلكم يفيد تذكير الدهريين من المخاطبين الذين يزعمون أنهم إنما خلقهم آباؤهم فقالوا
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=24نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر فكان قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21والذين من قبلكم تذكيرا لهم بأن آباءهم الأولين لابد أن ينتهوا إلى أب أول فهو مخلوق لله تعالى . ولعل هذا هو وجه التأكيد بزيادة حرف من في قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21من قبلكم الذي يمكن الاستغناء عنه بالاقتصار على " قبلكم " ، لأن من في الأصل للابتداء فهي تشير إلى أول الموصوفين بالقبلية فذكرها هنا استرواح لأصل معناها مع معنى التأكيد الغالب عليها إذا وقعت مع " قبل " و " بعد " . والخلق أصله الإيجاد على تقدير وتسوية ومنه " خلق الأديم إذا هيأه ليقطعه ويخرزه " قال
جبير في
هرم بن سنان :
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ـض القوم يخلق ثم لا يفري
وأطلق الخلق في القرآن وكلام الشريعة على إيجاد الأشياء المعدومة فهو إخراج الأشياء من العدم إلى الوجود إخراجا لا صنعة فيه للبشر ، فإن إيجاد البشر بصنعتهم أشياء إنما هو تصويرها بتركيب متفرق أجزائها وتقدير مقادير مطلوبة منها كصانع الخزف ، فالخلق وإيجاد العوالم وأجناس الموجودات وأنواعها وتولد بعضها عن بعض بما أودعت الخلقة الإلهية فيها من نظام الإيجاد مثل تكوين الأجنة في الحيوان في بطونه وبيضه ، وتكوين الزرع في حبوب الزريعة ، وتكوين الماء في الأسحبة فذلك كله خلق وهو من تكوين الله تعالى ولا عبرة بما قد يقارن بعض ذلك الإيجاد من علاج الناس كالتزويج وإلقاء الحب والنوى في الأرض للإنبات ، فالإيجاد الذي هو الإخراج من العدم إلى الوجود بدون عمل بشري
[ ص: 328 ] خص باسم الخلق في اصطلاح الشرع ، لأن لفظ الخلق هو أقرب الألفاظ في اللغة العربية دلالة على معنى الإيجاد من العدم الذي هو صفة الله تعالى ، وصار ذلك مدلول مادة خلق في اصطلاح أهل الإسلام ، فلذلك خص إطلاقه في لسان الإسلام بالله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=17أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون وقال
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=3هل من خالق غير الله وخص اسم الخالق به تعالى فلا يطلق على غيره ، ولو أطلقه أحد على غير الله تعالى بناء على الحقيقة اللغوية لكان إطلاقه عجرفة ، فيجب أن ينبه على تركه . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي في المقصد الأسني : لا حظ للعبد في اسمه تعالى الخالق إلا بوجه من المجاز بعيد ، فإذا بلغ في سياسة نفسه وسياسة الخلق مبلغا ينفرد فيه باستنباط أمور لم يسبق إليها ويقدر مع ذلك على فعلها كان كالمخترع لما لم يكن له وجود من قبل فيجوز إطلاق الاسم أي الخالق عليه مجازا اهـ .
فجعل جواز إطلاق فعل الخلق على اختراع بعض العباد مشروطا بهذه الحالة النادرة ، ومع ذلك جعله مجازا بعيدا ، فما حكاه الله في القرآن من قول
عيسى عليه السلام
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=49أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وقول الله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=110وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فإن ذلك مراعى فيه أصل الإطلاق اللغوي قبل غلبة استعمال مادة خلق في الخلق الذي لا يقدر عليه إلا الله تعالى . ثم تخصيص تلك المادة بتكوين الله تعالى الموجودات ، ومن أجل ذلك قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=14فتبارك الله أحسن الخالقين وجملة
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21لعلكم تتقون تعليل للأمر باعبدوا ، فلذلك فصلت أي أمرتكم بعبادته لرجاء منكم أن تتقوا .
ولعل حرف يدل على الرجاء . والرجاء هو الإخبار عن تهيئ وقوع أمر في المستقبل وقوعا مؤكدا . فتبين أن لعل حرف مدلوله خبري لأنها إخبار عن تأكد حصول الشيء ومعناها مركب من رجاء المتكلم في المخاطب وهو معنى جزئي حرفي ، وقد شاع عند المفسرين وأهل العلوم الحيرة في محمل لعل الواقعة من كلام الله تعالى لأن معنى الترجي يقتضي عدم الجزم بوقوع المرجو عند المتكلم ، فللشك جانب في معناها حتى قال
الجوهري لعل كلمة
[ ص: 329 ] شك ، وهذا لا يناسب علم الله تعالى بأحوال الأشياء قبل وقوعها ، ولأنها قد وردت في أخبار مع عدم حصول المرجو لقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=130ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون مع أنهم لم يتذكروا كما بينته الآيات من بعد .
ولهم في تأويل لعل الواقعة في كلام الله تعالى وجوه : أحدها قال
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه لعل على بابها والترجي أو التوقع إنما هو في حيز المخاطبين اهـ . يعني أنها للإخبار بأن المخاطب يكون مرجوا ، واختاره الرضي قائلا : لأن الأصل أن لا تخرج عن معناها بالكلية .
وأقول : لا يعني
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه أن ذلك معنى أصل لها ولكنه يعني أنها مجاز قريب من معنى الحقيقة لوقوع التعجيز في أحد جزأي المعنى الحقيقي لأن الرجاء يقتضي راجيا ومرجوا منه ، فحرف الرجاء دال على معنى فعل الرجاء إلا أنه معنى جزئي ، وكل من الفاعل والمفعول مدلول لمعنى الفعل بالالتزام ، فإذا دلت قرينة على تعطيل دلالة حرف الرجاء على فاعل الرجاء لم يكن في الحرف أو الفعل تمجز ، إذ المجاز إنما يتطرق للمدلولات اللغوية لا العقلية وكذلك إذا لم يحصل الفعل المرجو .
