الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين

غير أسلوب الحكاية عن أحوال المشركين فأقبل على خطاب المؤمنين بهذه المنة وهذا الحكم ؛ فهذه الجمل معترضة وهي تعريض بتسفيه أحلام المشركين لتحريمهم على أنفسهم ما من الله به عليهم .

والثمر : بفتح الثاء والميم ، وبضمهما ، وقرئ بهما كما تقدم بيانه في نظيرتها .

والأمر للإباحة بقرينة أن الأكل من حق الإنسان الذي لا يجب عليه [ ص: 120 ] أن يفعله ، فالقرينة ظاهرة ، والمقصود الرد على الذين حجروا على أنفسهم بعض الحرث .

و ( إذا ) مفيدة للتوقيت ؛ لأنها ظرف ؛ أي : حين إثماره ، والمقصود من التقييد بهذا الظرف إباحة الأكل منه عند ظهوره وقبل حصاده تمهيدا لقوله : وآتوا حقه يوم حصاده أي : كلوا منه قبل أداء حقه ، وهذه رخصة ومنة ؛ لأن العزيمة أن لا يأكلوا إلا بعد إعطاء حقه كيلا يستأثروا بشيء منه على أصحاب الحق ، إلا أن رخص للناس في الأكل توسعة عليهم أن يأكلوا منه أخضر قبل يبسه ؛ لأنهم يستطيبونه كذلك ، ولذلك عقبه بقوله : ولا تسرفوا كما سيأتي .

وإفراد الضميرين في قوله : من ثمره إذا أثمر على اعتبار تأويل المعاد بالمذكور .

والأمر في قوله : وآتوا حقه يوم حصاده خطاب خاص بالمؤمنين كما تقدم ، وهذا الأمر ظاهر في الوجوب بقرينة تسمية المأمور به حقا .

وأضيف الحق إلى ضمير المذكور لأدنى ملابسة ؛ أي : الحق الكائن فيه .

وقد أجمل الحق اعتمادا على ما يعرفونه ، وهو : حق الفقير والقربى والضعفاء والجيرة ، فقد كان العرب إذا جذوا ثمارهم أعطوا منها من يحضر من المساكين والقرابة ، وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى : فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين . فلما جاء الإسلام أوجب على المسلمين هذا الحق ، وسماه حقا كما في قوله تعالى : والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم وسماه الله زكاة في آيات كثيرة ولكنه أجمل مقداره وأجمل الأنواع التي فيها الحق ، ووكلهم في ذلك إلى حرصهم على الخير ، وكان هذا قبل شرع نصبها ومقاديرها ، ثم شرعت الزكاة وبينت السنة نصبها ومقاديرها .

[ ص: 121 ] والحصاد - بكسر الحاء وبفتحها - قطع الثمر والحب من أصوله ، وهو مصدر على وزن الفعال أو الفعال ، قال سيبويه جاءوا بالمصادر حين أرادوا انتهاء الزمان على مثال فعال ، وذلك الصرام والجزاز والجداد والقطاع والحصاد ، وربما دخلت اللغة في بعض هذا - أي : اختلفت اللغات فقال بعض القبائل حصاد ؛ بفتح الحاء ، وقال بعضهم حصاد ؛ بكسر الحاء ، فكان فيه فعال وفعال فإذا أرادوا الفعل على فعلت قالوا حصدته حصدا وقطعته قطعا إنما تريد العمل لا انتهاء الغاية .

وقرأه نافع وابن كثير ، وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف بكسر الحاء ، وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر ويعقوب بفتح الحاء .

وقد فرضت الزكاة في ابتداء الإسلام مع فرض الصلاة ، أو بعده بقليل ؛ لأن افتراضها ضروري لإقامة أود الفقراء من المسلمين ، وهم كثيرون في صدر الإسلام ؛ لأن الذين أسلموا قد نبذهم أهلوهم ومواليهم ، وجحدوا حقوقهم ، واستباحوا أموالهم ، فكان من الضروري أن يسد أهل الجدة والقوة من المسلمين خلتهم ، وقد جاء ذكر الزكاة في آيات كثيرة مما نزل بمكة مثل سورة المزمل وسورة البينة ، وهي من أوائل سور القرآن ؛ فالزكاة قرينة الصلاة .

وقول بعض المفسرين : الزكاة فرضت بالمدينة ، يحمل على ضبط مقاديرها بآية خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وهي مدنية ، ثم تطرقوا فمنعوا أن يكون المراد بالحق هنا الزكاة ؛ لأن هذه السور مكية بالاتفاق ، وإنما تلك الآية مؤكدة للوجوب بعد الحلول بالمدينة ، ولأن المراد منها أخذها من المنافقين أيضا ، وإنما ضبطت الزكاة ، ببيان الأنواع المزكاة ومقدار النصب والمخرج منه ، بالمدينة ، فلا ينافي ذلك أن أصل وجوبها في مكة ، وقد حملها مالك على الزكاة المعينة المضبوطة في رواية ابن القاسم [ ص: 122 ] وابن وهب عنه وهو قول ابن عباس ، وأنس بن مالك ، وسعيد بن المسيب ، وجمع من التابعين كثير . ولعلهم يرون الزكاة فرضت ابتداء بتعيين النصب والمقادير ، وحملها ابن عمر ، وابن الحنفية ، وعلي بن الحسين ، وعطاء ، وحماد ، وابن جبير ، ومجاهد على غير الزكاة وجعلوا الأمر للندب ، وحملها السدي ، والحسن ، وعطية العوفي ، والنخعي ، وسعيد بن جبير ، في رواية عنه ، على صدقة واجبة ثم نسختها الزكاة .

