nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11nindex.php?page=treesubj&link=31808_31770_31771_31769_28978ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=13قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين
عطف على جملة :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=10ولقد مكناكم في الأرض تذكيرا بنعمة إيجاد النوع ، وهي نعمة عناية ، لأن الوجود أشرف من العدم ، بقطع النظر عما قد
[ ص: 36 ] يعرض للموجود من الأكدار والمتاعب ، وبنعمة تفضيله على النوع بأن أمر الملائكة بالسجود لأصله ، وأدمج في هذا الامتنان تنبيه وإيقاظ إلى عداوة الشيطان لنوع الإنسان من القدم ، ليكون ذلك تمهيدا للتحذير من وسوسته وتضليله ، وإغراء بالإقلاع عما أوقع فيه الناس من الشرك والضلالة ، وهو غرض السورة ، وذلك عند قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=27يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة وما تلاه من الآيات ، فلذلك كان هذا بمنزلة الاستدلال وسط في خلال الموعظة .
والخطاب للناس كلهم ، والمقصود منه المشركون ، لأنهم الغرض في هذه السورة .
وتأكيد الخبر " باللام " و " قد " للوجه الذي تقدم في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11ولقد خلقناكم ، وتعدية فعلي الخلق والتصوير إلى ضمير المخاطبين ، لما كان على معنى خلق النوع الذي هم من أفراد تعين أن يكون المعنى : خلقنا أصلكم ثم صورناه ، وهو آدم ، كما أفصح عنه قوله : ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم .
والخلق الإيجاد وإبراز الشيء إلى الوجود ، وهذا الإطلاق هو المراد منه عند إسناده إلى الله تعالى أو وصف الله به .
والتصوير جعل الشيء صورة ، والصورة الشكل الذي يشكل به الجسم كما يشكل الطين بصورة نوع من الأنواع .
وعطفت جملة " صورناكم " بحرف ثم الدالة على تراخي رتبة التصوير عن رتبة الخلق ، لأن التصوير حالة كمال في الخلق بأن كان الإنسان على الصورة الإنسانية المتقنة حسنا وشرفا ، بما فيها من مشاعر الإدراك والتدبير ، سواء كان التصوير مقارنا للخلق كما في خلق آدم ، أم كان بعد الخلق بمدة ، كما في تصوير الأجنة من عظام ولحم وعصب وعروق ومشاعر ، كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=14فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما .
[ ص: 37 ] وتعدية فعلي خلقنا و صورنا إلى ضمير الخطاب ينتظم في سلك ما عاد إليه الضمير قبله في قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=10ولقد مكناكم في الأرض الآية فالخطاب للناس كلهم توطئة لقوله فيما يأتي :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=27يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة والمقصود بالخصوص منه المشركون لأنهم الذين سول لهم الشيطان كفران هذه النعم لقوله تعالى عقب ذلك : وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا وقوله فيما تقدم : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون .
وأما تعلق فعلي الخلق والتصوير بضمير المخاطبين فمراد منه أصل نوعهم الأول وهو
آدم بقرينة تعقيبه بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فنزل خلق أصل نوعهم منزلة خلق أفراد النوع الذين منهم المخاطبون ؛ لأن المقصود التذكير بنعمة الإيجاد ليشكروا موجدهم ونظيره قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=11إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية أي حملنا أصولكم وهم الذين كانوا مع
نوح وتناسل منهم الناس بعد الطوفان ، لأن المقصود الامتنان على المخاطبين بإنجاء أصولهم الذين تناسلوا منهم ، ويجوز أن يوؤل فعلا الخلق والتصوير بمعنى إرادة حصول ذلك ، كقوله تعالى حكاية عن كلام الملائكة مع
إبراهيم :
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=35فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين أي أردنا إخراج من كان فيها ، فإن هذا الكلام وقع قبل أمر
لوط ومن آمن به بالخروج من القرية .
ودل قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم على أن المخلوق والمصور هو آدم ، ومعنى الكلام خلقنا أصلكم وصورناه فبرز موجودا معينا مسمى
بآدم ، فإن التسمية طريق لتعين المسمى ، ثم أظهرنا فضله وبديع صنعنا فيه فقلنا للملائكة اسجدوا له فوقع إيجاز بديع في نسج الكلام .
و ثم في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم عاطفة الجملة
[ ص: 38 ] على الجملة فهي مقيدة للتراخي الرتبي لا للتراخي الزماني وذلك أن مضمون الجملة المعطوفة هنا أرقى رتبة من مضمون الجملة المعطوف عليها .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ، تقدم تفسيره ، وبيان ما تقدم : أمر الله الملائكة بالسجود
لآدم ، من ظهور فضل ما علمه الله من الأسماء ما لم يعلمه الملائكة ، عند قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس في سورة البقرة .
وتعريف الملائكة للجنس فلا يلزم أن يكون الأمر عاما لجميع الملائكة ، بل يجوز أن يكون المأمورون هم الملائكة ، الذين كانوا في المكان الذي خلق فيه
آدم ، ونقل ذلك عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، ويحتمل الاستغراق لجميع الملائكة . وطريق أمرهم جميعا وسجودهم جميعا
لآدم لا يعلمه إلا الله ، لأن طرق علمهم بمراد الله عنهم في العالم العلوي لا تقاس على المألوف في عالم الأرض .
واعلم أن
nindex.php?page=treesubj&link=31770_31771أمر الله الملائكة بالسجود لآدم لا يقتضي أن يكون
nindex.php?page=treesubj&link=31808آدم قد خلق في العالم الذي فيه الملائكة بل ذلك محتمل ، ويحتمل أن الله لما خلق
آدم حشر الملائكة ، وأطلعهم على هذا الخلق العجيب ، فإن الملائكة ينتقلون من مكان إلى مكان فالآية ليست نصا في أن
آدم خلق في السماوات ولا أنه في الجنة التي هي دار الثواب والعقاب ، وإن كان ظاهرها يقتضي ذلك ، وبهذا الظاهر أخذ جمهور أهل السنة ، وتقدم ذلك في سورة البقرة . واستثناء إبليس من الساجدين في قوله : " إلا إبليس " يدل على أنه كان في عداد الملائكة لأنه كان مختلطا بهم . وقال
السكاكي في المفتاح عد إبليس من الملائكة بحكم التغليب .