ثانيها أن لعل للإطماع تقول للقاصد : لعلك تنال بغيتك ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : وقد جاءت على سبيل الإطماع في مواضع من القرآن . والإطماع أيضا معنى مجازي للرجاء لأن الرجاء يلزمه التقريب ، والتقريب يستلزم الإطماع ، فالإطماع لازم بمرتبتين .
ثالثها أنها للتعليل بمعنى كي ، قاله
قطرب وأبو علي الفارسي nindex.php?page=showalam&ids=12590وابن الأنباري ; وأحسب أن مرادهم هذا المعنى في المواقع التي لا يظهر فيها معنى الرجاء ، فلا يرد عليهم أنه لا يطرد في نحو قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=17وما يدريك لعل الساعة قريب لصحة معنى الرجاء بالنسبة للمخاطب . ولا يرد عليهم أيضا أنه إثبات معنى في ( لعل ) لا يوجد له شاهد من كلام العرب ، وجعله
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري قولا متفرعا على قول من جعلها للإطماع فقال : " ولأنه إطماع من كريم إذا أطمع فعل قال " من قال : إن لعل بمعنى كي يعني فهو معنى مجازي ناشئ عن مجاز آخر ، فهو من تركيب المجاز على اللزوم بثلاث مراتب .
رابعها ما ذهب إليه صاحب الكشاف أنها استعارة فقال : ولعل واقعة في الآية موقع المجاز لأن الله تعالى خلق عباده ليتعبدهم ، ووضع في أيديهم زمام الاختيار وأراد منهم الخير
[ ص: 330 ] والتقوى ، فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا ليترجح أمرهم ، وهم مختارون بين الطاعة والعصيان كما ترجحت حال المرتجي بين أن يفعل وأن لا يفعل . ومصداقه قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=7ليبلوكم أيكم أحسن عملا وإنما يبلى ويختبر من تخفى عنه العواقب ، ولكن شبه بالاختبار بناء أمرهم على الاختيار . فكلام الكشاف يجعل لعل في كلامه تعالى استعارة تمثيلية لأنه جعلها تشبيه هيئة مركبة من شأن المريد والمراد منه والإرادة بحال مركبة من الراجي والمرجو منه والرجاء فاستعير المركب الموضوع للرجاء لمعنى المركب الدال على الإرادة .
وعندي وجه آخر مستقل وهو أن لعل الواقعة في مقام تعليل أمر أو نهي لها استعمال يغاير استعمال لعل المستأنفة في الكلام سواء وقعت في كلام الله أم في غيره ، فإذا قلت : افتقد فلانا لعلك تنصحه كان إخبارا باقتراب وقوع الشيء وأنه في حيز الإمكان إن تم ما علق عليه ، فأما اقتضاؤه عدم جزم المتكلم بالحصول فذلك معنى التزامي أغلبي قد يعلم انتفاؤه بالقرينة ، وذلك الانتفاء في كلام الله أوقع ، فاعتقادنا بأن كل شيء لم يقع أو لا يقع في المستقبل هو القرينة على تعطيل هذا المعنى الالتزامي دون احتياج إلى التأويل في معنى الرجاء الذي تفيده لعل حتى يكون مجازا أو استعارة لأن لعل إنما أتي بها لأن المقام يقتضي معنى الرجاء فالتزام تأويل هذه الدلالة في كل موضع في القرآن تعطيل لمعنى الرجاء الذي يقتضيه المقام ، والجماعة لجئوا إلى التأويل لأنهم نظروا إلى لعل بنظر متحد في مواقع استعمالها بخلاف لعل المستأنفة فإنها أقرب إلى إنشاء الرجاء منها إلى الإخبار به . وعلى كل فمعنى لعل غير معنى أفعال المقاربة . والتقوى هي الحذر مما يكره ، وشاعت عند العرب والمتدينين في أسبابها ، وهو حصول صفات الكمال التي يجمعها التدين ، وقد تقدم القول فيها عند قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2هدى للمتقين ولما كانت التقوى نتيجة العبادة جعل رجاؤها أثرا للأمر بالعبادة . وتقدم عند قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2هدى للمتقين فالمعنى اعبدوا ربكم رجاء أن تتقوا فتصبحوا كاملين متقين ، فإن
nindex.php?page=treesubj&link=19867_29531التقوى هي الغاية من العبادة فرجاء حصولها عند الأمر بالعبادة وعند عبادة العابد أو عند إرادة الخلق والتكوين واضح الفائدة .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21nindex.php?page=treesubj&link=28973_29531يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ ثَنَى بِهِ الْعِنَانَ إِلَى مَوْعِظَةِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنَ الْفِرَقِ الْأَرْبَعِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا مَوْعِظَةً تَلِيقُ بِحَالِهِ بَعْدَ أَنْ قَضَى حَقَّ وَصْفِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِخِلَالِهِ ، وَمُثِّلَثْ حَالُ كُلِّ فَرِيقٍ وَضُرِبَتْ لَهُ أَمْثَالُهُ ، فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَوْفَى أَحْوَالًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَأَضْدَادِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ لَا جَرَمَ تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِخِطَابِ عُمُومِهِمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ إِرْشَادًا لَهُمْ وَرَحْمَةً بِهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَرْضَى لَهُمُ الضَّلَالَ وَلَمْ
[ ص: 324 ] يَكُنْ مَا ذُكِرَ آنِفًا مِنْ سُوءِ صُنْعِهِمْ حَائِلًا دُونَ إِعَادَةِ إِرْشَادِهِمْ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ ، فَفِيهِ تَأْنِيسٌ لِأَنْفُسِهِمْ بَعْدَ أَنْ هَدَّدَهُمْ وَلَامَهُمْ وَذَمَّ صُنْعَهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ الْإِغْلَاظَ عَلَيْهِمْ لَيْسَ إِلَّا حِرْصًا عَلَى صَلَاحِهِمْ وَأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُمْ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُرَبِّي النَّاصِحُ حِينَ يَزْجُرُ أَوْ يُوَبِّخُ فَيُرَى انْكِسَارُ نَفْسِ مُرَبَّاهُ فَيَجْبُرُ خَاطِرَهُ بِكَلِمَةٍ لَيِّنَةٍ لِيُرِيَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَسَاءَ إِلَيْهِ اسْتِصْلَاحًا وَحُبًّا لِخَيْرِهِ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْ رَحْمَتِهِ لِخَلْقِهِ حَتَّى فِي حَالِ عُتُوِّهِمْ وَضَلَالِهِمْ وَفِي حَالِ حَمْلِهِمْ إِلَى مَصَالِحِهِمْ .
