الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين

جاوبوا هودا بما أنبأ عن ضياع حجته في جنب ضلالة عقولهم ومكابرة نفوسهم ، ولذلك أعادوا تكذيبه بطريق الاستفهام الإنكاري على دعوته للتوحيد ، وهذا الجواب أقل جفوة وغلظة من جوابهم الأول ، إذ قالوا إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين كأنهم راموا استنزال نفس هود ومحاولة إرجاعه عما دعاهم إليه ، فلذلك اقتصروا على الإنكار وذكروه بأن الأمر الذي أنكره هو دين آباء الجميع تعريضا بأنه سفه آباءه ، وهذا المقصد هو الذي اقتضى التعبير عن دينهم بطريق الموصولية في قولهم ما كان يعبد آباؤنا إيماء إلى وجه الإنكار عليه وإلى أنه حقيق بمتابعة دين آبائه ، كما قال الملأ من قريش لأبي طالب حين [ ص: 208 ] دعاه النبيء - صلى الله عليه وسلم - أن يقول : " لا إله إلا الله " عند احتضاره فقالوا لأبي طالب أترغب عن ملة عبد المطلب .

واجتلاب ( كان ) لتدل على أن عبادتهم أمر قديم مضت عليه العصور .

والتعبير بالفعل وكونه مضارعا في قوله يعبد ليدل على أن ذلك متكرر من آبائهم ومتجدد وأنهم لا يفترون عنه .

ومعنى أجئتنا أقصدت واهتممت بنا لنعبد الله وحده فاستعير فعل المجيء لمعنى الاهتمام والتحفز والتصلب ، كقول العرب : ذهب يفعل ، وفي القرآن يا أيها المدثر قم فأنذر وقال حكاية عن فرعون ثم أدبر يسعى فحشر فنادى وفرعون لم يفارق مجلس ملكه وإنما أريد أنه أعرض واهتم ومثله قولهم ذهب يفعل كذا قال النبهاني : فإن

كنت سيدنـا سـدتـنـا وإن كنت للخال فاذهب فخل

فقصدوا مما دل عليه فعل المجيء زيادة الإنكار عليه وتسفيهه على اهتمامه بأمر مثل ما دعاهم إليه .

و وحده حال من اسم الجلالة وهو اسم مصدر أوحده : إذا اعتقده واحدا ، فقياس المصدر الإيحاد ، وانتصب هذا المصدر على الحال : إما من اسم الجلالة بتأويل المصدر باسم المفعول عند الجمهور أي موحدا أي محكوما له بالوحدانية ، وقال يونس : هو بمعنى اسم الفاعل أي موحدين له فهو حال من الضمير في لنعبد .

وتقدم معنى : ونذر عند قوله تعالى : وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا في سورة الأنعام .

والفاء في قوله فأتنا بما تعدنا لتفريع طلب تحقيق ما توعدهم به ، وتحديا لهود ، وإشعارا له بأنهم موقنون بأن لا صدق للوعيد الذي يتوعدهم [ ص: 209 ] فلا يخشون ما وعدهم به من العذاب . فالأمر في قولهم فأتنا للتعجيز .

والإتيان بالشيء حقيقته أن يجيء مصاحبا إياه ، ويستعمل مجازا في الإحضار والإثبات كما هنا . والمعنى فعجل لنا ما تعدنا به من العذاب ، أو فحقق لنا ما زعمت من وعيدنا . ونظيره الفعل المشتق من المجيء مثل : ( ما جئتنا ببينة - الآن جئت بالحق ) .

وأسندوا الفعل إلى ضميره تعريضا بأن ما توعدهم به هو شيء من مختلقاته وليس من قبل الله تعالى ، لأنهم يزعمون أن الله لا يحب منهم الإقلاع عن عبادة آلهتهم ، لأنه لا تتعلق إرادته بطلب الضلال في زعمهم .

والوعد الذي أرادوه وعد بالشر ، وهو الوعيد ، ولم يتقدم ما يفيد أنه توعدهم بسوء ، فيحتمل أن يكون وعيدا ضمنيا تضمنه قوله : أفلا تتقون لأن إنكاره عليهم انتفاء الاتقاء دليل على أن ثمة ما يحذر منه ، ولأجل ذلك لم يعينوا وعيدا في كلامهم بل أبهموه بقولهم بما تعدنا ، ويحتمل أن يكون الوعيد تعريضا من قوله : إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح المؤذن بأن الله استأصل قوم نوح وأخلفهم بعاد ، فيوشك أن يستأصل عادا ويخلفهم بغيرهم .