وجملة :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11لم يكن من الساجدين حال من إبليس ، وهي حال مؤكدة لمضمون عاملها وهو ما دلت عليه الاستثناء ، لما فيها من معنى :
[ ص: 39 ] أستثني ، لأن الاستثناء يقتضي ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى ، وهو عين مدلول :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11لم يكن من الساجدين فكانت الحال تأكيدا . وفي اختيار الإخبار عن نفي سجوده بجعله من غير الساجدين ، إشارة إلى أنه انتفى عنه السجود انتفاء شديدا لأن قولك لم يكن فلان من المهتدين يفيد من النفي أشد مما يفيده قولك لم يكن مهتديا كما في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=56قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين في سورة الأنعام .
ففي الآية إشارة إلى أن
nindex.php?page=treesubj&link=31765الله تعالى خلق في نفس إبليس جبلة تدفعه إلى العصيان عندما لا يوافق الأمر هواه ، وجعل له هوى ورأيا ، فكانت جبلته مخالفة لجبلة الملائكة . وإنما استمر في عداد الملائكة لأنه لم يحدث من الأمر ما يخالف هواه ، فلما حدث الأمر بالسجود ظهر خلق العصيان الكامن فيه ، فكان قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11لم يكن من الساجدين إشارة إلى أنه لم يقدر له أن يكون من الطائفة الساجدين ، أي انتفى سجوده انتفاء لإرجاء في حصوله بعد ، وقد علم أنه أبى السجود إباء وذلك تمهيدا لحكاية السؤال والجواب في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك .
وجملة :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ابتداء المحاورة ، لأن ترك إبليس السجود
لآدم بمنزلة جواب عن قول الله : اسجدوا
لآدم ، فكان بحيث يتوجه إليه استفسار عن سبب تركه السجود ، وضمير " قال " عائد إلى معلوم من المقام أي قال الله تعالى بقرينة قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11ثم قلنا للملائكة اسجدوا ، وكان مقتضى الظاهر أن يقال : قلنا ، فكان العدول إلى ضمير الغائب التفاتا ، نكتته تحويل مقام الكلام ، إذ كان المقام مقام أمر للملائكة ومن في زمرتهم فصار مقام توبيخ لإبليس خاصة .
و ما للاستفهام ، وهو استفهام ظاهره حقيقي ، ومشوب بتوبيخ ، والمقصود من الاستفهام إظهار مقصد إبليس للملائكة .
و " منعك " معناه صدك وكفك عن السجود فكان مقتضى الظاهر أن يقال :
[ ص: 40 ] ما منعك أن تسجد ؛ لأنه إنما كف عن السجود لا عن نفي السجود فقد قال تعالى في الآية الأخرى :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=75ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ، فلذلك كان ذكر لا هنا على خلاف مقتضى الظاهر ، فقيل هي مزيدة للتأكيد ، ولا تفيد نفيا ، لأن الحرف المزيد للتأكيد لا يفيد معنى غير التأكيد . و " لا " من جملة الحروف التي يؤكد بها الكلام كما في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=90&ayano=1لا أقسم بهذا البلد وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=29لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله أي ليعلم أهل الكتاب علما محققا . وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=95وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون أي ممنوع أنهم يرجعون منعا محققا ، وهذا تأويل
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي ،
nindex.php?page=showalam&ids=14888والفراء ،
nindex.php?page=showalam&ids=14416والزجاج ،
nindex.php?page=showalam&ids=14423والزمخشري ، وفي توجيه معنى التأكيد إلى الفعل مع كون السجود غير واقع فلا ينبغي تأكيده خفاء لأن التوكيد تحقيق حصول الفعل المؤكد ، فلا ينبغي التعويل على هذا التأويل .
وقيل لا نافية ، ووجودها يؤذن بفعل مقدر دل عليه " منعك " لأن المانع من شيء يدعو لضده ، فكأنه قيل : ما منعك أن تسجد فدعاك إلى أن لا تسجد ، فإما أن يكون منعك مستعملا في معنى دعاك ، على سبيل المجاز ، و " لا " هي قرينة المجاز ، وهذا تأويل
السكاكي في المفتاح في فصل المجاز اللغوي ، وقريب منه
لعبد الجبار فيما نقله
الفخر عنه ، وهو أحسن تأويلا ، وإما أن يكون قد أريد الفعلان ، فذكر أحدهما وحذف الآخر ، وأشير إلى المحذوف بمتعلقة الصالح له فيكون من إيجاز الحذف ، وهو اختيار
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري ومن تبعه .
وانظر ما قلته عند قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=92قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=93ألا تتبعني في سورة طه .
وقوله " إذ أمرتك " ظرف لـ " تسجد " وتعليق ضميره بالأمر يقتضي أن أمر الملائكة شامل له ، إما لأنه صنف من الملائكة ، فخلق الله إبليس أصلا
[ ص: 41 ] للجن ليجعل منه صنفا متميزا عن بقية الملائكة بقبوله للمعصية ، وهذا هو ظاهر القرآن ، وإليه ذهب كثير من الفقهاء ، وقد قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=50إلا إبليس كان من الجن الآية ، وإما لأن الجن نوع آخر من المجردات ، وإبليس أصل ذلك النوع ، جعله الله في عداد الملائكة ، فكان أمرهم شاملا له بناء على أن الملائكة خلقوا من النور وأن الجن خلقوا من النار . وفي صحيح
مسلم ، عن
عائشة - رضي الله عنها - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341779خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وإلى هذا ذهب
المعتزلة وبعض
الأشاعرة ، وقد يكون المراد من النار نورا مخلوطا بالمادة ، ويكون المراد بالنور نورا مجردا ، فيكون الجن نوعا من جنس الملائكة أحط ، كما كان الإنسان نوعا من جنس الحيوان أرقى .
وفصل :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12قال أنا خير منه لوقوعه على طريقة المحاورات .
وبين مانعه من السجود بأنه رأى نفسه خيرا من
آدم ، فلم يمتثل لأمر الله تعالى إياه بالسجود
لآدم ، وهذا معصية صريحة ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12أنا خير منه مسوق مساق التعليل للامتناع ولذلك حذف منه اللام .
وجملة :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12خلقتني من نار بيان لجملة :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12أنا خير منه فلذلك فصلت ، لأنها بمنزلة عطف البيان من المبين .
وحصل لإبليس العلم بكونه مخلوقا من نار ، بإخبار من الملائكة الذين شهدوا خلقه ، أو بإخبار من الله تعالى .
وكونه مخلوقا من النار ثابت قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=14خلق الإنسان من صلصال كالفخار nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=15وخلق الجان من مارج من نار وإبليس من جنس الجن قال تعالى في سورة الكهف :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=50فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه .
واستند في تفضيل نفسه إلى فضيلة العنصر الذي خلق منه على العنصر الذي خلق منه
آدم .
[ ص: 42 ] والنار هي الحرارة البالغة لشدتها الالتهاب الكائنة في الأجسام المصهورة بأصل الخلقة ، كالنار التي في الشمس ، وإذا بلغت الحرارة الالتهاب عرضت النارية للجسم من معدن أو نبات أو تراب مثل النار الباقية في الرماد .