وَبَعْدُ فَهَذَا الِاسْتِئْنَاسُ وَجَبْرُ الْخَوَاطِرِ يَزْدَادُ بِهِ الْمُحْسِنُونَ إِحْسَانًا وَيَنْكَفُّ بِهِ الْمُجْرِمُونَ عَنْ سُوءِ صُنْعِهِمْ فَيَأْخُذُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِيمَا سَلَفَ حَظَّهُ مِنْهُ .
فَالْمَقْصُودُ بِالنِّدَاءِ مِنْ قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21يَا أَيُّهَا النَّاسُ الْإِقْبَالُ عَلَى مَوْعِظَةِ نَبْذِ الشِّرْكِ وَذَلِكَ هُوَ غَالِبُ اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ فِي الْخِطَابِ بِـ "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21يَا أَيُّهَا النَّاسُ " ، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ هُنَا قَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=22فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَافْتَتَحَ الْخِطَابَ بِالنِّدَاءِ تَنْوِيهًا بِهِ . وَيَا حَرْفٌ لِلنِّدَاءِ وَهُوَ أَكْثَرُ حُرُوفِ النِّدَاءِ اسْتِعْمَالًا ، فَهُوَ أَصْلُ حُرُوفِ النِّدَاءِ ، وَلِذَلِكَ لَا يُقَدَّرُ غَيْرُهُ عِنْدَ حَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ ، وَلِكَوْنِهِ أَصْلًا كَانَ مُشْتَرِكًا لِنِدَاءِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ . قَالَ
الرَّضِيُّ : فِي شَرْحِ الْكَافِيَةِ : إِنَّ اسْتِعْمَالَ يَا فِي الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ عَلَى السَّوَاءِ وَدَعْوَى الْمَجَازِ فِي أَحَدِهِمَا أَوِ التَّأْوِيلِ خِلَافُ الْأَصْلِ .
وَهُوَ يُرِيدُ بِذَلِكَ الرَّدَّ عَلَى
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيِّ إِذْ قَالَ فِي الْكَشَّافِ : وَيَا حَرْفٌ وُضِعَ فِي أَصْلِهِ لِنِدَاءِ الْبَعِيدِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي مُنَادَاةِ مَنْ سَهَا أَوْ غَفَلَ وَإِنْ قَرُبَ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ مَنْ بَعُدَ ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ فِي كِتَابِ الْمُفَصَّلِ .
وَأَيٌّ فِي الْأَصْلِ نَكِرَةٌ تَدُلُّ عَلَى فَرْدٍ مِنْ جِنْسِ اسْمٍ يَتَّصِلُ بِهَا بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ ، نَحْوُ " أَيُّ رَجُلٍ " أَوْ بِطَرِيقِ الْإِبْدَالِ نَحْوُ " يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ " ، وَمِنْهُ مَا فِي الِاخْتِصَاصِ كَقَوْلِكَ لِجَلِيسِكَ : أَنَا كَفَيْتُ مُهِمَّكَ أَيُّهَا الْجَالِسُ عِنْدَكَ ، وَقَدْ يُنَادُونَ الْمُنَادَى بِاسْمِ جِنْسِهِ أَوْ بِوَصْفِهِ لِأَنَّهُ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ أَوْ لِأَنَّهُ أَشْمَلُ لِإِحْضَارِهِ كَمَا هُنَا ، فَرُبَّمَا يُؤْتَى بِالْمُنَادَى حِينَئِذٍ نَكِرَةً مَقْصُودَةً أَوْ غَيْرَ مَقْصُودَةٍ ، وَرُبَّمَا يَأْتُونَ بِاسْمِ الْجِنْسِ أَوِ الْوَصْفِ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ الْجِنْسِيَّةِ إِشَارَةً إِلَى تَطَرُّقِ التَّعْرِيفِ إِلَيْهِ عَلَى الْجُمْلَةِ تَفَنُّنًا ، فَجَرَى اسْتِعْمَالُهُمْ أَنْ يَأْتُوا حِينَئِذٍ مَعَ اللَّامِ بِاسْمِ إِشَارَةٍ إِغْرَاقًا فِي تَعْرِيفِهِ
[ ص: 325 ] وَيَفْصِلُوا بَيْنَ حَرْفِ النِّدَاءِ وَالِاسْمِ الْمُنَادَى حِينَئِذٍ بِكَلِمَةِ " أَيْ " وَهُوَ تَرْكِيبٌ غَيْرُ جَارٍ عَلَى قِيَاسِ اللُّغَةِ ، وَلَعَلَّهُ مِنْ بَقَايَا اسْتِعْمَالٍ عَتِيقٍ .