وإنما أوجب الله الحق في الثمار والحب يوم الحصاد ؛ لأن الحصاد إنما يراد للادخار وإنما يدخر المرء ما يريده للقوت ، فالادخار هو مظنة الغنى الموجبة لإعطاء الزكاة ، والحصاد مبدأ تلك المظنة ، فالذي ليست له إلا شجرة أو شجرتان فإنما يأكل ثمرها مخضورا قبل أن ييبس ، فلذلك رخصت الشريعة لصاحب الثمرة أن يأكل من الثمر إذا أثمر ، ولم توجب عليه إعطاء حق الفقراء إلا عند الحصاد ، ثم إن حصاد الثمار ، وهو جذاذها ، هو قطعها لادخارها ، وأما حصاد الزرع فهو قطع السنبل من جذور الزرع ثم يفرك الحب الذي في السنبل ليدخر ، فاعتبر ذلك الفرك بقية للحصاد ، ويظهر من هذا أن الحق إنما وجب فيما يحصد من المذكورات مثل الزبيب والتمر والزرع والزيتون ، من زيته أو من حبه ، بخلاف الرمان والفواكه .

وعلى القول المختار فهذه الآية غير منسوخة ، ولكنها مخصصة ومبينة بآيات أخرى وبما يبينه النبيء صلى الله عليه وسلم ، فلا يتعلق بإطلاقها ، وعن السدي أنها نسخت بآية الزكاة يعني : خذ من أموالهم صدقة وقد كان المتقدمون يسمون التخصيص نسخا .

وقوله : ولا تسرفوا عطف على كلوا ؛ أي : كلوا غير مسرفين . والإسراف والسرف : تجاوز الكافي من إرضاء النفس بالشيء المشتهى . وتقدم [ ص: 123 ] عند قوله تعالى : ولا تأكلوها إسرافا في سورة النساء ، وهذا إدماج للنهي عن الإسراف ، وهو نهي إرشاد وإصلاح ؛ أي : لا تسرفوا في الأكل وهذا كقوله : وكلوا واشربوا ولا تسرفوا .

والإسراف إذا اعتاده المرء حمله على التوسع في تحصيل المرغوبات ، فيرتكب لذلك مذمات كثيرة ، وينتقل من ملذة إلى ملذة فلا يقف عند حد .

وقيل عطف على وآتوا حقه أي : ولا تسرفوا فيما بقي بعد إتيان حقه فتنفقوا أكثر مما يجب ، وهذا لا يكون إلا في الإنفاق والأكل ونحوه ، فأما بذله في الخير ونفع الناس فليس من السرف ، ولذلك يعد من خطأ التفسير تفسيرها بالنهي عن الإسراف في الصدقة ، وبما ذكروه أن ثابت بن قيس صرم خمسمائة نخلة وفرق ثمرها كله ولم يدخل منه شيئا إلى منزله ، وأن الآية نزلت بسبب ذلك .

وقوله : إنه لا يحب المسرفين استئناف قصد به تعميم حكم النهي عن الإسراف ، وأكد بـ ( إن ) لزيادة تقرير الحكم ، فبين أن الإسراف من الأعمال التي لا يحبها ، فهو من الأخلاق التي يلزم الانتهاء عنها ، ونفي المحبة مختلف المراتب ، فيعلم أن نفي المحبة يشتد بمقدار قوة الإسراف ، وهذا حكم مجمل وهو ظاهر في التحريم ، وبيان هذا الإجمال هو في مطاوي أدلة أخرى والإجمال مقصود .

ولغموض تأويل هذا النهي وقوله : إنه لا يحب المسرفين تفرقت آراء المفسرين في تفسير معنى الإسراف المنهي عنه ، ليعينوه في إسراف حرام ، حتى قال بعضهم : إنها منسوخة ، وقد علمت المنجى من ذلك كله .

[ ص: 124 ] فوجه عدم محبة الله إياهم أن الإفراط في تناول اللذات والطيبات ، والإكثار من بذل المال في تحصيلها ، يفضي غالبا إلى استنزاف الأموال والشره إلى الاستكثار منها ، فإذا ضاقت على المسرف أمواله تطلب تحصيل المال من وجوه فاسدة ، ليخمد بذلك نهمته إلى اللذات ، فيكون ذلك دأبه ، فربما ضاق عليه ماله ، فشق عليه الإقلاع عن معتاده ، فعاش في كرب وضيق ، وربما تطلب المال من وجوه غير مشروعة ، فوقع فيما يؤاخذ عليه في الدنيا أو في الآخرة ، ثم إن ذلك قد يعقب عياله خصاصة وضنك معيشة ، وينشأ عن ذلك ملام وتوبيخ وخصومات تفضي إلى ما لا يحمد في اختلال نظام العائلة .

فأما كثرة الإنفاق في وجوه البر فإنها لا توقع في مثل هذا ؛ لأن المنفق لا يبلغ فيها مبلغ المنفق لمحبة لذاته ؛ لأن داعي الحكمة قابل للتأمل والتحديد بخلاف داعي الشهوة ، ولذلك قيل في الكلام الذي يصح طردا وعكسا : لا خير في السرف ولا سرف في الخير ، وفي معنى هذه الآية قوله في سورة الأعراف : وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين وقول النبيء صلى الله عليه وسلم ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال .

التالي السابق


الخدمات العلمية