والنار أفضل من التراب لقوة تأثيرها وتسلطها على الأجسام التي تلاقيها ، ولأنها تضيء ، ولأنها زكية لا تلصق بها الأقذار ، والتراب لا يشاركها في ذلك وقد اشتركا في أن كليهما تتكون منه الأجسام الحية كلها .
وأما النور الذي خلق منه الملك فهو أخلص من الشعاع الذي يبين من النار مجردا عن ما في النار من الأخلاط الجثمانية .
والطين التراب المختلط بالماء ، والماء عنصر آخر تتوقف عليه الحياة الحيوانية مع النار والتراب ، وظاهر القرآن في آيات هذه القصة كلها أن
nindex.php?page=treesubj&link=31766_31752شرف النار على التراب مقرر ، وأن إبليس أوخذ بعصيان أمر الله عصيانا باتا ، والله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود
لآدم قد علم استحقاق
آدم ذلك بما أودع الله فيه من القوة التي قد تبلغ به إلى مبلغ الملائكة في الزكاء والتقديس ، فأما إبليس فغره زكاء عنصره وذلك ليس كافيا في التفضيل وحده ، ما لم يكن كيانه من ذلك العنصر مهيئا إياه لبلوغ الكمالات ، لأن العبرة بكيفية التركيب واعتبار خصائص المادة المركب منها بعد التركيب ، بحسب مقصد الخالق عند التركيب ، ولا عبرة بحالة المادة المجردة ، فالله تعالى ركب إبليس من عنصر النار على هيئة تجعله يستخدم آثار القوة العنصرية في الفساد ، والاندفاع إليه بالطبع دون نظر ، بحسب خصائص المادة المركب هو منها ، وركب
آدم من عنصر التراب على هيئة تجعله يستخدم آثار القوة العنصرية في الخير والصلاح ، والاندفاع إلى ازدياد الكمال بمحض الاختيار والنظر ، بحسب ما تسمح به خصائص المادة المركب هو منها ، وكل ذلك منوط بحكمة الخالق للتركيب ، وركب الملائكة من عنصر النور على هيئة تجعلهم يستخدمون قواهم العنصرية في الخيرات المحضة ، والاندفاع
[ ص: 43 ] إلى ذلك بالطبع دون اختيار ولا نظر ، بحسب خصائص عنصرهم . ولذلك كان بلوغ الإنسان إلى الفضائل الملكية أعلى وأعجب ، وكان مبلغه إلى الرذائل الشيطانية أحط وأسهل . ومن أجل ذلك خوطب بالتكليف .
ولأجل هذا المعنى أمر الله الملائكة بالسجود
لآدم أصل النوع البشري لأنه سجود اعتراف لله تعالى بمظهر قدرته العظيمة ، وأمر إبليس بالسجود له كذلك ، فأما الملائكة فامتثلوا أمر الله ولم يعلموا حكمته ، وانتظروا البيان ، كما حكى عنهم بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=32قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم فجاءهم البيان مجملا بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30إني أعلم ما لا تعلمون ثم مفصلا بقصة قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=31ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين إلى قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=33وما كنتم تكتمون . في سورة البقرة .
وقد عاقبه الله على عصيانه بإخراجه من المكان الذي كان فيه في اعتلاء وهو السماء . وأحل الملائكة فيه . وجعله مكانا مقدسا فاضلا على الأرض فإن ذلك كله بجعل آلهي بإفاضة الأنوار وملازمة الملائكة ، فقال له :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=13فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها .
والتعبير بالهبوط إما حقيقة إن كان المكان عاليا ، وإما استعارة للبعد عن المكان المشرف . بتشبيه البعد عنه بالنزول من مكان مرتفع وقد تقدم ذلك في سورة البقرة .
والفاء في جملة : فاهبط لترتيب الأمر بالهبوط على جواب إبليس ، فهو من عطف كلام متكلم على كلام متكلم آخر ، لأن الكلامين بمنزلة الكلام الواحد في مقام المحاورة ، كالعطف الذي في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=124قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي .
والفاء دالة على أن أمره بالهبوط مسبب عن جوابه .
وضمير المؤنث المجرور بمن في قوله : منها عائد على المعلوم بين
[ ص: 44 ] المتكلم والمخاطب ، وتأنيثه إما رعي لمعناه بتأويل البقعة ، أو للفظ السماء لأنها مكان الملائكة ، وقد تكرر في القرآن ذكر هذا الضمير بالتأنيث .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=13فما يكون لك أن تتكبر فيها الفاء للسببية والتفريع تعليلا للأمر بالهبوط ، وهو عقوبة خاصة عقوبة إبعاد عن المكان المقدس ، لأنه قد صار خلقه غير ملائم لما جعل الله ذلك المكان له ، وذلك خلق التكبر لأن المكان كان مكانا مقدسا فاضلا لا يكون إلا مطهرا من كل ما له وصف ينافيه وهذا مبدأ حاوله الحكماء الباحثون عن المدينة الفاضلة وقد قال
مالك - رحمه الله : لا تحدثوا بدعة في بلدنا . وهذه الآية أصل في ثبوت الحق لأهل المحلة أن يخرجوا من محلتهم من يخشى من سيرته فشو الفساد بينهم .
ودل قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=13فما يكون لك على أن ذلك الوصف لا يغتفر منه ، لأن النفي بصيغة ما يكون لك كذا أشد من النفي بـ ( ليس لك كذا ) كما تقدم عند قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=79ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب الآية في آل عمران ، وهو يستلزم هنا نهيا لأنه نفاه عنه مع وقوعه ، وعليه فتقييد نفي التكبر عنه بالكون في السماء لوقوعه علة للعقوبة الخاصة وهي عقوبة الطرد من السماء ، فلا دلالة لذلك القيد على أنه يكون له أن يتكبر في غيرها ، وكيف وقد علم أن التكبر معصية لا تليق بأهل العالم العلوي .
وقوله : " فأخرج " تأكيد لجملة " فاهبط " بمرادفها ، وأعيدت الفاء مع الجملة الثانية لزيادة تأكيد تسبب الكبر في إخراجه من الجنة .