وعقبوا كلامهم بالشرط فقالوا : إن كنت من الصادقين استقصاء لمقدرته قصدا منهم لإظهار عجزه عن الإتيان بالعذاب فلا يسعه إلا الاعتراف بأنه كاذب ، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله تقديره : أتيت به وإلا فلست بصادق .

فأجابهم بأن أخبرهم بأن الله قد غضب عليهم ، وأنهم وقع عليهم رجس من الله .

والأظهر أن : وقع معناه حق وثبت ، من قولهم للأمر المحقق : هذا واقع ، وقولهم للأمر المكذوب : هذا غير واقع فالمعنى حق وقدر [ ص: 210 ] عليكم رجس وغضب . فالرجس هو الشيء الخبيث ، أطلق هنا مجازا على خبث الباطن ، أي فساد النفس كما في قوله تعالى : فزادتهم رجسا إلى رجسهم وقوله كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون . والمعنى : أصاب الله نفوسهم بالفساد لكفرهم فلا يقبلون الخير ولا يصيرون إليه ، وعن ابن عباس أنه فسر الرجس هنا باللعنة ، والجمهور فسروا الرجس هنا بالعذاب ، فيكون فعل وقع من استعمال صيغة المضي في معنى الاستقبال ، إشعارا بتحقيق وقوعه ؟ ومنهم من فسر الرجس بالسخط ، وفسر الغضب بالعذاب ، على أنه مجاز مرسل لأن العذاب أثر الغضب ، وقد أخبر هود بذلك عن علم بوحي في ذلك الوقت أو من حين أرسله الله ، إذ أعلمه بأنهم إن لم يرجعوا عن الشرك بعد أن يبلغهم الحجة فإن عدم رجوعهم علامة على أن خبث قلوبهم متمكن لا يزول ، ولا يرجى منهم إيمان ، كما قال الله لنوح : لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن .

وغضب الله تقديره : الإبعاد والعقوبة والتحقير ، وهي آثار الغضب في الحوادث ، لأن حقيقة الغضب : انفعال تنشأ عنه كراهية المغضوب عليه وإبعاده وإضراره .

وتأخير الغضب عن الرجس لأن الرجس ، وهو خبث نفوسهم ، قد دل على أن الله فطرهم على خبث بحيث كان استمرارهم على الضلال أمرا جبليا ، فدل ذلك على أن الله غضب عليهم . فوقوع الرجس والغضب عليهم حاصل في الزمن الماضي بالنسبة لوقت قول هود . واقترانه بقد للدلالة على تقريب زمن الماضي من الحال : مثل قد قامت الصلاة .

وتقديم : عليكم من ربكم على فاعل الفعل للاهتمام بتعجيل ذكر المغضوب والغاضب ، إيقاظا لبصائرهم لعلهم يبادرون بالتوبة ، ولأن المجرورين متعلقان بالفعل فناسب إيلاؤهما إياه ، ولو ذكرا بعد الفاعل [ ص: 211 ] لتوهم أنهما صفتان له . وقدم المجرور الذي هو ضميرهم ، على الذي هو وصف ربهم لأنهم المقصود الأول بالفعل .

ولما قدم إنذارهم بغضب الله عاد إلى الاحتجاج عليهم بفساد معتقدهم فأنكر عليهم أن يجادلوا في شأن أصنامهم .

والمجادلة : المحاجة .

وعبر عن الأصنام بأنها أسماء ، أي هي مجرد أسماء ليست لها الحقائق التي اعتقدوها ووضعوا لها الأسماء لأجل استحضارها ، فبذلك كانت تلك الأسماء الموضوعة مجرد ألفاظ ، لانتفاء الحقائق التي وضعوا الأسماء لأجلها . فإن الأسماء توضع للمسميات المقصودة من التسمية ، وهم إنما وضعوا لها الأسماء واهتموا بها باعتبار كون الإلهية جزءا من المسمى الموضوع له الاسم ، وهو الداعي إلى التسمية ، فمعاني الإلهية وما يتبعها ملاحظة لمن وضع تلك الأسماء ، فلما كانت المعاني المقصودة من تلك الأسماء منتفية كانت الأسماء لا مسميات لها بذلك الاعتبار ، سواء في ذلك ما كان منها له ذوات وأجسام كالتماثيل والأنصاب ، وما لم تكن له ذات ، فلعل بعض آلهة عاد كان مجرد اسم يذكرونه بالإلهية ولا يجعلون له تمثالا ولا نصبا ، مثل ما كانت العزى عند العرب ، فقد قيل : إنهم جعلوا لها بيتا ولم يجعلوا لها نصبا ، وقد قال الله تعالى في ذلك : إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان .

وذكر أهل الأخبار أن عادا اتخذوا أصناما ثلاثة وهي صمود بفتح الصاد المهملة بوزن زبور .