وَقَدِ اخْتَصَرُوا اسْمَ الْإِشَارَةِ فَأَبْقَوْا " هَا " التَّنْبِيهِيَّةَ وَحَذَفُوا اسْمَ الْإِشَارَةِ ، فَأَصْلُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ يَا أَيُّهَؤُلَاءِ ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ فِي بَعْضِ كَلَامِهِمْ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ الَّذِي لَا نَعْرِفُهُ .
أَيُّهَذَانِ كُلَا زَادَيْكُمَا وَرُبَّمَا أَرَادُوا نِدَاءَ الْمَجْهُولِ الْحَاضِرِ الذَّاتِ أَيْضًا بِمَا يَدُلُّ عَلَى طَرِيقِ إِحْضَارِهِ مِنْ حَالَةٍ قَائِمَةٍ بِهِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ فَرْدًا مِنْ جِنْسٍ فَتَوَصَّلُوا لِذَلِكَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الدَّالِّ عَلَى الْحَالَةِ بِصِلَتِهِ وَالدَّالِّ عَلَى الْجِنْسِيَّةِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ يَأْتِي لِمَا تَأْتِي لَهُ اللَّامُ فَيُقْحِمُونَ أَيًّا كَذَلِكَ نَحْوَ
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=6يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ وَالنَّاسُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي اشْتِقَاقِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=8وَمِنَ النَّاسِ وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ نُودِيَ هُنَا وَعُرِّفَ بِأَلْ . يَشْمَلُ كُلَّ أَفْرَادِ مُسَمَّاهُ لِأَنَّ الْجُمُوعَ الْمُعَرَّفَةَ بِاللَّامِ لِلْعُمُومِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ عَهْدٌ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ ، وَاحْتِمَالُهَا الْعَهْدَ ضَعِيفٌ إِذِ الشَّأْنُ عَهْدُ الْأَفْرَادِ فَلِذَلِكَ كَانَتْ فِي الْعُمُومِ أَنَصَّ مِنْ عُمُومِ الْمُفْرَدِ الْمُحَلَّى بِأَلْ .
فَإِنْ نَظَرْتَ إِلَى صُورَةِ الْخِطَابِ فَهُوَ إِنَّمَا وَاجَهَ بِهِ نَاسًا سَامِعِينَ فَعُمُومُهُ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرْ وَقْتَ سَمَاعِ هَذِهِ الْآيَةِ وَلِمَنْ سَيُوجَدُ مِنْ بَعْدُ يَكُونُ بِقَرِينَةِ عُمُومِ التَّكْلِيفِ وَعَدَمِ قَصْدِ تَخْصِيصِ الْحَاضِرِينَ ، وَذَلِكَ أَمْرٌ قَدْ تَوَاتَرَ نَقْلًا وَمَعْنًى ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَعُمَّ الْجَمِيعَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْقِيَاسِ ، وَإِنْ نَظَرْتَ إِلَى أَنَّ هَذَا مِنْ أَضْرُبِ الْخِطَابِ الَّذِي لَا يَكُونُ لِمُعَيَّنٍ فَيُتْرَكُ فِيهِ التَّعْيِينُ لِيَعُمَّ كُلَّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْمُخَاطَبَةِ بِذَلِكَ ، وَهَذَا شَأْنُ الْخِطَابِ الصَّادِرِ مِنَ الدُّعَاةِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْمُؤَلِّفِينَ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِمْ : يَا قَوْمُ ، وَيَا فَتَى ، وَأَنْتَ تَرَى ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَمَا ظَنُّكَ بِخِطَابِ الرُّسُلِ وَخِطَابٍ هُوَ نَازِلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ عَامًّا لِكُلِّ مَنْ يَشْمَلُهُ اللَّفْظُ مِنْ غَيْرِ اسْتِعَانَةٍ بِدَلِيلٍ آخَرَ .
وَهَذَا هُوَ تَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي يَفْرِضُهَا الْأُصُولِيُّونَ وَيُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِخِطَابِ الْمُشَافَهَةِ وَالْمُوَاجَهَةِ هَلْ يَعُمُّ أَمْ لَا . وَالْجُمْهُورُ وَإِنْ قَالُوا إِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودِينَ دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى الْمُخَاطَبَةِ حَتَّى قَالَ
الْعَضُدُ إِنَّ إِنْكَارَ ذَلِكَ مُكَابَرَةٌ . وَبَحَثَ فِيهِ
التَّفْتَزَانِيُّ ، فَهُمْ قَالُوا : إِنَّ شُمُولَ الْحُكْمِ لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ هُوَ مِمَّا تَوَاتَرَ مِنْ عُمُومِ الْبِعْثَةِ ، وَأَنَّ أَحْكَامَهَا شَامِلَةٌ لِلْخَلْقِ فِي جَمِيعِ الْعُصُورِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ
الْبَيْضَاوِيُّ .
[ ص: 326 ] قُلْتُ : الظَّاهِرُ أَنَّ خِطَابَاتِ التَّشْرِيعِ وَنَحْوَهَا غَيْرُ جَارِيَةٍ عَلَى الْمَعْرُوفِ فِي تَوَجُّهِ الْخِطَابِ فِي أَصْلِ اللُّغَاتِ لِأَنَّ الْمُشَرِّعَ لَا يَقْصِدُ لِفَرِيقٍ مُعَيَّنٍ ، وَكَذَلِكَ خِطَابُ الْخُلَفَاءِ وَالْوُلَاةِ فِي الظَّهَائِرِ وَالتَّقَالِيدِ ، فَقَرِينَةُ عَدَمِ قَصْدِ الْحَاضِرِينَ ثَابِتَةٌ وَاضِحَةٌ ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ تَعَلُّقَهُ بِالْحَاضِرِينَ تَعَلُّقٌ أَصْلِيٌّ إِلْزَامِيٌّ وَتَعَلُّقَهُ بِالَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدُ تَعَلُّقٌ مَعْنَوِيٌّ إِعْلَامِيٌّ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَرَّرَ فِي تَعَلُّقِ الْأَمْرِ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ ، فَنَفْرِضُ مِثْلَهُ فِي تَوَجُّهِ الْخِطَابِ .