وجملة :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=13إنك من الصاغرين يجوز أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا ، إذا كان المراد من الخبر الإخبار عن تكوين الصغار فيه بجعل الله تعالى إياه صاغرا حقيرا حيثما حل ، ففصلها عن التي قبلها للاستئناف ، ويجوز أن تكون واقعة موقع التعليل للإخراج على طريقة استعمال إن في مثل هذا
[ ص: 45 ] المقام استعمال فاء التعليل ، فهذا إذا كان المراد من الخبر إظهار ما فيه من الصغار والحقارة التي غفل عنها فذهبت به الغفلة عنها إلى التكبر .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=13إنك من الصاغرين أشد في إثبات الصغار له من نحو : إنك صاغر ، أو قد صغرت ، كما تقدم في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=56قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين . في سورة الأنعام وقوله آنفا :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11لم يكن من الساجدين . والصاغر المتصف بالصغار وهو الذل والحقارة ، وإنما يكون له الصغار عند الله لأن جبلته صارت على غير ما يرضي الله ، وهو صغار الغواية ، ولذلك قال بعد هذا : فبما أغويتني .
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11nindex.php?page=treesubj&link=31808_31770_31771_31769_28978وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=13قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=10وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ تَذْكِيرًا بِنِعْمَةِ إِيجَادِ النَّوْعِ ، وَهِيَ نِعْمَةُ عِنَايَةٍ ، لِأَنَّ الْوُجُودَ أَشْرَفُ مِنَ الْعَدَمِ ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا قَدْ
[ ص: 36 ] يَعْرِضُ لِلْمَوْجُودِ مِنَ الْأَكْدَارِ وَالْمَتَاعِبِ ، وَبِنِعْمَةِ تَفْضِيلِهِ عَلَى النَّوْعِ بِأَنْ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِأَصِلِهِ ، وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الِامْتِنَانِ تَنْبِيهٌ وَإِيقَاظٌ إِلَى عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْقِدَمِ ، لِيَكُونَ ذَلِكَ تَمْهِيدًا لِلتَّحْذِيرِ مِنْ وَسْوَسَتِهِ وَتَضْلِيلِهِ ، وَإِغْرَاءً بِالْإِقْلَاعِ عَمَّا أَوْقَعَ فِيهِ النَّاسَ مِنَ الشِّرْكِ وَالضَّلَالَةِ ، وَهُوَ غَرَضُ السُّورَةِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=27يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَا تَلَاهُ مِنَ الْآيَاتِ ، فَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِدْلَالِ وُسِّطَ فِي خِلَالِ الْمَوْعِظَةِ .
وَالْخِطَابُ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ ، لِأَنَّهُمُ الْغَرَضُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ .
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ " بِاللَّامِ " وَ " قَدْ " لِلْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ، وَتَعْدِيَةُ فِعْلَيِ الْخَلْقِ وَالتَّصْوِيرِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ ، لِمَا كَانَ عَلَى مَعْنَى خَلْقِ النَّوْعِ الَّذِي هُمْ مِنْ أَفْرَادٍ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى : خَلَقْنَا أَصْلَكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاهُ ، وَهُوَ آدَمُ ، كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ قَوْلُهُ : ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ .
وَالْخَلْقُ الْإِيجَادُ وَإِبْرَازُ الشَّيْءِ إِلَى الْوُجُودِ ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ عِنْدَ إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ وَصْفِ اللَّهِ بِهِ .
وَالتَّصْوِيرُ جَعْلُ الشَّيْءِ صُورَةً ، وَالصُّورَةُ الشَّكْلُ الَّذِي يُشَكَّلُ بِهِ الْجِسْمُ كَمَا يُشَكَّلُ الطِّينُ بِصُورَةِ نَوْعٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ .
وَعُطِفَتْ جُمْلَةُ " صَوَّرْنَاكُمْ " بِحَرْفِ ثُمَّ الدَّالَّةِ عَلَى تَرَاخِي رُتْبَةِ التَّصْوِيرِ عَنْ رُتْبَةِ الْخَلْقِ ، لِأَنَّ التَّصْوِيرَ حَالَةُ كَمَالٍ فِي الْخَلْقِ بِأَنْ كَانَ الْإِنْسَانُ عَلَى الصُّورَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْمُتْقَنَةِ حُسْنًا وَشَرَفًا ، بِمَا فِيهَا مِنْ مَشَاعِرِ الْإِدْرَاكِ وَالتَّدْبِيرِ ، سَوَاءٌ كَانَ التَّصْوِيرُ مُقَارِنًا لِلْخَلْقِ كَمَا فِي خَلْقِ آدَمَ ، أَمْ كَانَ بَعْدَ الْخَلْقِ بِمُدَّةٍ ، كَمَا فِي تَصْوِيرِ الْأَجِنَّةِ مِنْ عِظَامٍ وَلَحْمٍ وَعَصَبٍ وَعُرُوقٍ وَمَشَاعِرَ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=14فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا .
[ ص: 37 ] وَتَعْدِيَةُ فِعْلَيْ خَلَقْنَا وَ صَوَّرْنَا إِلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ يَنْتَظِمُ فِي سِلْكِ مَا عَادَ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=10وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ فَالْخِطَابُ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ فِيمَا يَأْتِي :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=27يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَالْمَقْصُودُ بِالْخُصُوصِ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ سَوَّلَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ كُفْرَانَ هَذِهِ النِّعَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى عَقِبَ ذَلِكَ : وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَقَوْلُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ : اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ .
وَأَمَّا تَعَلُّقُ فِعْلَيِ الْخَلْقِ وَالتَّصْوِيرِ بِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ فَمُرَادٌ مِنْهُ أَصْلُ نَوْعِهِمُ الْأَوَّلِ وَهُوَ
آدَمُ بِقَرِينَةِ تَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَنُزِّلَ خَلْقُ أَصْلِ نَوْعِهِمْ مَنْزِلَةَ خَلْقِ أَفْرَادِ النَّوْعِ الَّذِينَ مِنْهُمُ الْمُخَاطَبُونَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّذْكِيرُ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ لِيَشْكُرُوا مُوجِدَهُمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=11إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ أَيْ حَمَلْنَا أُصُولَكُمْ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ
نُوحٍ وَتَنَاسَلَ مِنْهُمُ النَّاسُ بَعْدَ الطُّوفَانِ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِامْتِنَانُ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ بِإِنْجَاءِ أُصُولِهِمُ الَّذِينَ تَنَاسَلُوا مِنْهُمْ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُوَؤَّلَ فِعْلَا الْخَلْقِ وَالتَّصْوِيرِ بِمَعْنَى إِرَادَةِ حُصُولِ ذَلِكَ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ مَعَ
إِبْرَاهِيمَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=35فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ أَرَدْنَا إِخْرَاجَ مَنْ كَانَ فِيهَا ، فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَقَعَ قَبْلَ أَمْرِ
لُوطٍ وَمَنْ آمَنَ بِهِ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْقَرْيَةِ .
وَدَلَّ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ عَلَى أَنَّ الْمَخْلُوقَ وَالْمُصَوَّرَ هُوَ آدَمُ ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ خَلَقْنَا أَصْلَكُمْ وَصَوَّرْنَاهُ فَبَرَزَ مَوْجُودًا مُعَيَّنًا مُسَمًّى
بِآدَمَ ، فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ طَرِيقٌ لِتَعَيُّنِ الْمُسَمَّى ، ثُمَّ أَظْهَرْنَا فَضْلَهُ وَبَدِيعَ صُنْعِنَا فِيهِ فَقُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لَهُ فَوَقَعَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ فِي نَسْجِ الْكَلَامِ .
وَ ثُمَّ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ عَاطِفَةٌ الْجُمْلَةَ
[ ص: 38 ] عَلَى الْجُمْلَةِ فَهِيَ مُقَيِّدَةٌ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لَا لِلتَّرَاخِي الزَّمَانِيِّ وَذَلِكَ أَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ هُنَا أَرْقَى رُتْبَةً مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ، تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ ، وَبَيَانُ مَا تَقَدَّمَ : أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ
لِآدَمَ ، مِنْ ظُهُورِ فَضْلِ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ مَا لَمْ يُعَلِّمْهُ الْمَلَائِكَةَ ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
وَتَعْرِيفُ الْمَلَائِكَةِ لِلْجِنْسِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَامًّا لِجَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُونَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ ، الَّذِينَ كَانُوا فِي الْمَكَانِ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ
آدَمُ ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَيُحْتَمَلُ الِاسْتِغْرَاقُ لِجَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ . وَطَرِيقُ أَمْرِهِمْ جَمِيعًا وَسُجُودِهِمْ جَمِيعًا
لِآدَمَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ ، لِأَنَّ طُرُقَ عِلْمِهِمْ بِمُرَادِ اللَّهِ عَنْهُمْ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ لَا تُقَاسُ عَلَى الْمَأْلُوفِ فِي عَالَمِ الْأَرْضِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31770_31771أَمْرَ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ
nindex.php?page=treesubj&link=31808آدَمُ قَدْ خُلِقَ فِي الْعَالَمِ الَّذِي فِيهِ الْمَلَائِكَةُ بَلْ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ
آدَمَ حَشَرَ الْمَلَائِكَةَ ، وَأَطْلَعَهُمْ عَلَى هَذَا الْخَلْقِ الْعَجِيبِ ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَنْتَقِلُونَ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ فَالْآيَةُ لَيْسَتْ نَصًّا فِي أَنَّ
آدَمَ خُلِقَ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا يَقْتَضِي ذَلِكَ ، وَبِهَذَا الظَّاهِرِ أَخَذَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ . وَاسْتِثْنَاءُ إِبْلِيسَ مِنَ السَّاجِدِينَ فِي قَوْلِهِ : " إِلَّا إِبْلِيسَ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي عِدَادِ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُ كَانَ مُخْتَلِطًا بِهِمْ . وَقَالَ
السَّكَّاكِيُّ فِي الْمِفْتَاحِ عُدَّ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِحُكْمِ التَّغْلِيبِ .
وَجُمْلَةُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ حَالٌ مِنْ إِبْلِيسَ ، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ عَامِلِهَا وَهُوَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ ، لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى :
[ ص: 39 ] أُسْتُثْنِيَ ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ نَقِيضِ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لِلْمُسْتَثْنَى ، وَهُوَ عَيْنُ مَدْلُولِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ فَكَانَتِ الْحَالُ تَأْكِيدًا . وَفِي اخْتِيَارِ الْإِخْبَارِ عَنْ نَفْيِ سُجُودِهِ بِجَعْلِهِ مِنْ غَيْرِ السَّاجِدِينَ ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ انْتَفَى عَنْهُ السُّجُودُ انْتِفَاءً شَدِيدًا لِأَنَّ قَوْلَكَ لَمْ يَكُنْ فُلَانٌ مِنَ الْمُهْتَدِينَ يُفِيدُ مِنَ النَّفْيِ أَشَدَّ مِمَّا يُفِيدُهُ قَوْلُكُ لَمْ يَكُنْ مُهْتَدِيًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=56قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ .
فَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31765اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ جِبِلَّةً تَدْفَعُهُ إِلَى الْعِصْيَانِ عِنْدَمَا لَا يُوَافِقُ الْأَمْرُ هَوَاهُ ، وَجَعَلَ لَهُ هَوًى وَرَأْيًا ، فَكَانَتْ جِبِلَّتُهُ مُخَالِفَةً لِجِبِلَّةِ الْمَلَائِكَةِ . وَإِنَّمَا اسْتَمَرَّ فِي عِدَادِ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ مِنَ الْأَمْرِ مَا يُخَالِفُ هَوَاهُ ، فَلَمَّا حَدَثَ الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ ظَهَرَ خُلُقُ الْعِصْيَانِ الْكَامِنُ فِيهِ ، فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الطَّائِفَةِ السَّاجِدِينَ ، أَيِ انْتَفَى سُجُودُهُ انْتِفَاءً لِإِرْجَاءٍ فِي حُصُولِهِ بَعْدُ ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ أَبَى السُّجُودَ إِبَاءً وَذَلِكَ تَمْهِيدًا لِحِكَايَةِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ .
وَجُمْلَةُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ابْتِدَاءُ الْمُحَاوَرَةِ ، لِأَنَّ تَرْكَ إِبْلِيسَ السُّجُودَ
لِآدَمَ بِمَنْزِلَةِ جَوَابٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ : اسْجُدُوا
لِآدَمَ ، فَكَانَ بِحَيْثُ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ اسْتِفْسَارٌ عَنْ سَبَبِ تَرْكِهِ السُّجُودَ ، وَضَمِيرُ " قَالَ " عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ أَيْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا ، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ : قُلْنَا ، فَكَانَ الْعُدُولُ إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ الْتِفَاتًا ، نُكْتَتُهُ تَحْوِيلُ مَقَامِ الْكَلَامِ ، إِذْ كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ أَمْرٍ لِلْمَلَائِكَةِ وَمَنْ فِي زُمْرَتِهِمْ فَصَارَ مَقَامَ تَوْبِيخٍ لِإِبْلِيسَ خَاصَّةً .
وَ مَا لِلِاسْتِفْهَامِ ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ ظَاهِرُهُ حَقِيقِيٌّ ، وَمَشُوبٌ بِتَوْبِيخٍ ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ إِظْهَارُ مَقْصِدِ إِبْلِيسَ لِلْمَلَائِكَةِ .