وصداء بضم الصاد المهملة مضبوطا بخط الهمذاني محشي الكشاف في نسخة من حاشيته المسماة توضيح المشكلات ومنسوخة بخطه ، وبدال مهملة بعدها ألف ولم أقف على ضبط الدال بالتشديد أو بالتخفيف : [ ص: 212 ] وقد رأيت في نسخة من الكشاف مخطوطة موضوعا على الدال علامة شد ، ولست على تمام الثقة بصحة النسخة ، وبعد الألف همزة كما هو في نسخ الكشاف وتفسير البغوي ، وكذلك هو في أبيات موضوعة في قصة قوم عاد في كتب القصص . ووقع في نسخة تفسير ابن عطية وفي مروج الذهب للمسعودي ، وفي نسخة من شرح ابن بدرون على قصيدة ابن عبدون الأندلسي بدون همزة بعد الألف .

و الهباء بالمد في آخره مضبوطا بخط الهمذاني في نسخة حاشيته على الكشاف ، وفي نسخة الكشاف المطبوعة ، وفي تفسيري البغوي والخازن ، وفي الأبيات المذكورة آنفا . ووقع في نسخة قلمية من الكشاف بألف دون مد . ولم أقف على ضبط الهاء ، ولم أر ذكر صداء والهباء فيما رأيت من كتب اللغة .

وعطف على ضمير المخاطبين : وآباؤكم لأن من آبائهم من وضع لهم تلك الأسماء ، فالواضعون وضعوا وسموا ، والمقلدون سموا ولم يضعوا ، واشترك الفريقان في أنهم يذكرون أسماء لا مسميات لها .

و سميتموها معناه : ذكرتموها بألسنتكم ، كما يقال : سم الله ، أي اذكر اسمه ، فيكون سمى بمعنى ذكر لفظ الاسم ، والألفاظ كلها أسماء لمدلولاتها ، وأصل اللغة أسماء قال تعالى : وعلم آدم الأسماء كلها ، وقال لبيد :

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

أي لفظه .

وليس المراد من التسمية في الآية وضع الاسم للمسمى ، كما يقال : سميت ولدي كذا ، لأن المخاطبين وكثيرا من آبائهم لا حظ لهم في تسمية الأصنام ، وإنما ذلك من فعل بعض الآباء وهم الذين انتحلوا الشرك واتخذوه دينا وعلموه أبناءهم وقومهم ، ولأجل هذا المعنى المقصود من التسمية لم يذكر لفعل : سميتم مفعول ثان ولا متعلق ، بل اقتصر على مفعول واحد .

[ ص: 213 ] والسلطان : الحجة التي يصدق بها المخالف ، سميت سلطانا لأنها تتسلط على نفس المعارض وتقنعه ، ونفى أن تكون الحجة منزلة من الله لأن شأن الحجة في مثل هذا أن يكون مخبرا بها من جانب الله تعالى ، لأن أمور الغيب مما استأثر الله بعلمه . وأعظم المغيبات ثبوت الإلهية لأنه قد يقصر العمل عن إدراكها فمن شأنها أن تتلقى من قبل الوحي الإلهي .

والفاء في قوله : فانظروا لتفريع هذا الإنذار والتهديد السابق ، لأن وقوع الغضب والرجس عليهم ، ومكابرتهم واحتجاجهم لما لا حجة له ، ينشأ عن ذلك التهديد بانتظار العذاب .

وصيغة الأمر للتهديد مثل : اعملوا ما شئتم ، والانتظار افتعال من النظر بمعنى الترقب ، كأن المخاطب أمر بالترقب فارتقب .

ومفعول : انتظروا محذوف دل عليه قوله : رجس وغضب أي فانتظروا عقابا .

وقوله : إني معكم من المنتظرين استئناف بياني لأن تهديده إياهم يثير سؤالا في نفوسهم أن يقولوا : إذا كنا ننتظر العذاب فماذا يكون حالك ، فبين أنه ينتظر معهم ، وهذا مقام أدب مع الله تعالى كقوله تعالى تلقينا لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم فهود يخاف أن يشمله العذاب النازل بقومه وذلك جائز كما في الحديث : أن أم سلمة قالت : " أنهلك وفينا الصالحون " قال : نعم إذا كثر الخبث . وفي الحديث الآخر : ثم يحشرون على نياتهم ويجوز أن ينزل بهم العذاب ويراه هود ولكنه لا يصيبه ، وقد روي ذلك في قصته ، ويجوز أن يبعده الله وقد روي أيضا في قصته بأن يأمره بمبارحة ديار قومه قبل نزول العذاب :

التالي السابق


الخدمات العلمية