nindex.php?page=treesubj&link=28345وَالْعِبَادَةُ فِي الْأَصْلِ التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَلَمَّا كَانَ التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ إِنَّمَا يَحْصُلُ عَنْ صِدْقِ الْيَقِينِ كَانَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَتَوْحِيدُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ مَبْدَأَ الْعِبَادَةِ لِأَنَّ مَنْ أَشْرَكَ مَعَ الْمُسْتَحِقِّ مَا لَيْسَ بِمُسْتَحِقٍّ فَقَدْ تَبَاعَدَ عَنِ التَّذَلُّلِ وَالْخُضُوعِ لَهُ . فَالْمُخَاطَبُ بِالْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْعَرَبِ وَالدَّهْرِيُّونَ مِنْهُمْ وَأَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ وَاجِبِ الْعِبَادَةِ مِنْ إِثْبَاتِ الْخَالِقِ وَمِنْ تَوْحِيدِهِ ، وَمِنَ الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ ، وَالْإِسْلَامِ لِلدِّينِ وَالِامْتِثَالِ لِمَا شَرَعَهُ إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ حَتَّى مُنْتَهَى الْعِبَادَةِ وَلَوْ بِالدَّوَامِ وَالْمُوَاظَبَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ فَإِنَّهُمْ مَشْمُولُونَ لِلْخِطَابِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ ، فَالْمَأْمُورِيَّةُ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ حَتَّى لَا يَلْزَمَ اسْتِعْمَالُ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعَانِيهِ عِنْدَ مَنْ يَأْتِي ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالَ ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَأْبَاهُ إِذَا صَلَحَ لَهُ السِّيَاقُ بِدَلِيلِ تَفْرِيعِ قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=22فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا عَلَى قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الْآيَةَ . فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّةٌ لِلْقَوْلِ بِخِطَابِ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ إِنَّمَا يُعْنَى بِهِ الْإِيمَانُ وَالتَّوْحِيدُ وَتَصْدِيقُ الرَّسُولِ ، وَخِطَابُهُمْ بِذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ سَمِجَةٌ .
وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي مَعْنَى الرَّبِّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=2الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ . وَوَجْهُ الْعُدُولِ عَنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْإِضَافَةِ مِنْ طُرُقِ التَّعْرِيفِ نَحْوُ الْعَلَمِيَّةِ إِذْ لَمْ يَقُلِ اعْبُدُوا اللَّهَ ، لِأَنَّ فِي الْإِتْيَانِ بِلَفْظِ الرَّبِّ إِيذَانًا بِأَحَقِّيَّةِ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ فَإِنَّ الْمُدَبِّرَ لِأُمُورِ الْخَلْقِ هُوَ جَدِيرٌ بِالْعِبَادَةِ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى الشُّكْرِ وَإِظْهَارَ الِاحْتِيَاجِ .
وَإِفْرَادُ اسْمِ الرَّبِّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ رَبُّ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ رَبٌّ يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ بِالْإِفْرَادِ وَالْإِضَافَةِ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ إِلَّا اللَّهُ ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ أَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ آلِهَةً إِلَّا أَنَّ بَعْضَ الْقَبَائِلِ كَانَ لَهَا مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِبَعْضِ الْأَصْنَامِ ، كَمَا كَانَ
لِثَقِيفٍ [ ص: 327 ] مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِاللَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَتَبِعَهُمُ
الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=158فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ، فَالْعُدُولُ إِلَى الْإِضَافَةِ هُنَا لِأَنَّهَا أَخْصَرُ طَرِيقٍ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا الْمَقْصِدِ ، فَهِيَ أَخْصَرُ مِنَ الْمَوْصُولِ ، فَلَوْ أُرِيدَ غَيْرُ اللَّهِ لَقِيلَ : اعْبُدُوا أَرْبَابَكُمْ . فَلَا جَرَمَ كَانَ قَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21اعْبُدُوا رَبَّكُمُ صَرِيحًا فِي أَنَّهُ دَعْوَةٌ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ ، وَلِذَلِكَ فَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21الَّذِي خَلَقَكُمْ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِمُوجِبِ الْعِبَادَةِ ، أَوْ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِمَا اقْتَضَتْهُ الْإِضَافَةُ مِنْ تَضَمُّنِ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ بِأَحَقِّيَّةِ الْعِبَادَةِ .
وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يُفِيدُ تَذْكِيرَ الدَّهْرِيِّينَ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا خَلَقَهُمْ آبَاؤُهُمْ فَقَالُوا
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=24نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ فَكَانَ قَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ لَابُدَّ أَنْ يَنْتَهُوا إِلَى أَبٍ أَوَّلٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى . وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ وَجْهُ التَّأْكِيدِ بِزِيَادَةِ حَرْفِ مِنْ فِي قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21مِنْ قَبْلِكُمْ الَّذِي يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى " قَبْلِكُمْ " ، لِأَنَّ مِنْ فِي الْأَصْلِ لِلِابْتِدَاءِ فَهِيَ تُشِيرُ إِلَى أَوَّلِ الْمَوْصُوفِينَ بِالْقَبْلِيَّةِ فَذِكْرُهَا هُنَا اسْتِرْوَاحٌ لِأَصْلِ مَعْنَاهَا مَعَ مَعْنَى التَّأْكِيدِ الْغَالِبِ عَلَيْهَا إِذَا وَقَعَتْ مَعَ " قَبْلُ " وَ " بَعْدُ " . وَالْخَلْقُ أَصْلُهُ الْإِيجَادُ عَلَى تَقْدِيرٍ وَتَسْوِيَةٍ وَمِنْهُ " خَلَقَ الْأَدِيمَ إِذَا هَيَّأَهُ لِيَقْطَعَهُ وَيَخْرُزَهُ " قَالَ
جُبَيْرٌ فِي
هَرَمِ بْنِ سِنَانٍ :
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْـ ـضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي
وَأُطْلِقَ الْخَلْقُ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الشَّرِيعَةِ عَلَى إِيجَادِ الْأَشْيَاءِ الْمَعْدُومَةِ فَهُوَ إِخْرَاجُ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ إِخْرَاجًا لَا صَنْعَةَ فِيهِ لِلْبَشَرِ ، فَإِنَّ إِيجَادَ الْبَشَرِ بِصَنْعَتِهِمْ أَشْيَاءَ إِنَّمَا هُوَ تَصْوِيرُهَا بِتَرْكِيبِ مُتَفَرِّقِ أَجْزَائِهَا وَتَقْدِيرِ مَقَادِيرَ مَطْلُوبَةٍ مِنْهَا كَصَانِعِ الْخَزَفِ ، فَالْخَلْقُ وَإِيجَادُ الْعَوَالِمِ وَأَجْنَاسِ الْمَوْجُودَاتِ وَأَنْوَاعِهَا وَتَوَلُّدِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ بِمَا أَوْدَعَتِ الْخِلْقَةُ الْإِلَهِيَّةُ فِيهَا مِنْ نِظَامِ الْإِيجَادِ مِثْلِ تَكْوِينِ الْأَجِنَّةِ فِي الْحَيَوَانِ فِي بُطُونِهِ وَبَيْضِهِ ، وَتَكْوِينِ الزَّرْعِ فِي حُبُوبِ الزَّرِّيعَةِ ، وَتَكْوِينِ الْمَاءِ فِي الْأَسْحِبَةِ فَذَلِكَ كُلُّهُ خَلْقٌ وَهُوَ مِنْ تَكْوِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا عِبْرَةَ بِمَا قَدْ يُقَارِنُ بَعْضَ ذَلِكَ الْإِيجَادِ مِنْ عِلَاجِ النَّاسِ كَالتَّزْوِيجِ وَإِلْقَاءِ الْحَبِّ وَالنَّوَى فِي الْأَرْضِ لِلْإِنْبَاتِ ، فَالْإِيجَادُ الَّذِي هُوَ الْإِخْرَاجُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ بِدُونِ عَمَلٍ بَشَرِيٍّ
[ ص: 328 ] خُصَّ بِاسْمِ الْخَلْقِ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ ، لِأَنَّ لَفْظَ الْخَلْقِ هُوَ أَقْرَبُ الْأَلْفَاظِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ دَلَالَةً عَلَى مَعْنَى الْإِيجَادِ مِنَ الْعَدَمِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَصَارَ ذَلِكَ مَدْلُولَ مَادَّةِ خَلَقَ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ، فَلِذَلِكَ خُصَّ إِطْلَاقُهُ فِي لِسَانِ الْإِسْلَامِ بِاللَّهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=17أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ وَقَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=3هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ وَخُصَّ اسْمُ الْخَالِقِ بِهِ تَعَالَى فَلَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَلَوْ أَطْلَقَهُ أَحَدٌ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِنَاءً عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ لَكَانَ إِطْلَاقُهُ عَجْرَفَةً ، فَيَجِبُ أَنْ يُنَبَّهَ عَلَى تَرْكِهِ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْغَزَالِيُّ فِي الْمَقْصِدِ الْأَسْنَي : لَا حَظَّ لِلْعَبْدِ فِي اسْمِهِ تَعَالَى الْخَالِقِ إِلَّا بِوَجْهٍ مِنَ الْمَجَازِ بَعِيدٍ ، فَإِذَا بَلَغَ فِي سِيَاسَةِ نَفْسِهِ وَسِيَاسَةِ الْخَلْقِ مَبْلَغًا يَنْفَرِدُ فِيهِ بِاسْتِنْبَاطِ أُمُورٍ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهَا وَيَقْدِرُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى فِعْلِهَا كَانَ كَالْمُخْتَرِعِ لِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وُجُودٌ مِنْ قَبْلُ فَيَجُوزُ إِطْلَاقُ الِاسْمِ أَيِ الْخَالِقِ عَلَيْهِ مَجَازًا اهـ .
فَجَعَلَ جَوَازَ إِطْلَاقِ فِعْلِ الْخَلْقِ عَلَى اخْتِرَاعِ بَعْضِ الْعِبَادِ مَشْرُوطًا بِهَذِهِ الْحَالَةِ النَّادِرَةِ ، وَمَعَ ذَلِكَ جَعَلَهُ مَجَازًا بَعِيدًا ، فَمَا حَكَاهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=49أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=110وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَإِنَّ ذَلِكَ مُرَاعَى فِيهِ أَصْلُ الْإِطْلَاقِ اللُّغَوِيِّ قَبْلَ غَلَبَةِ اسْتِعْمَالِ مَادَّةِ خَلَقَ فِي الْخَلْقِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى . ثُمَّ تَخْصِيصُ تِلْكَ الْمَادَّةِ بِتَكْوِينِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَوْجُودَاتِ ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=14فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ وَجُمْلَةُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=21لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِاعْبُدُوا ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ أَيْ أَمَرْتُكُمْ بِعِبَادَتِهِ لِرَجَاءٍ مِنْكُمْ أَنْ تَتَّقُوا .