وَ " مَنَعَكَ " مَعْنَاهُ صَدَّكَ وَكَفَّكَ عَنِ السُّجُودِ فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ :
[ ص: 40 ] مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَفَّ عَنِ السُّجُودِ لَا عَنْ نَفْيِ السُّجُودِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=75مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ، فَلِذَلِكَ كَانَ ذِكْرُ لَا هُنَا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ ، فَقِيلَ هِيَ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ ، وَلَا تُفِيدُ نَفْيًا ، لِأَنَّ الْحَرْفَ الْمَزِيدَ لِلتَّأْكِيدِ لَا يُفِيدُ مَعْنًى غَيْرَ التَّأْكِيدِ . وَ " لَا " مِنْ جُمْلَةِ الْحُرُوفِ الَّتِي يُؤَكَّدُ بِهَا الْكَلَامُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=90&ayano=1لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=29لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَيْ لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ عِلْمًا مُحَقَّقًا . وَقَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=95وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ أَيْ مَمْنُوعٌ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ مَنْعًا مُحَقَّقًا ، وَهَذَا تَأْوِيلُ
nindex.php?page=showalam&ids=15080الْكِسَائِيِّ ،
nindex.php?page=showalam&ids=14888وَالْفَرَّاءِ ،
nindex.php?page=showalam&ids=14416وَالزَّجَّاجِ ،
nindex.php?page=showalam&ids=14423وَالزَّمَخْشَرِيِّ ، وَفِي تَوْجِيهِ مَعْنَى التَّأْكِيدِ إِلَى الْفِعْلِ مَعَ كَوْنِ السُّجُودِ غَيْرَ وَاقِعٍ فَلَا يَنْبَغِي تَأْكِيدُهُ خَفَاءً لِأَنَّ التَّوْكِيدَ تَحْقِيقُ حُصُولِ الْفِعْلِ الْمُؤَكَّدِ ، فَلَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ .
وَقِيلَ لَا نَافِيَةٌ ، وَوُجُودُهَا يُؤْذِنُ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ " مَنَعَكَ " لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ شَيْءٍ يَدْعُو لِضِدِّهِ ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ : مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ فَدَعَاكَ إِلَى أَنْ لَا تَسْجُدَ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنَعَكَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى دَعَاكَ ، عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ ، وَ " لَا " هِيَ قَرِينَةُ الْمَجَازِ ، وَهَذَا تَأْوِيلُ
السَّكَّاكِيِّ فِي الْمِفْتَاحِ فِي فَصْلِ الْمَجَازِ اللُّغَوِيِّ ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ
لِعَبْدِ الْجَبَّارِ فِيمَا نَقَلَهُ
الْفَخْرُ عَنْهُ ، وَهُوَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أُرِيدَ الْفِعْلَانِ ، فَذُكِرَ أَحَدُهُمَا وَحُذِفَ الْآخَرُ ، وَأُشِيرَ إِلَى الْمَحْذُوفِ بِمُتَعَلِّقَةِ الصَّالِحِ لَهُ فَيَكُونُ مِنْ إِيجَازِ الْحَذْفِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطَّبَرِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ .
وَانْظُرْ مَا قُلْتُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=92قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=93أَلَّا تَتَّبِعَنِي فِي سُورَةِ طه .
وَقَوْلُهُ " إِذْ أَمَرْتُكَ " ظَرْفٌ لِـ " تَسْجُدَ " وَتَعْلِيقُ ضَمِيرِهِ بِالْأَمْرِ يَقْتَضِي أَنَّ أَمْرَ الْمَلَائِكَةِ شَامِلٌ لَهُ ، إِمَّا لِأَنَّهُ صِنْفٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ، فَخَلَقَ اللَّهُ إِبْلِيسَ أَصْلًا
[ ص: 41 ] لِلْجِنِّ لِيَجْعَلَ مِنْهُ صِنْفًا مُتَمَيِّزًا عَنْ بَقِيَّةِ الْمَلَائِكَةِ بِقَبُولِهِ لِلْمَعْصِيَةِ ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=50إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ الْآيَةَ ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْجِنَّ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْمُجَرَّدَاتِ ، وَإِبْلِيسُ أَصْلُ ذَلِكَ النَّوْعِ ، جَعَلَهُ اللَّهُ فِي عِدَادِ الْمَلَائِكَةِ ، فَكَانَ أَمْرُهُمْ شَامِلًا لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ خُلِقُوا مِنَ النُّورِ وَأَنَّ الْجِنَّ خُلِقُوا مِنَ النَّارِ . وَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ ، عَنْ
عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341779خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ
الْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ
الْأَشَاعِرَةِ ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ النَّارِ نُورًا مَخْلُوطًا بِالْمَادَّةِ ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالنُّورِ نُورًا مُجَرَّدًا ، فَيَكُونُ الْجِنُّ نَوْعًا مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ أَحَطَّ ، كَمَا كَانَ الْإِنْسَانُ نَوْعًا مِنْ جِنْسِ الْحَيَوَانِ أَرْقَى .
وَفُصِلَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ لِوُقُوعِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ .
وَبَيَّنَ مَانِعَهُ مِنَ السُّجُودِ بِأَنَّهُ رَأَى نَفْسَهُ خَيْرًا مِنْ
آدَمَ ، فَلَمْ يَمْتَثِلْ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِالسُّجُودِ
لِآدَمَ ، وَهَذَا مَعْصِيَةٌ صَرِيحَةٌ ، وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ لِلِامْتِنَاعِ وَلِذَلِكَ حُذِفَ مِنْهُ اللَّامُ .
وَجُمْلَةُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ ، لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ عَطْفِ الْبَيَانِ مِنَ الْمُبَيَّنِ .
وَحَصَلَ لِإِبْلِيسَ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مَخْلُوقًا مِنْ نَارٍ ، بِإِخْبَارٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا خَلْقَهُ ، أَوْ بِإِخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَكَوْنُهُ مَخْلُوقًا مِنَ النَّارِ ثَابِتٌ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=14خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=15وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَإِبْلِيسُ مِنْ جِنْسِ الْجِنِّ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=50فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ .
وَاسْتَنَدَ فِي تَفْضِيلِ نَفْسِهِ إِلَى فَضِيلَةِ الْعُنْصُرِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ عَلَى الْعُنْصُرِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ
آدَمُ .
