الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي .

البعث هنا مستعمل في الإلهام بالطيران إلى ذلك المكان ، أي فألهم الله غرابا ينزل بحيث يراه قابيل . وكأن اختيار الغراب لهذا العمل إما لأن الدفن حيلة في الغربان من قبل ، وإما لأن الله اختاره لذلك لمناسبة ما يعتري الناظر إلى سواد لونه من الانقباض بما للأسيف الخاسر من انقباض النفس . ولعل هذا هو الأصل في تشاؤم العرب بالغراب ، فقالوا : غراب البين .

والضمير المستتر في " يريه " إن كان عائدا إلى اسم الجلالة فالتعليل المستفاد من اللام وإسناد الإرادة حقيقتان ، وإن كان عائدا إلى الغراب فاللام مستعملة في معنى فاء التفريع ، وإسناد الإرادة إلى الغراب مجاز ، لأنه سبب الرؤية فكأنه مريء . و كيف يجوز أن تكون مجردة عن الاستفهام مرادا منها الكيفية ، أو للاستفهام ، والمعنى : ليريه جواب كيف يواري .

والسوأة : ما تسوء رؤيته ، وهي هنا تغير رائحة القتيل وتقطع جسمه .

وكلمة " يا ويلتا " من صيغ الاستغاثة المستعملة في التعجب ، وأصله يا لويلتي ، فعوضت الألف عن لام الاستغاثة نحو قولهم : يا عجبا ، ويجوز أن يجعل الألف عوضا عن ياء المتكلم ، وهي لغة ، ويكون النداء مجازا بتنزيل الويلة منزلة ما ينادى ، كقوله : يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله .

[ ص: 174 ] والاستفهام في أعجزت إنكاري .

وهذا المشهد العظيم هو مشهد أول حضارة في البشر ، وهي من قبيل طلب ستر المشاهد المكروهة . وهو أيضا مشهد أول علم اكتسبه البشر بالتقليد وبالتجربة ، وهو أيضا مشهد أول مظاهر تلقي البشر معارفه من عوالم أضعف منه كما تشبه الناس بالحيوان في الزينة ، فلبسوا الجلود الحسنة الملونة وتكللوا بالريش الملون وبالزهور والحجارة الكريمة ، فكم في هذه الآية من عبرة للتاريخ والدين والخلق .

التالي السابق


الخدمات العلمية