وَلَعَلَّ حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى الرَّجَاءِ . وَالرَّجَاءُ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ تَهَيُّئِ وُقُوعِ أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وُقُوعًا مُؤَكَّدًا . فَتَبَيَّنَ أَنَّ لَعَلَّ حَرْفٌ مَدْلُولُهُ خَبَرِيٌّ لِأَنَّهَا إِخْبَارٌ عَنْ تَأَكُّدِ حُصُولِ الشَّيْءِ وَمَعْنَاهَا مُرَكَّبٌ مِنْ رَجَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْمُخَاطَبِ وَهُوَ مَعْنًى جُزْئِيٌّ حَرْفِيٌّ ، وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلِ الْعُلُومِ الْحَيْرَةُ فِي مَحْمَلِ لَعَلَّ الْوَاقِعَةِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ مَعْنَى التَّرَجِّي يَقْتَضِي عَدَمَ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ الْمَرْجُوِّ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ ، فَلِلشَّكِّ جَانِبٌ فِي مَعْنَاهَا حَتَّى قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ لَعَلَّ كَلِمَةُ
[ ص: 329 ] شَكٍّ ، وَهَذَا لَا يُنَاسِبُ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَحْوَالِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُقُوعِهَا ، وَلِأَنَّهَا قَدْ وَرَدَتْ فِي أَخْبَارٍ مَعَ عَدَمِ حُصُولِ الْمَرْجُوِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=130وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَذَكَّرُوا كَمَا بَيَّنَتْهُ الْآيَاتُ مِنْ بَعْدُ .
وَلَهُمْ فِي تَأْوِيلِ لَعَلَّ الْوَاقِعَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وُجُوهٌ : أَحَدُهَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16076سِيبَوَيْهِ لَعَلَّ عَلَى بَابِهَا وَالتَّرَجِّي أَوِ التَّوَقُّعُ إِنَّمَا هُوَ فِي حَيِّزِ الْمُخَاطَبِينَ اهـ . يَعْنِي أَنَّهَا لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّ الْمُخَاطَبَ يَكُونُ مَرْجُوًّا ، وَاخْتَارَهُ الرَّضِيُّ قَائِلًا : لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا تَخْرُجَ عَنْ مَعْنَاهَا بِالْكُلِّيَّةِ .
وَأَقُولُ : لَا يَعْنِي
nindex.php?page=showalam&ids=16076سِيبَوَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ مَعْنًى أُصِّلَ لَهَا وَلَكِنَّهُ يَعْنِي أَنَّهَا مَجَازٌ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ لِوُقُوعِ التَّعْجِيزِ فِي أَحَدِ جُزْأَيِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِأَنَّ الرَّجَاءَ يَقْتَضِي رَاجِيًا وَمَرْجُوًّا مِنْهُ ، فَحَرْفُ الرَّجَاءِ دَالٌّ عَلَى مَعْنَى فِعْلِ الرَّجَاءِ إِلَّا أَنَّهُ مَعْنًى جُزْئِيٌّ ، وَكُلٌّ مِنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ مَدْلُولٌ لِمَعْنَى الْفِعْلِ بِالِالْتِزَامِ ، فَإِذَا دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى تَعْطِيلِ دَلَالَةِ حَرْفِ الرَّجَاءِ عَلَى فَاعِلِ الرَّجَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَرْفِ أَوِ الْفِعْلِ تَمَجُّزٌ ، إِذِ الْمَجَازُ إِنَّمَا يَتَطَرَّقُ لِلْمَدْلُولَاتِ اللُّغَوِيَّةِ لَا الْعَقْلِيَّةِ وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْفِعْلُ الْمَرْجُوُّ .
ثَانِيهَا أَنَّ لَعَلَّ لِلْإِطْمَاعِ تَقُولُ لِلْقَاصِدِ : لَعَلَّكَ تَنَالُ بُغْيَتَكَ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : وَقَدْ جَاءَتْ عَلَى سَبِيلِ الْإِطْمَاعِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ . وَالْإِطْمَاعُ أَيْضًا مَعْنًى مَجَازِيٌّ لِلرَّجَاءِ لِأَنَّ الرَّجَاءَ يَلْزَمُهُ التَّقْرِيبُ ، وَالتَّقْرِيبُ يَسْتَلْزِمُ الْإِطْمَاعَ ، فَالْإِطْمَاعُ لَازَمٌ بِمَرْتَبَتَيْنِ .
ثَالِثُهَا أَنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ بِمَعْنَى كَيْ ، قَالَهُ
قُطْرُبٌ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ nindex.php?page=showalam&ids=12590وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ ; وَأَحْسَبُ أَنَّ مُرَادَهُمْ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْمَوَاقِعِ الَّتِي لَا يَظْهَرُ فِيهَا مَعْنَى الرَّجَاءِ ، فَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ لَا يَطَّرِدُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=17وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ لِصِحَّةِ مَعْنَى الرَّجَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُخَاطَبِ . وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَيْضًا أَنَّهُ إِثْبَاتُ مَعْنًى فِي ( لَعَلَّ ) لَا يُوجَدُ لَهُ شَاهِدٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَجَعَلَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلًا مُتَفَرِّعًا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهَا لِلْإِطْمَاعِ فَقَالَ : " وَلِأَنَّهُ إِطْمَاعٌ مِنْ كِرِيمٍ إِذَا أُطْمِعَ فَعَلَ قَالَ " مَنْ قَالَ : إِنَّ لَعَلَّ بِمَعْنَى كَيْ يَعْنِيَ فَهُوَ مَعْنًى مَجَازِيٌّ نَاشِئٌ عَنْ مَجَازٍ آخَرَ ، فَهُوَ مِنْ تَرْكِيبِ الْمَجَازِ عَلَى اللُّزُومِ بِثَلَاثِ مَرَاتِبَ .
رَابِعُهَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنَّهَا اسْتِعَارَةٌ فَقَالَ : وَلَعَلَّ وَاقِعَةٌ فِي الْآيَةِ مَوْقِعَ الْمَجَازِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ عِبَادَهُ لِيَتَعَبَّدَهُمْ ، وَوَضَعَ فِي أَيْدِيهِمْ زِمَامَ الِاخْتِيَارِ وَأَرَادَ مِنْهُمُ الْخَيْرَ
[ ص: 330 ] وَالتَّقْوَى ، فَهُمْ فِي صُورَةِ الْمَرْجُوِّ مِنْهُمْ أَنْ يَتَّقُوا لِيَتَرَجَّحَ أَمْرُهُمْ ، وَهُمْ مُخْتَارُونَ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ كَمَا تَرَجَّحَتْ حَالُ الْمُرْتَجِي بَيْنَ أَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ لَا يَفْعَلَ . وَمِصْدَاقُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=7لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَإِنَّمَا يُبْلَى وَيُخْتَبَرُ مَنْ تَخْفَى عَنْهُ الْعَوَاقِبُ ، وَلَكِنْ شَبَّهَ بِالِاخْتِبَارِ بِنَاءَ أَمْرِهِمْ عَلَى الِاخْتِيَارِ . فَكَلَامُ الْكَشَّافِ يَجْعَلُ لَعَلَّ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً لِأَنَّهُ جَعَلَهَا تَشْبِيهَ هَيْئَةٍ مُرَكَّبَةٍ مِنْ شَأْنِ الْمُرِيدِ وَالْمُرَادِ مِنْهُ وَالْإِرَادَةِ بِحَالٍ مُرَكَّبَةٍ مِنَ الرَّاجِي وَالْمَرْجُوِّ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ فَاسْتُعِيرَ الْمُرَكَّبُ الْمَوْضُوعُ لِلرَّجَاءِ لِمَعْنَى الْمُرَكَّبِ الدَّالِّ عَلَى الْإِرَادَةِ .
وَعِنْدِي وَجْهٌ آخَرُ مُسْتَقِلٌّ وَهُوَ أَنَّ لَعَلَّ الْوَاقِعَةَ فِي مَقَامِ تَعْلِيلِ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ لَهَا اسْتِعْمَالٌ يُغَايِرُ اسْتِعْمَالَ لَعَلَّ الْمُسْتَأْنَفَةَ فِي الْكَلَامِ سَوَاءٌ وَقَعَتْ فِي كَلَامِ اللَّهِ أَمْ فِي غَيْرِهِ ، فَإِذَا قُلْتَ : افْتَقِدْ فُلَانًا لَعَلَّكَ تَنْصَحُهُ كَانَ إِخْبَارًا بِاقْتِرَابِ وُقُوعِ الشَّيْءِ وَأَنَّهُ فِي حَيِّزِ الْإِمْكَانِ إِنْ تَمَّ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا اقْتِضَاؤُهُ عَدَمَ جَزْمِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْحُصُولِ فَذَلِكَ مَعْنًى الْتِزَامِيٌّ أَغْلَبِيٌّ قَدْ يُعْلَمُ انْتِفَاؤُهُ بِالْقَرِينَةِ ، وَذَلِكَ الِانْتِفَاءُ فِي كَلَامِ اللَّهِ أَوَقَعُ ، فَاعْتِقَادُنَا بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَمْ يَقَعْ أَوْ لَا يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ هُوَ الْقَرِينَةُ عَلَى تَعْطِيلِ هَذَا الْمَعْنَى الِالْتِزَامِيِّ دُونَ احْتِيَاجٍ إِلَى التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الرَّجَاءِ الَّذِي تُفِيدُهُ لَعَلَّ حَتَّى يَكُونَ مَجَازًا أَوِ اسْتِعَارَةً لِأَنَّ لَعَلَّ إِنَّمَا أُتِيَ بِهَا لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي مَعْنَى الرَّجَاءِ فَالْتِزَامُ تَأْوِيلِ هَذِهِ الدِّلَالَةِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فِي الْقُرْآنِ تَعْطِيلٌ لِمَعْنَى الرَّجَاءِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ ، وَالْجَمَاعَةُ لَجَئُوا إِلَى التَّأْوِيلِ لِأَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى لَعَلَّ بِنَظَرٍ مُتَّحِدٍ فِي مَوَاقِعِ اسْتِعْمَالِهَا بِخِلَافِ لَعَلَّ الْمُسْتَأْنَفَةِ فَإِنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى إِنْشَاءِ الرَّجَاءِ مِنْهَا إِلَى الْإِخْبَارِ بِهِ . وَعَلَى كُلٍّ فَمَعْنَى لَعَلَّ غَيْرُ مَعْنَى أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ . وَالتَّقْوَى هِيَ الْحَذَرُ مِمَّا يُكْرَهُ ، وَشَاعَتْ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْمُتَدَيِّنِينَ فِي أَسْبَابِهَا ، وَهُوَ حُصُولُ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي يَجْمَعُهَا التَّدَيُّنُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2هُدًى لِلْمُتَّقِينَ وَلَمَّا كَانَتِ التَّقْوَى نَتِيجَةَ الْعِبَادَةِ جُعِلَ رَجَاؤُهَا أَثَرًا لِلْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ . وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2هُدًى لِلْمُتَّقِينَ فَالْمَعْنَى اعْبُدُوا رَبَّكُمْ رَجَاءَ أَنْ تَتَّقُوا فَتُصْبِحُوا كَامِلِينَ مُتَّقِينَ ، فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19867_29531التَّقْوَى هِيَ الْغَايَةُ مِنَ الْعِبَادَةِ فَرَجَاءُ حُصُولِهَا عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ وَعِنْدَ عِبَادَةِ الْعَابِدِ أَوْ عِنْدَ إِرَادَةِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَاضِحُ الْفَائِدَةِ .