[ ص: 42 ] وَالنَّارُ هِيَ الْحَرَارَةُ الْبَالِغَةُ لِشِدَّتِهَا الِالْتِهَابَ الْكَائِنَةُ فِي الْأَجْسَامِ الْمَصْهُورَةِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ ، كَالنَّارِ الَّتِي فِي الشَّمْسِ ، وَإِذَا بَلَغَتِ الْحَرَارَةُ الِالْتِهَابَ عَرَضَتِ النَّارِيَّةُ لِلْجِسْمِ مِنْ مَعْدِنٍ أَوْ نَبَاتٍ أَوْ تُرَابٍ مِثْلُ النَّارِ الْبَاقِيَةِ فِي الرَّمَادِ .
وَالنَّارُ أَفْضَلُ مِنَ التُّرَابِ لِقُوَّةِ تَأْثِيرِهَا وَتَسَلُّطِهَا عَلَى الْأَجْسَامِ الَّتِي تُلَاقِيهَا ، وَلِأَنَّهَا تُضِيءُ ، وَلِأَنَّهَا زَكِيَّةٌ لَا تَلْصَقُ بِهَا الْأَقْذَارُ ، وَالتُّرَابُ لَا يُشَارِكُهَا فِي ذَلِكَ وَقَدِ اشْتَرَكَا فِي أَنَّ كِلَيْهِمَا تَتَكَوَّنُ مِنْهُ الْأَجْسَامُ الْحَيَّةُ كُلُّهَا .
وَأَمَّا النُّورُ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ الْمَلَكُ فَهُوَ أَخْلَصُ مِنَ الشُّعَاعِ الَّذِي يُبَيِّنُ مِنَ النَّارِ مُجَرَّدًا عَنْ مَا فِي النَّارِ مِنَ الْأَخْلَاطِ الْجُثْمَانِيَّةِ .
وَالطِّينُ التُّرَابُ الْمُخْتَلِطُ بِالْمَاءِ ، وَالْمَاءُ عُنْصُرٌ آخَرُ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْحَيَاةُ الْحَيَوَانِيَّةُ مَعَ النَّارِ وَالتُّرَابِ ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي آيَاتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ كُلِّهَا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31766_31752شَرَفَ النَّارِ عَلَى التُّرَابِ مُقَرَّرٌ ، وَأَنَّ إِبْلِيسَ أُوخِذَ بِعِصْيَانِ أَمْرِ اللَّهِ عِصْيَانًا بَاتًّا ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ
لِآدَمَ قَدْ عَلِمَ اسْتِحْقَاقَ
آدَمَ ذَلِكَ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ الَّتِي قَدْ تَبْلُغُ بِهِ إِلَى مَبْلَغِ الْمَلَائِكَةِ فِي الزَّكَاءِ وَالتَّقْدِيسِ ، فَأَمَّا إِبْلِيسُ فَغَرَّهُ زَكَاءُ عُنْصُرِهِ وَذَلِكَ لَيْسَ كَافِيًا فِي التَّفْضِيلِ وَحْدَهُ ، مَا لَمْ يَكُنْ كِيَانُهُ مِنْ ذَلِكَ الْعُنْصُرِ مُهَيِّئًا إِيَّاهُ لِبُلُوغِ الْكَمَالَاتِ ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِكَيْفِيَّةِ التَّرْكِيبِ وَاعْتِبَارِ خَصَائِصِ الْمَادَّةِ الْمُرَكَّبِ مِنْهَا بَعْدَ التَّرْكِيبِ ، بِحَسَبِ مَقْصِدِ الْخَالِقِ عِنْدَ التَّرْكِيبِ ، وَلَا عِبْرَةَ بِحَالَةِ الْمَادَّةِ الْمُجَرَّدَةِ ، فَاللَّهُ تَعَالَى رَكَّبَ إِبْلِيسَ مِنْ عُنْصُرِ النَّارِ عَلَى هَيْئَةٍ تَجْعَلُهُ يَسْتَخْدِمُ آثَارَ الْقُوَّةِ الْعُنْصُرِيَّةِ فِي الْفَسَادِ ، وَالِانْدِفَاعَ إِلَيْهِ بِالطَّبْعِ دُونَ نَظَرٍ ، بِحَسَبَ خَصَائِصِ الْمَادَّةِ الْمُرَكَّبِ هُوَ مِنْهَا ، وَرَكَّبَ
آدَمَ مِنْ عُنْصُرِ التُّرَابِ عَلَى هَيْئَةٍ تَجْعَلُهُ يَسْتَخْدِمُ آثَارَ الْقُوَّةِ الْعُنْصُرِيَّةِ فِي الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ ، وَالِانْدِفَاعَ إِلَى ازْدِيَادِ الْكَمَالِ بِمَحْضِ الِاخْتِيَارِ وَالنَّظَرِ ، بِحَسَبِ مَا تَسْمَحُ بِهِ خَصَائِصُ الْمَادَّةِ الْمُرَكَّبِ هُوَ مِنْهَا ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَنُوطٌ بِحِكْمَةِ الْخَالِقِ لِلتَّرْكِيبِ ، وَرَكَّبَ الْمَلَائِكَةَ مِنْ عُنْصُرِ النُّورِ عَلَى هَيْئَةٍ تَجْعَلُهُمْ يَسْتَخْدِمُونَ قُوَاهُمُ الْعُنْصُرِيَّةَ فِي الْخَيْرَاتِ الْمَحْضَةِ ، وَالِانْدِفَاعِ
[ ص: 43 ] إِلَى ذَلِكَ بِالطَّبْعِ دُونَ اخْتِيَارٍ وَلَا نَظَرٍ ، بِحَسَبِ خَصَائِصِ عُنْصُرِهِمْ . وَلِذَلِكَ كَانَ بُلُوغُ الْإِنْسَانِ إِلَى الْفَضَائِلِ الْمَلَكِيَّةِ أَعْلَى وَأَعْجَبَ ، وَكَانَ مَبْلَغُهُ إِلَى الرَّذَائِلِ الشَّيْطَانِيَّةِ أَحَطَّ وَأَسْهَلَ . وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ خُوطِبَ بِالتَّكْلِيفِ .
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ
لِآدَمَ أَصْلِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ لِأَنَّهُ سُجُودُ اعْتِرَافٍ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَظْهَرِ قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ ، وَأَمَرَ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ لَهُ كَذَلِكَ ، فَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَامْتَثَلُوا أَمْرَ اللَّهِ وَلَمْ يَعْلَمُوا حِكْمَتَهُ ، وَانْتَظَرُوا الْبَيَانَ ، كَمَا حَكَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=32قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ فَجَاءَهُمُ الْبَيَانُ مُجْمَلًا بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ثُمَّ مُفَصَّلًا بِقِصَّةِ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=31ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ إِلَى قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=33وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ . فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
وَقَدْ عَاقَبَهُ اللَّهُ عَلَى عِصْيَانِهِ بِإِخْرَاجِهِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ فِي اعْتِلَاءٍ وَهُوَ السَّمَاءُ . وَأَحَلَّ الْمَلَائِكَةَ فِيهِ . وَجَعَلَهُ مَكَانًا مُقَدَّسًا فَاضِلًا عَلَى الْأَرْضِ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِجَعْلٍ آلَهِيٍّ بِإِفَاضَةِ الْأَنْوَارِ وَمُلَازَمَةِ الْمَلَائِكَةِ ، فَقَالَ لَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=13فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا .
وَالتَّعْبِيرُ بِالْهُبُوطِ إِمَّا حَقِيقَةً إِنْ كَانَ الْمَكَانُ عَالِيًا ، وَإِمَّا اسْتِعَارَةً لِلْبُعْدِ عَنِ الْمَكَانِ الْمُشَرَّفِ . بِتَشْبِيهِ الْبُعْدِ عَنْهُ بِالنُّزُولِ مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
وَالْفَاءُ فِي جُمْلَةِ : فَاهْبِطْ لِتَرْتِيبِ الْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ عَلَى جَوَابِ إِبْلِيسَ ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ كَلَامِ مُتَكَلِّمٍ عَلَى كَلَامِ مُتَكَلِّمٍ آخَرَ ، لِأَنَّ الْكَلَامَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ الْوَاحِدِ فِي مَقَامِ الْمُحَاوَرَةِ ، كَالْعَطْفِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=124قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي .
وَالْفَاءُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ بِالْهُبُوطِ مُسَبَّبٌ عَنْ جَوَابِهِ .
وَضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ الْمَجْرُورِ بِمِنْ فِي قَوْلِهِ : مِنْهَا عَائِدٌ عَلَى الْمَعْلُومِ بَيْنَ
[ ص: 44 ] الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ ، وَتَأْنِيثُهُ إِمَّا رَعْيٌ لِمَعْنَاهُ بِتَأْوِيلِ الْبُقْعَةِ ، أَوْ لِلَفْظِ السَّمَاءِ لِأَنَّهَا مَكَانُ الْمَلَائِكَةِ ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ هَذَا الضَّمِيرِ بِالتَّأْنِيثِ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=13فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا الْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالتَّفْرِيعِ تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ ، وَهُوَ عُقُوبَةٌ خَاصَّةٌ عُقُوبَةُ إِبْعَادٍ عَنِ الْمَكَانِ الْمُقَدَّسِ ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ خُلُقُهُ غَيْرَ مُلَائِمٍ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْمَكَانَ لَهُ ، وَذَلِكَ خُلُقُ التَّكَبُّرِ لِأَنَّ الْمَكَانَ كَانَ مَكَانًا مُقَدَّسًا فَاضِلًا لَا يَكُونُ إِلَّا مُطَهَّرًا مِنْ كُلِّ مَا لَهُ وَصْفٌ يُنَافِيهِ وَهَذَا مَبْدَأٌ حَاوَلَهُ الْحُكَمَاءُ الْبَاحِثُونَ عَنِ الْمَدِينَةِ الْفَاضِلَةِ وَقَدْ قَالَ
مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تُحْدِثُوا بِدْعَةً فِي بَلَدِنَا . وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي ثُبُوتِ الْحَقِّ لِأَهْلِ الْمَحَلَّةِ أَنْ يُخْرِجُوا مِنْ مَحَلَّتِهِمْ مَنْ يُخْشَى مِنْ سِيرَتِهِ فُشُوُّ الْفَسَادِ بَيْنَهُمْ .
وَدَلَّ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=13فَمَا يَكُونُ لَكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ لَا يُغْتَفَرُ مِنْهُ ، لِأَنَّ النَّفْيَ بِصِيغَةِ مَا يَكُونُ لَكَ كَذَا أَشَدُّ مِنَ النَّفْيِ بِـ ( لَيْسَ لَكَ كَذَا ) كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=79مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ الْآيَةَ فِي آلِ عِمْرَانَ ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ هُنَا نَهْيًا لِأَنَّهُ نَفَاهُ عَنْهُ مَعَ وُقُوعِهِ ، وَعَلَيْهِ فَتَقْيِيدُ نَفْيِ التَّكَبُّرِ عَنْهُ بِالْكَوْنِ فِي السَّمَاءِ لِوُقُوعِهِ عِلَّةً لِلْعُقُوبَةِ الْخَاصَّةِ وَهِيَ عُقُوبَةُ الطَّرْدِ مِنَ السَّمَاءِ ، فَلَا دَلَالَةَ لِذَلِكَ الْقَيْدِ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَكَبَّرَ فِي غَيْرِهَا ، وَكَيْفَ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ التَّكَبُّرَ مَعْصِيَةٌ لَا تَلِيقُ بِأَهْلِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ .
وَقَوْلُهُ : " فَأَخْرَجَ " تَأْكِيدٌ لِجُمْلَةِ " فَاهْبِطْ " بِمُرَادِفِهَا ، وَأُعِيدَتِ الْفَاءُ مَعَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِزِيَادَةِ تَأْكِيدِ تَسَبُّبِ الْكِبْرِ فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ .
وَجُمْلَةُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=13إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا ، إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْخَبَرِ الْإِخْبَارَ عَنْ تَكْوِينِ الصِّغَارِ فِيهِ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ صَاغِرًا حَقِيرًا حَيْثُمَا حَلَّ ، فَفَصْلُهَا عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِلِاسْتِئْنَافِ ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَاقِعَةً مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلْإِخْرَاجِ عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ إِنَّ فِي مِثْلِ هَذَا
[ ص: 45 ] الْمَقَامِ اسْتِعْمَالَ فَاءِ التَّعْلِيلِ ، فَهَذَا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْخَبَرِ إِظْهَارَ مَا فِيهِ مِنَ الصَّغَارِ وَالْحَقَارَةِ الَّتِي غَفَلَ عَنْهَا فَذَهَبَتْ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْهَا إِلَى التَّكَبُّرِ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=13إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ أَشَدُّ فِي إِثْبَاتِ الصَّغَارِ لَهُ مِنْ نَحْوِ : إِنَّكَ صَاغِرٌ ، أَوْ قَدْ صَغُرْتَ ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=56قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ . فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَقَوْلِهِ آنِفًا :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ . وَالصَّاغِرُ الْمُتَّصِفُ بِالصَّغَارِ وَهُوَ الذُّلُّ وَالْحَقَارَةُ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ الصَّغَارُ عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّ جِبِلَّتَهُ صَارَتْ عَلَى غَيْرِ مَا يُرْضِي اللَّهَ ، وَهُوَ صَغَارُ الْغَوَايَةِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ هَذَا : فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي .